33/02/06


تحمیل
 (بحث يوم السبت 6 صفر الخير 1433 ه 52)
 الدليل الخامس

[1] :

الإجماع المدّعى من قبل جماعة كالسيد في الانتصار والشيخ في الخلاف وابن زهرة في الغنية وغيرهم على جواز أن يستند القاضي إلى علمه مطلقاً [2] .
 ونوقش فيه باحتمال كونه مدركياً ، ومجرّد الاحتمال يكفي في المنع من الاستدلال فإنه لا يبعد استناد هؤلاء المجمعين إلى أحد الوجوه المتقدّمة أو الآتية وخصوصاً الروايات التي سيأتي الحديث عنها فمن المحتمل أنهم فهموا منها جواز استناد الحاكم في حكمه إلى علمه .
 الدليل السادس :

عدد من الروايات التي يُدّعى أن المفهوم منها جواز أن يحكم القاضي بعلمه بل قد يُدّعى أنه يُستفاد منها ما هو أكثر من ذلك وهو ذمّ القاضي الذي لا يستند إلى علمه ويطالِب بوسيلة من وسائل الإثبات القضائي المعروفة من قبيل البيّنة وأمثالها ، وهي كما يأتي :
 الرواية الأولى :

ما رواه الشيخ الصدوق (قده) في الفقيه بسنده الصحيح عن الإمام الباقر (عليه السلام) عن قضايا أمير المؤمنين (عليه السلام) وقد ذكر الصدوق في مشيخة الفقيه طريقه إليها [3] قائلاً : " وما كان فيه متفرّقاً من قضايا أمير المؤمنين (عليه السلام) فقد رويته عن أبي ، ومحمد بن الحسن [4] رضي الله عنهما عن سعد بن عبد الله [5] ، عن إبراهيم بن هاشم ، عن عبد الرحمن ابن أبي نجران ، عن عاصم بن حميد ، عن محمد بن قيس ، عن أبي جعفر (عليه السلام) " [6] .
 ومحمد بن قيس الوارد في السند هو محمد بن قيس البجلي الثقة العين الذي يروي عن الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام) ، وقد ذُكر في ترجمته أن له كتاب القضايا وفُسّر بأن المقصود به قضايا أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث رواها عن الإمام الباقر (عليه السلام) وجمعها في كتاب رواه عنه جماعة منهم عاصم بن حميد وهو ثقة أيضاً وكذا بقية رجال السند فيكون طريق الشيخ حينئذ صحيحاً فتكون الرواية على هذا معتبرة سنداً ، وقد رُويت بطرق أخرى أيضاً ، وهذا نَصّها :
 " جاء أعرابي إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فادّعى عليه سبعين درهماً ثمن ناقة باعها منه ، فقال : قد أوفيتك ، فقال : اجعل بيني وبينك رجلاً يحكم بيننا فأقبل رجل من قريش فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : احكم بيننا فقال للأعرابي ما تدّعي على رسول الله ؟ قال : سبعين درهماً ثمن ناقة بعتها منه ، فقال : ما تقول يا رسول الله ؟ قال : قد أوفيته ، فقال للأعرابي : ما تقول ؟ قال : لم يُوفني فقال لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ألك بيّنة على أنك قد أوفيته ؟ قال : لا ، قال للأعرابي : أتحلف أنك لم تستوف حقّك وتأخذه ؟ فقال : نعم ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأتحاكمنّ مع هذا إلى رجل يحكم بيننا بحكم الله عزّ وجل ، فأتى رسولَ الله (صلى الله عليه وآله) عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام) ومعه الأعرابي فقال علي (عليه السلام) مالك يا رسول الله ؟ قال : يا أبا الحسن أحكم بيني وبين هذا الاعرابي ، فقال علي (عليه السلام) : يا أعرابي ما تدّعي على رسول الله ؟ قال : سبعين درهماً ثمن ناقة بعتها منه ، فقال : ما تقول يا رسول الله ؟ قال : قد أوفيته ثمنها ، فقال : يا أعرابي أصدق رسول الله (صلى الله عليه وآله) في ما قال ؟ قال : لا ، ما أوفاني شيئاً ، فأخرج علي (عليه السلام) سيفه فضرب عنقه فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : لِمَ فعلتَ يا عليّ ذلك ؟ فقال : يا رسول الله (صلى الله عليه وآله) نحن نصدّقك على أمر الله ونهيه ، وعلى أمر الجنة والنار ، والثواب والعقاب ، ووحي الله عزّ وجل ، ولا نصدّقك على ثمن ناقة الأعرابي ، وإني قتلته ، لأنه كذّبك لمّا قلتُ له : أصدق رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فقال : لا ما أوفاني شيئاً ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : أصبت يا علي ، فلا تعد إلى مثلها ، ثم التفت إلى القرشي ، وكان قد تبعه ، فقال : هذا حكم الله لا ما حكمت به " [7] .
 الرواية الثانية :

صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج التي يرويها الشيخ الكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن عبد الرحمن بن الحجاج ، وهذا نَصّها :
 " قال : دخل الحكم بن عتيبة وسلمة بن كهيل على أبي جعفر (عليه السلام) فسألاه عن شاهد ويمين ، فقال : قضى به رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وقضى به علي (عليه السلام) عندكم بالكوفة ، فقالا : هذا خلاف القرآن ، فقال : وأين وجدتموه خلاف القرآن ؟ قالا : إن الله يقول : (وأشهدوا ذوي عدل منكم) فقال : قول الله : (وأشهدوا ذوي عدل منكم) هو لا تقبلوا شهادة واحد ويمينا ، ثم قال : إن عليا (عليه السلام) كان قاعدا في مسجد الكوفة ، فمرّ به عبد الله بن قفل التميمي ومعه درع طلحة ، فقال له علي (عليه السلام) : هذه درع طلحة أُخذت غلولاً يوم البصرة [8] ، فقال له عبد الله بن قفل : اجعل بيني وبينك قاضيك الذي رضيته للمسلمين فجعل بينه وبينه شريحاً ، فقال علي (عليه السلام) : هذه درع طلحة أُخذت غلولاً يوم البصرة ، فقال له شريح : هات على ما تقول بينة ، فأتاه بالحسن [عليه السلام] ، فشهد أنها درع طلحة أُخذت غلولاً يوم البصرة ، فقال شريح : هذا شاهد واحد ولا أقضي بشهادة شاهد حتى يكون معه آخر ، فدعا قنبر فشهد أنها درع طلحة أُخذت غلولاً يوم البصرة ، فقال شريح : هذا مملوك ، ولا أقضي بشهادة مملوك ، قال : فغضب عليّ (عليه السلام) وقال : خُذها فإن هذا قضى بجور ثلاث مرات ، قال : فتحوّل شريح وقال : لا أقضي بين اثنين حتى تخبرني من أين قضيت بجور ثلاث مرات ؟ فقال له : ويلك - أو ويحك - إني لما أخبرتك أنها درع طلحة أُخذت غلولاً يوم البصرة فقلت : هات على ما تقول بينة ، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : حيث ما وُجد غلول أُخذ بغير بيّنة [9] فقلت : رجل لم يسمع الحديث فهذه واحدة ، ثم أتيتك بالحسن فشهد فقلت : هذا واحد ولا أقضي بشهادة واحد حتى يكون معه آخر ، وقد قضى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بشهادة واحد ويمين ، فهذه ثنتان ، ثم أتيتك بقنبر فشهد أنها درع طلحة أُخذت غلولاً يوم البصرة ، فقلت : هذا مملوك ولا أقضي بشهادة مملوك وما بأسٌ بشهادة المملوك إذا كان عدلاً ، ثم قال : ويلك - أو ويحك - إن إمام المسلمين يُؤمَن من أمورهم على ما هو أعظم من هذا " [10] .
 هذه الرواية قد يُستشكل في سندها من جهة أن عبد الرحمن بن الحجاج لا يمكن أن يروي عن الإمام الباقر (عليه السلام) لأنه لم يدرك زمانه (عليه السلام) فلا بد أن تكون روايته مع الواسطة .. ولكن هذا ليس بمهم لأن الشيخ الصدوق يروي الرواية نفسها في الفقيه بسنده السابق [11] ولا إشكال في أن محمد بن قيس الراوي المباشر - قد عاصر الإمام الباقر (عليه السلام) وروى عنه فالرواية تكون على هذا الطريق معتبرة .
 الرواية الثالثة :

