32/11/04


تحمیل
 كان الكلام في حكم أخذ الأجرة على القضاء وقلنا إن البحث فيه يقع في مقامين :
 الأول : بحسب مقتضى القاعدة والأسس التي أسّسناها في البحوث السابقة من ناحية كبروية .
 المقام الثاني : بحسب الأدلة الخاصة .
 وعقدنا البحث في المقام الأول وقلنا بأنهم ذكروا أن دليل وجوب القضاء يُستفاد منه المجانية فلا يجوز أخذ الأجرة عليه حينئذ وقلنا إن هذا يحتاج إلى توقف لأن المجانية المحتملة يمكن تصوّرها على أنحاء فتارة تفسّر بكونها قيداً في الواجب وأخرى تُفسّر بمعنى استحقاق الغير للعمل وثالثة تُفسّر بإلغاء المالية من قبل الشارع فتكون على حدّ الخمر .
 وقد ذكرنا في ما يتعلق بالاحتمال الأول أنه على الظاهر لا يؤثّر في حرمة أخذ الأجرة بالمعنى المبحوث عنه أي الحرمة الوضعية بمعنى عدم استحقاق الأجرة - .
 وأما الاحتمال الثاني وهو كون العمل مستحقاً للغير فالظاهر أيضاً أنه إنما يمنع من أخذ الأجرة من خصوص الشخص الذي استحقّ ذلك العمل وأما أخذ الأجرة من غيره مع أداء العمل فلا موجب للمنع عنه لأن كون العمل مستحقاً للغير لا يُفهم منه إلا لزوم أداء العمل مجاناً من ذلك الغير وأما أخذ الأجرة من غيره فلا يُفهم من نفس استحقاق الغير للعمل .
 هذا كله على تقدير أن يُفهم من دليل الوجوب أن العمل مستحق للغير كما نفهم من دليل تجهيز الميت أن تجهيزه مستحق له وكذا في موارد أخرى .. إذاً فاستحقاق العمل لا ينافي أخذ الأجرة من الغير ، نعم .. في خصوص محلّ الكلام وهو باب القضاء - يمكن أن يُدّعى بأن الاستحقاق يقتضي المنع باعتبار أن القضاء على تقدير أن يُفهم من دليل وجوبه استحقاق الغير له فالمقصود بالغير هم جميع المسلمين لا خصوص المتخاصمين فحينئذ لا يصحّ أخذ الأجرة لا من المتخاصمين ولا من غيرهما لأن الجميع يستحق هذا العمل وقد قلنا إن أخذ الأجرة ممن يستحق العمل ممنوع .
 وأما الاحتمال الثالث وهو إلغاء المالية شرعاً فهو على تقدير استفادته من الواضح أنه يمنع من أخذ الأجرة لأن المفروض أن العمل قد أسقط الشارع ماليته فيكون أخذ الأجرة في مقابله أكلاً للمال بالباطل كما هو الحال في الخمر والخنزير .
 هذا حال عالم الثبوت .
 وأما في مقام الإثبات فاستفادة المجانية بأيٍّ من الاحتمالات المتقدمة لا يخلو من صعوبة خصوصاً في محلّ الكلام فلا يمكن أن نستفيد المجانية من نفس دليل وجوب القضاء مجرّداً عن أيّ شيء آخر ما لم نضمّ عناية إضافية سواء بالمعنى الأول وهو أخذها قيداً في الواجب أو بالمعنى الثاني وهو كون العمل مستحقّاً للغير أو بالمعنى الثالث وهو إلغاء المالية شرعاً .
 نعم .. قيل بأن العناية التي نستفيد في ضوئها اعتبار المجانية في القضاء فضلاً عن مثل تجهيز الميت موجودة وهي مناسبات الحكم والموضوع فإنها تقتضي المجانية إما بالمعنى الثاني أو الثالث .
 ولكن يرد عليه أن ما يُفهم من دليل وجوب تجهيز الميت فضلاً عن وجوب القضاء الذي هو محلّ الكلام هو الإلزام بالعمل لأجل الغير ولا يُفهم منه جعل العمل للغير الذي يمنع في الحقيقة من أخذ الأجرة لأن معناه جعل العمل مملوكاً للغير ومن المسلّم به أن جعل العمل مملوكاً لشخصٍ يقتضي استحالة تمليكه من قبل غيره بعوض وأجرة فإيجاب العمل على شخص لا يُفهم منه جعله مملوكاً له وإنما غاية ما يُفهم منه أن ذلك الشخص يستحقّ هذا العمل لا على نحو كونه مالكاً له ولذا لا ينافي ذلك أن يأخذ القائم بالعمل الأجرة عليه منه .
