32/11/26


تحمیل
  (بحث يوم الثلاثاء 26 ذ ق 1432 ه 28)
 تقدّم نقل بعض الكلمات عن الأصحاب ممّن ذهب إلى جواز نصب غير المجتهد للقضاء بشرائط معيّنة في حالات خاصّة .. وممن سلك سبيلهم في ذلك المقدّس الأردبيلي حيث قال بعد أن ذكر عدم الجواز : " وإلا مع فرض المصلحة بحيث لا يندفع المفسدة إلا به [1] فالظاهر الجواز من غير نزاعٍ كسائر الضروريات [2] " [3] .
 فتحصّل من مجموع ما نُقل من هذه الكلمات الاتفاق على وجود حاجة مُلحّة وضرورة مُلجئة إلى نصب القضاة مع التنازل عن بعض الشرائط وإن اختلفت عبائرهم من حيث عموم بعضها فلا تختصّ بشرط معيّن فتشمل الاجتهاد الذي هو محلّ الكلام بل إن استشهادهم لذلك في مسألة تولية القضاة في زمان المعصوم (عليه السلام) بتولية شريح القاضي وأمثاله يقتضي التنازل عن شرط آخر غير الاجتهاد وهو العدالة .
 وكيف كان فالكلام فعلاً في شرط الاجتهاد الذي هو أخفّ مؤنة من غيره من الشروط لأنه لم يدل دليل على شرطيته في القضاء وفصل الخصومة الذي استدللنا على اعتباره فيه بالاقتصار على القدر المتيقَّن في مخالفة الأصل وإنما دل الدليل عليه كما تقدّم في منصب القضاء الذي قلنا إنه يُحتمل لأهميته أن يُعتبر فيه ما لا يُعتبر في الأول [4] .
 إذاً .. هناك فرق بين الشروط من حيث دلالة الدليل على اعتبار بعضها واشتراطه في القضاء كالعدالة ، وعدم دلالته على اعتبار بعضها الآخر فتمّ الالتزام به من باب الاقتصار على القدر المتيقَّن في مخالفة الأصل كالاجتهاد .. وكلامنا في التنازل عن شرطية هذا الأخير وعباراتهم تشير إلى أن هناك حاجة لنصب قضاة وإن كانوا فاقدين لبعض الشرائط المعتبرة لعدم وجود العدد الكافي من القضاة الواجدين لتمام الشرائط بنحو ترتفع به الضرورة وتُسدّ به الحاجة ، وهذه القضية يمكن إدراكها وإثباتها إذا التفتنا إلى خصوصياتها .. ولتوضيحها نقول :
 إنه لا إشكال في ضرورة وجود قضاة يتولّون فصل الخصومات وحلّ النزاعات أو فقل ضرورة وجود سلطة قضائية تتولّى إدارة شؤون القضاء لأن عدم ذلك يؤدّي في الحقيقة إلى زيادة الخصومات والنزاعات بين الناس مما يترتّب عليه ما لا يُحمد عقباه من إراقة الدماء وانتهاك الأعراض واستباحة الأموال وبالجملة شيوع الظلم بين الناس وحكومة شريعة الغاب بينهم .. ومن هنا تنشأ الحاجة المُلحّة والضرورة المُلجئة إلى وجود قضاة يأخذون على عاتقهم فصل الخصومات وفضّ المنازعات ولا بد أن يكون عددهم متناسباً مع عدد السكّان وحجم الخصومات بينهم وإلا فلو لم يكن ثمة قضاة مؤهّلون تُسدّ بهم الحاجة وتُرفع بهم الضرورة أو وُجدوا ولكن بعدد قليل لا يفي بذلك ولا يمنع من وقوع المحاذير المتقدمة ودار الأمر بين الإصرار على اعتبار جميع الشرائط وما ينتج عنه من إلغاء تعيين القضاة غير المستجمعين لها أو فقل إلغاء السلطة القضائية في المجتمع وبين التنازل عن بعض هذه الشرائط في حالات الضرورة والحاجة فتقام سلطة قضائية في هذا المكان أو ذاك ويُعيّن القضاة حتى لا تقع الفوضى ويختلّ النظام فالظاهر [5] من كلمات فقهائنا (رض) الإشارة إلى أن العقل يحكم بلزوم الالتزام بالثاني أعني التنازل في حالات الضرورة عن بعض هذه الشرائط المعتبرة قطعاً بالدليل فضلاً عن مثل الاجتهاد الذي لم يدل دليل على اعتباره .
 وبعبارة أخرى : إن هناك أموراً لا ينبغي التشكيك فيها :
 أولها : حفظ النظام فإن العقل يُدرك ضرورته والشارع يهتمّ به ولا يرضى بتفويته .
 والثاني : توقّف حفظ النظام على جملة من الأمور منها وجود سلطة قضائية تتمثّل بالقضاة المعيّنين الذين يمنعون الظلم ويُحقّون الحقّ .
