37/11/23


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

37/11/23

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- مسألة ( 20 ) حرمة السحر - المكاسب المحرمة.

ورب قائل يقول:- إنَّ تعلّم السحر لدفع السحر أوليس من المناسب التعرض إليه الآن ؟

قلت:- سوف نتعرّض إلى ذلك بعد أنّ ننهي هذه المسألة.

وأما بالنسبة إلى التكسّب بالسحر:- فالمناسب حرمته كما ذكر السيد الماتن ، والوجه في ذلك:- إنّ السحر بعدما كان حراماً فلا يمكن أن تكون الاجارة عليه - أي على فعل السحر - جائزة إما من باب ﴿ أوفوا بالعقود ﴾ أو ما شاكل ذلك فإنه كيف يجب الوفاء بالحرام ؟!! ، أو ﴿ أحلّ الله البيع ﴾ لو فرضنا أنّ المورد يمكن فرض البيع فيه كيف يشمله ؟! ، أو ﴿ تجارة عن تراض ﴾ كيف يمكن تطيق ذلك عليه ؟! ، إنّ هذا يعني امضاء الحرام والرضا بفعل الحرام وهذان لا يجتمعان - يعني فرض كون الشيء حراماً مع كونه يجب الوفاء به أو يرجّح أو يباح إنّ الحرمة لا تلتئم مع وجوب الوفاء أو الحلّية وما شاكل ذلك - ، وهذه قضية عامة نطبقها لا في خصوص السحر بل كلّ قضية محرّمة لا يمكن أن تكون الاجارة عليها - وغير الاجارة - أن تكون جائزة إذ جوازها يعني أنه يشملها قانون أوفوا بالعقود أو أحلّ الله لبيع أو تجارةٍ عن تراض أو ما شاكل ذلك وهذه لا يمكن تطبيقها فإنّ الحرام لا يحتمل أن يمضيه الشارع ويجوّز الوفاء به ، وهذ مطلبٌ ينبغي أن يكون واضحاً.

وهل يمكن التمسّك لإثبات عدم الجواز بقوله تعالى ﴿ ولا تأكلوا أموالك بينكم بالباطل ﴾ ؟ فنحن الآن أثبتنا أنه لا يمكن أن نقول الاجارة على السحر جائزة للتنافي بين حرمة الشيء وبين أوفوا وبين أحلّ وتجارة عن تراض فأدلّة الامضاء لا يمكن أن تشمل ذلك وهذا قد عرفناه ، ولكن الآن نريد أن نقول يوجد عندنا طريقٌ آخر لإثبات عدم الجواز وهو التمسّك فقوله تعالى ﴿ لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ﴾ فإنّ هذا أكلٌ للمال بالباطل ، فالشخص الذي يدفع المال للساحر لأجل أن يعمل له عملاً فهو قد دفع المال قابل الباطل والساحر حينما يقبل فأيضاً كذلك فعلى كليهما يصدق أكل المال بالباطل أو على أحدهما فإذا كان من ناحية الساحر لا يجوز فمن ناحية الشخص الآخر أيضاً لا يجوز لعدم احتمال التفكيك من هذه الناحية ، فعلى هذا الأساس يمكن سلوك هذا الطريق وهو التمسّك بالنهي عن أكل المال بالباطل ، وواضحٌ أن هذا يتم بعد ضمّ ضميمة وهي أن يقال إنّ المراد بالأكل هو كناية عن التصرّف لا على الأكل الصوري الحقيقي والتكسّب فردٌ من أفراد التصرف وهو نحوٌ من التصرّف فيكون منهياً عنه بمقتضى الآية الكريمة.

والجواب:- هذا وجيه لو تمّ أمران:-

الأوّل:- أن نفسّر الباء بباء المقابلة ، يعني لا تأكلوا اموالكم بينكم مقابل الباطل ، فحينئذٍ نقول الساحر يأكل الأجرة مقابل الباطل لأنّ السحر حرام باطل ، فيثبت بذلك أنّ المعاملة حرام أو باطلة من ناحيته وإذا ثبت ذلك بعدم احتمال التفصيل بين الطرفين - أي بين الساحر وبين الشخص - يثبت في حقّ الشخص أيضاً ذلك ، فإذا فسّرنا الباء باء المقابلة فهذا له وجه ، وأما إذا فسّرناها بباء السببية يعنى لا تأكلوا أموالكم بينكم بالأسباب الباطلة كالسرقة والغصب والغش - أما البيع أو الاجارة فهذه أسباب صحيحة شرعيّة - فلا يمكن في مقامنا التمسّك بالآية الكريمة لأنّ الساحر يستحلّ الأجرة بالإجارة فهو مثل الطبيب فأنت تؤجره على أن يفحصك ، فإذن السبب هو الاجارة وهي من الأسباب المشروعة وليست من الأسباب غير المشروعة فلا يمكن التمسّك بالآية الكريمة.