 اللّهم إلا أن يُدّعى استفادة ذلك أي جعل العمل مملوكاً للغير - من دليل وجوب تجهيز الميت ولا ريب أن هذا يكون مانعاً من أخذ الأجرة .. ولكن فهم هذا من الدليل ليس بذلك الوضوح .
 وأما مناسبات الحكم والموضوع التي هي مناسبات عرفية فهي تقتضي استحقاق العمل لأجل الغير وإيجابه له ولكن هذا لا يعني ملكية العمل .. فإذاً لا الاستحقاق يمنع من أخذ الأجرة ولا الإيجاب كذلك وإنما الذي يمنع منه هو تمليك العمل للغير وهو مما لا يُستفاد من مجرد دليل وجوب تجهيز الميت أو من مجرد دليل وجوب القضاء ، ولو تنزّلنا وسلّمنا ذلك فإنما نسلّمه في مثل تجهيز الميت لا في الأمر بالقضاء إذ الفرق بينهما واضح وجداناً ولذا لم يستدلّ الماتن (قده) على مجانية القضاء بهذا الدليل وإنما استدلّ بدليل آخر سيأتي التعرّض له إن شاء الله تعالى .
 والحاصل أنه بلحاظ مقتضى القاعدة فإن إثبات عدم جواز أخذ الأجرة على القضاء لا يخلو من صعوبة من دون فرق بين كونه واجباً كفائياً أو عينياً مع الالتفات إلى أن القضاء ليس من الواجبات العبادية التي كنّا قد استشكلنا في جواز أخذ الأجرة عليها - .
 هذا كله بحسب المقام الأول أعني مقتضى القاعدة - .
 وأما بحسب المقام الثاني أي الأدلة الخاصة : فقد استُدلّ على عدم الجواز بالمعنى المبحوث عنه في المقام وهو عدم استحقاق الأجرة أي الحرمة الوضعية - بعدّة أدلة :
 أهمها - ممّا قد اعتنى به الفقهاء - رواية عمار بن مروان التي ينفرد بذكرها الشيخ الصدوق في كتبه [1] فقد ذكرها في الخصال بسند صحيح عن أبيه عن سعد (والمقصود به سعد بن عبد الله الأشعري الثقة بلا إشكال) عن أحمد بن محمد عن ابن محبوب (والمراد به في هذه الطبقة هو أحمد بن محمد بن خالد البرقي الثقة لأنه هو الذي يروي عنه سعد وهو يروي عن الحسن بن محبوب) عن أبي أيوب (والمراد به أبو أيوب الخزاز المعروف المسمى بإبراهيم بن زياد) عن عمار بن مروان (وهو ثقة وقد أثبتنا وثاقته في بحث سابق في باب الخمس) ، كما ذكرها في معاني الأخبار أيضاً ولكن بطريق فيه ضعف وهو عن محمد بن موسى بن المتوكل عن عبد الله بن جعفر عن محمد بن الحسين عن الحسن بن محبوب ، وقد ذكر الطريقين الشيخ صاحب الوسائل في الباب الخامس من أبواب ما يُكتسب به الحديث الثاني عشر ، ونصّ الرواية هكذا :
 " قال أبو عبد الله (عليه السلام) : كلّ شيء غُلّ من الإمام فهو سحت (وهذه العبارة ليست موجودة في بعض نسخ الرواية وليس لها كبير دخل في الاستدلال بهذه الرواية) والسحت أنواع كثيرة منها ما أصيب من أعمال الولاة الظلمة ومنها(أي من الأنواع) أجور القضاة وأجور الفواجر وثمن الخمر والنبيذ المسكر والربا بعد البينة فأما الرشا يا عمار في الأحكام فإن ذلك الكفر بالله العظيم ورسوله صلى الله عليه وآله " [2] .
