32/10/21


تحمیل
 

الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الفقه

32/10/21

بسم الله الرحمن الرحیم

 كان الكلام في المسألة الثانية حول المال الذي يصل إلى القاضي وقلنا إنه ينبغي عقده في مقامات أربعة كان الأول منها في جواز ارتزاق القاضي من بيت المال وقلنا إن المراد بالارتزاق ما يأخذه القاضي أو يُعطى له من بيت المال باعتباره قائماً بمصلحة من مصالح المسلمين لا بنحو العوضية عن القضاء وقلنا إنه لا يُعتبر في ذلك ممارسة فصل الخصومات والحكم بين الناس خارجاً بل هـو يُعطى ذلك بمجرد النصب .. فالكلام إذاً في جواز ذلك وعدمه فنقول :
 إنه لا إشكال في جواز الارتزاق في الجملة والقدر المتيقَّن الذي اتّفقوا على حصوله فيه هو ما إذا كان القاضي فقيراً مع عدم تعيّن القضاء عليه ، وأما مع انتفاء أحد هذين القيدين فضلاً عن كليهما فهو محلّ خلاف :
 أما مع الغنى فيظهر من كلمات فقهائنا أن هناك خلافاً في هذه الصورة ، وأهمّ الأقوالُ فيها ثلاثة :
 الأول : عدم الجواز مطلقاً سواء تعيّن القضاء عليه أم لم يتعيّن ، وهذا القول هو الذي يظهر من الشهيد الثاني في الروضة والمحقق الأردبيلي في فوائده وصرّح به الشيخ الأنصاري ولا يبعد ميل صاحب الجواهر إليه أيضاً .
 وقد استُدلّ على هذا القول بأن بيت المال موضوع للمصالح ولا مصلحة مع عدم الحاجة بل في بعض عبائرهم أن إعطاءه من بيت المال مع غناه تضييع لمال المسلمين ، وقد ذكرنا أنه يُستفاد من كلام الشيخ صاحب الجواهر (قده) الاستدلال على عدم الجواز مع الغنى حتى مع عدم التعيّن بدليلين كان الأول منهما كونه واجباً عليه وإن فُرض كونه غير متعيّن عليه فإنه لا مسوّغ للمطالبة بالمال في مقابل ما هو الواجب ، وكان الثاني منهما أن بيت المال مُعدّ للفقراء لا للأغنياء فلا سبيل للقاضي إذا كان غنيّاً أن يأخذ منه .
 القول الثاني : هو الجواز مطلقاً حتى مع تعيّن القضاء عليه ، واختاره صاحب المستند (ره) وذهب إليه من المتأخرين المحقق الأشتياني (رض) في كتاب قضائه والسيد الخوئي (قده) وقد استُدلّ له بأدلة ثلاثة :
 
 الأول : أن مجرد وجوب القضاء لا يُخرجه عن كونه مصلحة من مصالح المسلمين التي يؤخذ الرزق عليها كما هو الحال في الجهاد في حال وجوبه العيني - مثلاً فإنه يجوز بالنسبة إلى المقاتلين الارتزاق من بيت المال ولا يُشترط فيهم الفقر فأيّ فرق بين البابين ؟!
 الثاني : أن الأدلة الدالة على حرمة أخذ العوض وردت كما سيأتي في المقام الثاني بعنوان الأجرة وهو عنوان آخر غير محلّ كلامنا الذي هو عبارة عن الارتزاق .
 الثالث : إطلاق بعض الروايات كما سنذكر بعضاً منها إن شاء الله تعالى .
 القول الثالث : هو التفصيل بين صورة تعيُّن القضاء فلا يجوز الارتزاق وعدم تعيّنه فيجوز .
 وهذا التفصيل محكيّ عن الشيخ الطوسي (قده) في المبسوط والعلامة في القواعد والشهيد في المسالك وقد ذَكر أنه الأشهر ، وقد عُلّل الشقّ الأول من التفصيل أعني عدم الجواز مع التعيُّن بما تقدّم ذكره من كون القاضي يؤدّي فرضاً واجباً عليه كغيره من الواجبات مثل الصلاة والصيام الواجبين فكما لا يجوز أخذ شيء في مقابلهما فكذا لا يجوز أخذ شيء في مقابله ، وعُلّل الشقّ الثاني من التفصيل أعني الجواز مع عدم التعيُّن بعدم وجود موجب لعدم الجواز مع كونه قائماً بمصلحة من مصالح المسلمين فإن المانع وهو الوجوب العيني منتفٍ بحسب الفرض .
 هذا .. وفي ما يتعلّق بأدلة المنع مطلقاً التي قلنا بأن الشيخ صاحب الجواهر أشار إليها وفي خصوص الدليل الثاني وهو أن بيت المال مُعدّ للفقراء فلا يجوز إعطاء الأغنياء منه قلنا بأن هذا ليس واضحاً بل هو في حيّز المنع وذلك باعتبار أن بيت المال كما يظهر من كلمات الفقهاء معدّ لمصالح المسلمين ولا إشكال أن من أهمّ مصالحهم هو القضاء فيجوز الارتزاق من بيت المال حتى مع الغنى - الذي هو محلّ الكلام - خصوصاً مع وجود مصلحة في هذا الارتزاق تتمثّل في التشويق للتصدّي لهذا المنصب الذي لا يخلو عن خطورة وأهمية ولا ريب أن المال أحد المرغّبات للإقدام على مثل هذا الأمـر ، وهذا التشويـق إنما يُتصـوّر على أنه مصلحة في ظرف عدم تعيّن القضـاء على الشخــص إذ بإمكانــــه حينئـذ أن يتركــــه فلأجـل أن يتشـوّق إلى هذا العمـل يُـرزق مـن بيـت
 