 والثالث - وهو المهمّ : أن ما يتوقف عليه حفظ النظام ليس هو تعيين القضاة وإقامة السلطة القضائية فحسب بل وإنفاذ أحكامهم على وجه تكون ملزمة للأطراف المتخاصمة والجهات المتنازعة وإلا فإن مجرد تعيين القضاة من دون ذلك لا يُجدي في رفع ما ذُكر من المحاذير الموجبة لاختلال النظام ، ومهمة الحاكم والوالي وإن كانت هي تعيين القضاة إلا أنه ليس من شأنه إنفاذ أحكامهم شرعاً وإنما الذي يتولّى ذلك هو الشارع المقدّس ويُستكشف ذلك منه بضمّ المقدمات الثلاثة المذكورة بعضها إلى بعض فإنه إذا كان حفظ النظام واجباً عقلاً وشرعاً وهو يتوقف على تعيين القضاة وأن هذا بمجرده لا يكون مُجدياً في ذلك بل لا بد من إنفاذ أحكامهم على وجه ملزم وأن هذا من شأن الشارع المقدّس يُستكشف من ذلك إنفاذه لها شرعاً .
 وعلى ذلك فلو لم ينحفظ النظام بتعيين القضاة الواجدين للشرائط لقلّتهم في كل الأزمنة وتوقّفَ على تعيين قضاة غير مستجمعين لتمام الشرائط وتولّى الحاكم تعيينهم فإن نفس هذا الأمر يدل على نفوذ حكمهم من قبل الشارع لأن حفظ النظام - الذي لا يرضى الشارع بالإخلال به - يتوقف على ذلك ، وأما إذا كان تعيين واجدي الشرائط جميعاً كافياً فلا تصل النوبة حينئذ إلى تعيين قضاة فاقدين لبعض الشرائط كما هو واضح .
 هذا .. ولكن ما تقدّم [6] مشروط بشرطين :
 الأول : أن تكون هناك ضرورة أو حاجة أو مصلحة على اختلاف عبائرهم في ذلك - لتعيين هؤلاء وإلا فلو فُرض أن النظام ينحفظ بدون تعيينهم فلا مجال حينئذ لهم .
 الثاني : إذن المجتهد لمن كان فاقداً لبعض الشرائط في تولّي القضاء ، وتخريجه أن الدليل الذي يُعتمد عليه في المقام دليل لبّي - وليس دليلاً لفظياً حتى يُتمسّك بإطلاقه - فيُقتصر فيه حينئذ على القدر المتيقَّن وهو نفوذ القضاء بعد أخذ إذن المجتهد .
 هذا ما يمكن أن يقال في هذه الجهة .
 الجهة الثالثة : إنه بعد الفراغ عن اشتراط الاجتهاد - في خصوص المنصب أو في الأعمّ منه ومن نفس القضاء وفصل الخصومة فهل الاجتهاد المعتبر هو الاجتهاد المطلق أم يكفي الاجتهاد المتجزّي ؟
 وللتجزّي في الاجتهاد معانٍ ثلاثة :
 الأول : التجزّي في مقدمات الاجتهاد .
 الثاني : التجزّي في نفس الاجتهاد باعتبار كونه ملكة .
 الثالث : التجزّي في إعمال ملكة الاجتهاد لاستنباط الأحكام الشرعية .
 أما فالأول : فلا ريب أنه قضية يمرّ بها كل من يسلك طريق الاجتهاد ويطوي المراحل إليه [7] ، وغيرُ خافٍ أن هذا ليس محل كلامنا فإن من الواضح أنه لا يجوز له أن يقضي بناءً على اعتبار الاجتهاد - لأنه في الطريق إلى الاجتهاد ولم يُصبح مجتهداً بعدُ فلا ينطبق عليه أنه نظر في حلالهم وحرامهم (عليهم السلام) وإنما معرفته لها كمعرفة أيّ عامي آخر وليست معرفة عن فكر وإعمال نظر لأنه لم يصل إلى مرتبة الاجتهاد ولم يحصل على ملكته وإن كان ثمة فرق بينه وبين غيره ممن لم يسلك هذا السبيل .
 وأما الثاني : فيتحقّق بافتراض كون الشخص مجتهداً في باب دون باب آخر كما لو كان ذا ملكة في باب المعاملات دون أن يكون كذلك في باب العبادات ؛ وهل يمكن فرض مثل هذا فعلاً أم لا ؟
 سيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى .
 


[1] أي بنصب العامي للقضاء .
[2] أي من حيث كونها تُبيح المحظورات .
[3] مجمع الفائدة والبرهان مج12 ص23 (مكتبة أهل البيت / القرص الليزري) ، وفيه بلفظ (يندفع) والأنسب بالتاء.
[4] أي تولّي القضاء في خصومة معيّنة جزئية .
[5] جواب قوله : (وإلا فلو لم يكن ثمة قضاة مؤهّلون ..) .
[6] أي من جواز تعيين فاقدي بعض الشرائط .
[7] وقد يُقال على المتلبّس بهذه المرحلة : المجتهد المتجزّي كما في بعض الإطلاقات . (منه دامت بركاته)