 والاستدلال بهذه الرواية مبني على أن الضمير في قوله : (ومنها أجور القضاة) يعود إلى الأنواع فيكون المقصود : (ومن أنواع السحت أجور القضاة) فتكون أجرة القاضي سحتاً وهو معنى عدم الجواز الوضعي المبحوث عنه في المقام فتدل الرواية على الحرمة الوضعية وعدم استحقاق الأجرة .
 وهذا الاستدلال اعتُرض عليه باعتراضات :
 الأول : كما في كلمات الماتن (قده) الذي ذهب في مصباح الفقاهة إلى حرمة أخذ الأجرة على القضاء واستدلّ بروايات ومنها روايتنا هذه وبدليل آخر ستأتي الإشارة إليه إلا أنه في كتاب القضاء عدل عن ذلك وذهب إلى جواز أخذ الأجرة على القضاء واستشكل في دلالة صحيحة عمار بن مروان بطرح احتمال آخر في دلالتها تكون الرواية في ضوئه أجنبية عن محلّ الكلام فلا تدلّ على حرمة أخذ الأجرة على القضاء بقول مطلق حيث قال بأن الضمير في (منها) يعود إلى الموصول (ما) في قوله : (ما أصيب من أعمال الولاة الظلمة) فيكون من متفرّعات ما أصيب من أعمال الولاة الظلمة - نعم .. الضمير في (منها) الذي سبق (ما) في قوله : (والسحت أنواع كثيرة منها ما أصيب من أعمال الولاة الظلمة) لا إشكال في عوده على الأنواع وإنما الكلام في الضمير الثاني التالي له -وعلى ذلك يكون المراد الأجور التي يصدق عليها أنها أُصيبت من أعمال الولاة الظلمة فهي تدلّ على سُحتية أخذ الأجرة على القضاء ولكن لا مطلقاً وإنما تدلّ على كونه سحتاً في ما إذا كان قد أصيب من أعمال الولاة الظلمة ، وبعبارة أخرى هي تدل على حرمة أخذ الأجرة على القضاة الذين يأخذون أجورهم من السلطان الجائر وأين هذا من محلّ الكلام ؟! فنحن نتكلم عن القضاء بما هو بقطع النظر عن كونه يأخذه من السلطان الجائر أو من غيره فهل أخذ الأجرة عليه جائز أم لا سواء كان من المتخاصمين أو من غيرهما والرواية على هذا لا تكون ناظرة إلى ذلك وإنما هي ناظرة إلى ما يُصاب من أعمال الولاة الظلمة فهو سحت ومن جملة هذا السحت أجور القضاة .. إذاً أجور القضاة إنما تكون سحتاً عندما ينطبق عليها عنوان (ما أصيب من أعمال الولاة الظلمة) ولذا يرى (قده) أن هذه الرواية لا يمكن أن نُثبت بها حرمة أخذ الأجرة على القضاء بما هو قضاء وإنما هي ناظرة إلى ما يأخذه القضاة من الولاة الظلمة وهذا لا إشكال في كونه سحتاً فلا يصح الاستدلال بالرواية .
 هذا .. ويمكن أن يقال إن هذا الاحتمال الذي ذكره (قده) بعيد بقرينتين :
 الأولى : عطف أجور الفواجر وما بعدها من ثمن الميتة وغيرها على أجور القضاة بـ(الواو) مع وضوح أن أجور الفواجر وما عُطف عليها ليست داخلة في ما أصيب من أعمال الولاة الظلمة وهذا معناه أن أجور الفواجر وكذا العناوين التي عُطفت عليها هي نوع مستقل من أنواع السحت في قبال ما أصيب من أعمال الولاة الظلمة وهذا أمر مقطوع به بغض النظر عن أيّ شيء آخر وهذا يُمثّل قرينة على أن أجور القضاة تكون كذلك لأنه (عليه السلام) قال : (ومنها أجور القضاة وأجور الفواجر) ثم عطف عليها الأمور المذكورة فهذا العطف بالواو يكون قرينة على أن أجور القضاة هو من هذا القبيل وهذا يؤيد أن الضمير في (منها) يعود إلى الأنواع وليس إلى الموصول في قوله : (ما أصيب من أعمال الولاة الظلمة) .
 القرينة الثانية : - وهي الأهمّ تأنيث الضمير فلو كان عنوان أجور القضاة يعود إلى (ما أصيب من أعمال الولاة الظلمة) لكان المتعيّن أن يأتي بالضمير في قوله (ومنه أجور القضاة) مذكّراً فتأنيثه قرينة على عوده إلى الأنواع لا إلى الموصول في الجملة المذكورة .