فإذن إذا اردنا ان نتمسك بالآية الكريمة فلابد وأن نفسّر الباء بباء المقابلة ، وحيث إنّ الآية الكريمة تحتمل الأمرين لا على نحو الجمع - لا على نحو مانعة الخلو - لأنه لا يمكن قصد المعنيين فيحتمل أنّ الباء للمقابلة فيصحّ الاستدلال بها ويحتمل أنها للسببيّة فلا يصحّ الاستدلال بها ، وحيث إنّ الآية الكريمة مردّدة لينهما فلا يصحّ التمسّك بها.

الثاني:- أن نفسّر الباطل بالباطل ولو الشرعي ولا نخصّصه بالباطل العرفي ، فإذا فسرنا الباطل بالباطل الشرعي أمكن التمسّك بالآية بناءً على أنّّ الباء باء المقابلة لأنّ السحر حرام فهو باطل شرعاً ، أما إذا قلنا إنَّ المقصود هو الباطل العرفي فحينئذٍ قد يتوقّف بالتمسّك بالآية الكريمة لأنّ السحر وإن كان حراماً شرعاً إلا أنه ربما يقال إنه ليس من الباطل عرفاً ، نعم لو بني على أنّ السحر باطل عرفاً فهم يعدّونه باطل عرفاً مثل السرقة فإذا عُدَّ من الباطل العرفي فحينئذٍ يتمّ الاستدلال ، أما إذا قلنا إنَّ المقصود من الباطل هو الباطل العرفي وقلنا إنّ السحر لم يثبت أنه من الباطل - ولو على الأقل - عرفاً فلا يصحّ التمسّك بالآية الكريمة فإنه يصبح من قبيل التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية أو بالمطلق في مورد الشبهة المصداقية لأنّ هذا يشكّ أنه من الباطل أو لا وكفينا التردّد ، وسابقاً قلنا إنّ الظاهر كون المقصود من الباطل هو الباطل العرفي لأنّ الأحكام تتوجه إلى الموضوعات العرفية فما هو باطل عرفاً يحكم بعدم صحّة التجارة والأكل بلحاظه دون الموضوعات الشرعية فإنّ الأحكام الشرعية دائماً تنصبُّ على الموضوعات العرفية دون الموضوعات الشرعية ، ولا أقل من التردّد في أنّ المقصود هو الباطل الشرعي بالخصوص أو يعمّ بالباطل العرفي ويكفينا الشكّ لعدم جواز التمسّك بالآية الكريمة.

إذن التمسّك بالآية الكريمة يحتاج إلى البناء على أمرين الأوّل أنّ الباء هي باء المقابلة ، والثاني لو سلّمنا أنّ الباء للمقابلة فيلزم أن نفسّر الباطل بالباطل الشرعي ، أما إذا فسرناه بالباطل العرفي جزماً أو احتمالاً فلا يمكن التمسّك بها آنذاك.

وقبل أن ننهي حديثنا نودّ أن نشير إلى قضية:- وهي أنه بعد أن ثبت أن التكسّب بالسحر حرام إما للطريق الأوّل الذي أشرنا إليه أو بضمّ آية ﴿ لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ﴾ نسأل ونقول:- هل الحرمة الثابتة هي الحرمة الوضعية أو التكليفية أو هما معاً ؟

الجواب:- هما ثابتتان معاً.

أما الحرمة التكليفية:- فلما أشرنا إليه من أنّ السحر إذا كان حراماً فلا يحتمل أن تكون الاجارة عليه جائزة تكليفاً؛ إذ لو كانت جائزة فهذا نحو حثٍّ على الحرام ، فعلى هذا الأساس الاجارة على الحرام التكليفي ينبغي أن تكون حراماً تكليفاً ، كما لو آجر شخصاً على أن يسرق فهذا لا يحتمل جوازه.

وأما الحرمة الوضعية:- فلما أشرنا إليه من أنّ الحلّية الوضعية نستكشفها من ﴿ أحلّ الله البيع ﴾ أو ﴿ أوفوا بالعقود ﴾ أو ﴿ تجارةٍ عن تراض ﴾ ، وهذه الأدلة حيث أنها لا تشمل المورد لما أشرنا إليه ، فإذن الحلّية الوضعية لا تكون ثابتة أيضاً.

إذن كلتا الحلّيتين لا يمكن أن تكونان ثابتين.