رواية ليست موجودة في الوسائل لكنها مذكورة في كتب الاستدلال حيث أشار إليها السيد في الانتصار وهي تتحدث عن قضية فدك وإنكار أمير المؤمنين (عليه السلام) على أبي بكر مطالبته الصدّيقة الزهراء (عليها السلام) بالبيّنة على صدق دعواها مع دخولها في آية التطهير حيث يُستفاد من هذه الاية عصمتها ومع كونها معصومة فلا معنى لمطالبتها بالبيّنة [12]
  [13] .
 ففي هذه الروايات وأشباهها يُدّعى أنه يُستفاد منها جواز أن يحكم الحاكم بعلمه بل يُستفاد منها - كما أشرنا - ردع القاضي الذي يطالب بالبيّنة مع علمه بالواقعة .
 وأقول : يمكن المناقشة في دلالة هذه الروايات على ما ادُّعي بأن الاحتياج إلى البيّنة واليمين والى القضاء بشكل عام إنما يكون في حالة التحيّر والتردّد فيتوسّل القاضي بوسائل الإثبات المعروفة في باب القضاء إلى رفع الحيرة وكشف الواقع ظاهراً بتلك الوسائل ، وأما مع وجود ما يدلّ على صحة الدعوى أو بطلانها من الأدلة القطعية فلا معنى للقضاء حينئذ بل يلغو الحكم على طبق البيّنة وأمثالها فإن الدليل إذا فُرض كونه قطعياً يكون حينئذ مسلّم الدلالة عند الجميع بما في ذلك المدعي والمنكر والشهود فلسان هذه الروايات ينطق بعدم الحاجة إلى البيّنة مع وجود ما يدل على صحة الدعوى أو بطلانها بشكل قطعي ففي الرواية الأولى كان هذا الدليل هو عصمة النبي (صلى الله عليه وآله) الذي يُصدَّق على وحي الله وأمره ونهيه فتصديقه في أمر يسير كإيفائه ثمن ما اشتراه يكون من باب أولى ، وكذا في الرواية الثانية فإن إمام المسلمين المعصوم من الزلل والمؤتمن على كل عظيم وجَلَل كيف لا يُصدّق في دعواه أن تلك الدرع قد أُخذت غلولاً مع ما ورد من النصّ عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) أنه حيث ما وُجد غلول أُخذ بغير بيّنة ، وكذا في الرواية الثالثة فإن شهادة أهل بيت العصمة ودعوى سيدة النساء (عليها السلام) المعصومة بنصّ آية التطهير تكون دليلاً قطعياً على صحة دعواها ومعه فلا معنى للمطالبة بالبيّنة .
 ولكن هذا الأمر مع تماميته في نفسه إلا أنه أجنبي عمّا نحن فيه فإن كلامنا في جواز أن يستند الحاكم إلى علمه الشخصي الذي لا يكون حجة إلا عليه مع تردّد غيره في صحة ما يقوله ومطابقته للواقع والروايات المزبورة لا دلالة فيها على إثبات هذه القضية أو نفيها فلسان هذه الروايات يشير إلى أن الاستناد إلى الدليل القطعي المورث لليقين عند الجميع بصحة الدعوى أو بطلانها جائز ومعه لا معنى للرجوع إلى البيّنة وأين هذا من محلّ الكلام من جواز استناد القاضي في الحكم إلى علمه الشخصي الذي لا يورث اليقين لغيره .
 الدليل السابع :

رواية الحسين بن خالد التي يرويها الشيخ الكليني (قده) عن علي بن محمد ، عن محمد بن أحمد المحمودي ، عن أبيه ، عن يونس ، عن الحسين بن خالد ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) :
 " قال : سمعته يقول : الواجب على الإمام إذا نظر إلى رجل يزني أو يشرب الخمر أن يقيم عليه الحدّ ولا يحتاج إلى بيّنة مع نظره لأنه أمين الله في خلقه ، وإذا نظر إلى رجل يسرق أن يزبره وينهاه ويمضي ويدعه [14] ، قلت : وكيف ذلك ؟ قال : لأن الحق إذا كان لله [15] فالواجب على الإمام إقامته وإذا كان للناس فهو للناس " [16] .
 والكلام في هذه الرواية من جهة السند ومن جهة الدلالة :
 أما في حيث السند فأُشكل فيه من عدة جهات :
 الأولى :