 فكل من هاتين القرينتين على نحو الاستقلال تجعل الكلام ظاهراً في عود الضمير في قوله (ومنها أجور القضاة) إلى الأنواع وبهذا يثبت أن أجور القضاة من أنواع السحت في قبال ما يصاب من أعمال الولاة الظلمة بمعنى أن أجور القضاة سحت بقطع النظر عن أنها تُصاب من الولاة الظلمة أو لا تُصاب منهم بل هي في حدّ نفسها سحت فيثبت المطلوب .
 تبقى مسألة وقد أشار الماتن (قده) إليها - وهي أنه لو كان الأمر كما ذُكر أعني كون ما أصيب من أعمال الولاة الظلمة عنواناً مستقلاً للسحت وأجور القضاة عنوان مستقل آخر للسحت وكذا أجور الفواجر وثمن الخمر لكان من المناسب أن تتكرر لفظة (منها) في العناوين الأخرى بأن يقال : (والسحت أنواع كثيرة منها ما أصيب من أعمال الولاة الظلمة ومنها أجور القضاة ومنها أجور الفواجر ومنها ثمن الخمر .. إلخ) مع أن الوارد في الرواية عطف أجور الفواجر على أجور القضاة .
 وأقول : لعل الغرض من ذلك هو الفصل بين الفقرات وبيان أن ما بعد أجور القضاة غير ما قبلها فالأول يدخل في عنوان ما أصيب من أعمال الولاة الظلمة في حين أن تلك العناوين الأخرى ليست لها علاقة بكونها تؤخذ من السلطان الجائر وإنما هي عناوين مستقلة ذُكرت بهذا الشكل .
 وكيف كان فلا يتوقف ما استظهرناه على تمامية هذا التوجيه لو طاله منعٌ على أنه ليس من المستهجن في مقام التعبير عدم تكرار الضمير حتى لو كان المقصود أن تلك العناوين هي عناوين مستقلة .
 الاعتراض الثاني : أن يُدّعى أن الرواية ليست ناظرة إلى قضية حقيقية وحكم عام يكون شاملاً لكل القضاة على مر العصور كما هو المطلوب في المقام وإنما هي ناظرة إلى قضاة موجودين في زمان صدور النصّ يأخذون الأجر من السلطان .
 وهذا الاعتراض ينتهي إلى النتيجة نفسها التي ينتهي إليها السيد الماتن (قده) لكن بطريق آخر ، ولهذا الاعتراض تقريبان :
 الأول : أن يقال بأن اللام في القضاة للعهد لا للجنس فالمقصود بالقضاة هم القضاة المعهودون الموجودون في زمان النصّ الذين يأخذون الأجور من السلطان الجائر فهذا الأجر الذي يأخذونه سحت وهذا لا ينفعنا في مقام الاستدلال لإثبات حرمة أخذ الأجر على القضاء مطلقاً .
 وجواب هذا التقريب واضح وذلك بقرينة وحدة السياق لأن اللام إنما هي للجنس لا للعهد كما ادُّعي بقرينة أخواتها في المعطوفات الباقية كما في الفواجر والخمر وسواهما إذ اللام فيها للجنس قطعاً واختلاف السياق بعيد .
 وأما التقريب الثاني للإشكال فسيأتي الحديث عنه إن شاء الله تعالى .


[1] بل يذكرها الشيخ الكليني في الكافي بهذا السند : " عدة من أصحابنا عن سهل بن زياد وأحمد بن محمد عن ابن محبوب عن ابن رئاب عن عمار بن مروان " الكافي مج5 ص126 ، وكذا يذكرها في التهذيب عن (ابن محبوب عن ابن رئاب عن عمار بن مروان) التهذيب مج6 ص368 ، نعم ليس في النقلين محل الشاهد وهو قوله (ومنها أجور القضاة) ولعل مراد شيخنا الأستاذ بالانفراد هو الانفراد بذكر هذه العبارة لا الانفراد بذكر أصل الرواية .. ولكن يرد عليه أن الرواية وفيها هذه العبارة مذكورة في تفسير العيّاشي ص322 فعلى هذا لا يتحقق انفراد الشيخ الصدوق (قده) بها .
[2] معاني الأخبار ص211 .