النقطة الثانية:- ما هي حقيقة السحر ؟

والجواب:- تعرّض الشيخ الأعظم(قده) في المكاسب[1] إلى حقيقة السحر ونقل في هذا المجال كلمات اللغويين ، ثم نقل بعد ذلك كلمات الفقهاء ، ثم بعد ذلك نقل كلاماً مطّولاً للشيخ المجلسي(قده) في البحار حيث ذكر أقساماً ثمانية للسحر ، ثم جاءت النوبة إلى العلمين السيد الحكيم(قده) في منهاجه القديم والسيد الخوئي(قده) وقبلهما الحاج ميرزا علي الايرواني(قده) في حاشيته على المكاسب[2] حيث ذهب هؤلاء الأعلام الثلاثة إلى أنّ السحر ليس أمراً حقيقياً وإنما هو أمرٌ وهميٌّ ، فهو وهمٌ يغلب على الحواس ولكن تأثير هذا الوهم قد يكون تأثيراً حقيقياًً فإنّ الآثار الحقيقية تترتّب أحيانا على الأمور الوهمية ، فالساحر يوهم للطرف أنّ هذا المكان فيه بحرٌ مثلاًً وحينئذٍ يلبس الإنسان ملابس السباحة ويرمي بنفسه فإذا رمى بها فسوف يضرب رأسه بالأرض ويُجرح مثلاً وقد يموت ، إنّ هذا تأثيراً حقيقياً مترتّبٌ على الأمر الوهمي ، لذلك جاء في عبارة السيد الماتن:- ( والمراد منه ما يوجب الوقوع في الوهم بالغلبة على البصر أو السمع أو غيرهما ) . هذا ما أفاده الأعلام الثلاثة.

والمناسب هو التفصيل في هذا المجال وذلك بأن يقال:- إنّ بعض السحر وهميٌّ كما أفاد الأعلام ، وبعضه الآخر حقيقي وليس مجرّد وهم ، ومن الواضح أنّ هذا يحتاج إلى اثبات فالأعلام الثلاثة لم يذكروا اثباتاً بل ذكروا مجرّد ادّعاء ولعلّهم لا يحتاجون إلى إقامة الدليل لأنَّ الذي يدّعي أنه أمرٌ وهمي فلعلّه يقول إنّ هذا هو المطابق للأصل ، أما الذي يدّعي أنه يؤثّر تأثيراً حقيقياً فهو يحتاج إلى دليل ، فهم لم يذكروا دليلاً بل فقط ادعوا بأنه أمر وهمي ولكن نتائجه قد تكون تأثيرات حقيقية.

أما نحن فنريد أن نقول:- إنه أحياناً يكون أمراً حقيقياً وأخرى يكون أمراً وهمياً ، والمستند في ذلك كتاب الله عزّ وجلّ حيث يقول في قصة موسى عليه السلام حينما جاء السحرة فقالوا له:- ﴿ قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أوّل من القى قال بل القوا فإذا حبالهم عصيّهم يخيّل إليه من سحرهم أنهى تسعى ﴾ ن فالقرآن يعبّر ويقول ( يخيّل إليه ) فإذن السحر ليس حقيقة وعلى هذا الأساس يخيّل إليه ، فهنا يثبت أنّ شريحةً وقسماً من السحر هي مجرّد أمرٌ وهمي.

أما ما يدلّ على أنه قد يكون أمراً حقيقياً فقوله تعالى:- ﴿ وما يعلّمان من احدٍ حتى يقولا إنما نحن فتنةٌ فلا تكفر فيتعلّمون منهما ما يفرّقون به بين المرء وزجه ﴾ ، فإذن تحصل تفرقة حقيقة بين المرء وزوجه وليست وهمية ، فإذن الآيتان الكريمتان شاهدان على التفصيل الذي أشرنا إليه.

مضافاً إلى أنه ربما يقال:- أنه أحياناً نحن نرى تأثيرات واقعية ، يعني أنَّ الرجل يحبّ زوجته وفجأة يبغضها أو فجأةً لا يتمكّن أن يقترب منها وهذه قضية حقيقية ملموسة فهذا يدلّ على أنّ قضية السحر ليست قضية وهمية لأنّ هذا الرجل لم يذهب إلى الساحر وإنما صُنِع به هذا الشيء فحصل هذا الأمر له ، وهذا الشيء الذي حصل هو أمرٌ حقيقيٌّ لا أنه أمرٌ وهمي ، نعم لو كان هو يذهب إلى الساحر فقد يحرّك الساحر يده أو أشياء أخرى فيورث تخيّلات ، أما إذا كان الشخص بعيداً ولم يذهب إلى الساحر ولا غير ذلك ولكن فجأةً في يوم من الأيام أبغض زوجته أو غير ذلك وينقل الكثير من هذا الشيء ، فهذا الواقع الملموس هو أكبر شاهدٍ على أنّ قسماً من السحر له حقيقة.

وهل تقبل بهذا أو لم تقبله فالأمر إليك فإنه يوجد مجال لذلك ولكن تكفينا الآية الكريمة.


[2] الحاشية على المكاسب، الميرزا علي الايرواني، ج1، ص170.