رواية الشيخ الكليني عن علي بن محمد مباشرة .
 الثانية :

في حال محمد بن أحمد المحمودي .
 الثالثة : في حال أبيه - وهو أحمد المحمودي - .
 وأما بقية رجال السند فلا خدشة فيهم فإن يونس - وهو يونس بن عبد الرحمن - معروف الجلالة والوثاقة ، وكذا الحسين بن خالد فإنه ثقة منصوص على وثاقته .
 أما بالنسبة إلى الجهة الأولى فقد وقع الكلام في المقصود بعلي بن محمد الذي يروي عنه الشيخ الكليني في الكافي كثيراً فقد تردّد بين جماعةٍ ولكن نظر المحققين - وهو الراجح - أنه مع الإطلاق [17] ينصرف إلى شخص بعينه وهو علي بن محمد بن بندار الموثّق من قبل الشيخ النجاشي .
 وأما الجهتان الأخريان فسيأتي الكلام عنهما إن شاء الله تعالى .


[1] الذي ذُكر لكون علم القاضي وسيلة من وسائل الإثبات القضائي .
[2] أي في حقّ الله وحقّ الناس .
[3] أي إلى قضايا أمير المؤمنين (عليه السلام) .
[4] يعني ابن الوليد .
[5] وهو الأشعري .
[6] الفقيه مج4 ص527 .
[7] الفقيه مج3 ص106 ، الوسائل أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى الباب الثامن عشر الحديث الأول مج27 ص274 .
[8] يعني يوم الجمل ، والمراد بالغلول الخيانة فإن الغنيمة لا يجوز التصرّف فيها من قبل الغانمين إلى أن تُجمع وتُدفع للإمام (عليه السلام) وهو الذي يوزّع هذه الغنيمة عليهم فأخذها قبل ذلك يُعدّ خيانة .
[9] أي بمجرد ادّعاء أمير الجيش مثلاً او إمام المسلمين في وقته أن هذا غلول فيُؤخذ بغير بيّنة .
[10] الوسائل الباب الرابع عشر من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى الحديث السادس مج27 ص267 .
[11] أي عن محمد بن قيس .
[12] أقول : وجدت هذه الرواية في الوسائل ينقلها عن علي بن إبراهيم القمي الذي يذكرها بتمامها في تفسيره ويرويها عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن عثمان ابن عيسى ، وحماد بن عثمان ، جميعاً عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث فدك .. والسند صحيح ، وأنقل منها مورد الشاهد في المقام :
[13] " أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال لأبي بكر : أتحكم فينا بخلاف حكم الله في المسلمين ؟ قال : لا ، قال : فإن كان في يد المسلمين شيء يملكونه ادعيت أنا فيه من تسأل البينة ؟ قال : إياك كنت أسأل البينة على ما تدّعيه على المسلمين ، قال : فإذا كان في يدي شيء فادّعى فيه المسلمون تسألني البينة على ما في يدي وقد ملكته في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبعده ولم تسأل المؤمنين البينة على ما ادّعوا عليّ كما سألتني البينة على ما ادّعيت عليهم .. إلى أن قال : وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : البينة على من ادّعى واليمين على من أنكر .. إلى أن قال : فقال أمير المؤمنين عليه السلام يا أبا بكر تقرأ كتاب الله ؟ قال نعم قال فأخبرني عن قول الله تعالى إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا فيمن نزلت أفينا أم في غيرنا ؟ قال بل فيكم .. إلى آخر الرواية " تفسير القمي مج2 ص157 ، والوسائل مج27 ص293 .
[14] أي لا يقيم عليه الحدّ .
[15] كما في الزنا وشرب الخمر .
[16] التهذيب مج10 ص44 الوسائل الباب 32 من أبواب مقدّمات الحدود الحديث الثالث مج28 ص58 .
[17] أي ذكره بهذا العنوان (علي بن محمد) من غير إضافة من اسم جدّ أو لقب أو غير ذلك .