 المال بل حتى في صورة التعيّن يمكن أن تُتصوّر مصلحة تؤخذ بنظر الاعتبار في ارتزاقه وهي مصلحة منعه من تأثيرات المال على الحكم الذي يقضي به حيث إن المال يُستخدم عادة من قبل أطراف الدعوى لاستمالة القاضي ليحكم لصالحه ولا إشكال في أن إغناء القاضي يسدّ مثل هذا الباب كما هو المشهود في الحكومات الوضعية حيث تخصّص للقضاة المرتّبات العالية ليستغنوا عن أخذ المال من المدّعين .
 فالنتيجة أن بيت المال من حيث إنه معدّ لمصالح المسلمين فكلما انطبقت مصلحة من مصالحهم يقوم بها شخص ويعود نفعها عليهم فيجوز حينئذ صرف المال له من بيت مال المسلمين ولا يُشترط فيه أن يكون فقيراً كما هو الحال في عناوين ذكروها في كلماتهم كثيراً من قبيل المؤذن وخادم الجامع وحارس السجن وصاحب الديوان وغيرهم ممّن يُحتاج إليهم في مقام تطبيق القانون والمهمّات التي يعود نفعها إلى المسلمين كافّة .
 والحاصل مما ذكرنا أن الفقر وتعيّن القضاء لا يمنعان من جواز الارتزاق من بيت المال .
 هذا بالنسبة إلى الدليل الثاني الذي ذكره الشيخ صاحب الجواهر (قده) ، وأما الدليل الأول - الذي يقول بأن القضاء واجب حتى مع عدم تعيّنه فحينئذ لا يجوز له أخذ العوض عليه - فهو في روحه كأنه يرجع إلى ما سيأتي في المقام الثاني من الدليل على عدم جواز أخذ الأجرة على الواجبات عينية كانت أو كفائية ، ومع فرض التسليم بمضمونه نقول إنه لا يشمل محلّ الكلام لما أشرنا إليه من الفرق الواضح بين عنوان الأجرة وعنوان الارتزاق فما دلّ على تحريم الأول لا دلالة فيه على تحريم الثاني فإن الارتزاق مال مقرّر يُعطى للشخص لقيامه بمصلحة من المصالح ولا يُعتبر فيه أن يمارس العمل خارجاً وهذا غير الأجرة فإنه لو كان من هذا الباب لكان لنا أن نستردّ المال عند عدم ممارسته للعمل المستأجر عليه خارجاً بل كان الاسترداد واجباً حينئذ لأن المال قد أُعطي من بيت المال مع أن هذا خلاف السيرة فإن القاضي حتى لو لم يمارس القضاء فعلاً - ولو لعدم وجود متخاصمِين - لا يُستردّ منه مرتّبه الشهري .
 
 هذا .. ويظهر من المحقق في الشرايع اشتراط أحد الأمرين في جواز الارتزاق على سبيل منع الخلوّ إما الحاجة أو عدم التعيّن فيجوز الارتزاق مع الحاجة ولو مع التعيّن كما يجوز مع عدم التعيّن ولو مع الغنى ، ولازم هذا الكلام كما هو واضح عدم الجواز في حالة انتفاء كلّ من الأمرين كما إذا كان غنياً وتعيّن عليه القضاء ومضمون هذا هو مضمون التفصيل المتقدّم - أعني القول الثالث إلا أن الأدلة لا تساعد عليه كما يُفهم منها وأن الارتزاق جائز مطلقاً مع الحاجة وعدمها ومع التعيّن وعدمه .
 ويؤيّد جواز الارتزاق في الجملة بعض الروايات منها ما ورد في عوالي اللئالي وهي رواية ظاهرة جداً في جواز الارتزاق مطلقاً إلا أنها ضعيفة سنداً ، وكذا ما ورد في عهد الإمام (عليه السلام) إلى مالك الأشتر - ولعله أهمّ ما يؤيّد به في المقام وهو وارد بسند صحيح وهو عهد طويل ينقله الشيخ صاحب الوسائل عن نهج البلاغة وممّا ورد فيه :
 " وأعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض ولا غنى ببعضها عن بعض منها جنود الله ، ومنها كُتّاب العامة والخاصة ، ومنها قضاة العدل .. إلى أن قال : وكلّ قد سمّى الله له سهمه ووضعه على حده وفريضته ، ثم قال : ولكل على الوالي حق بقدر ما يصلحه ، ثم قال : واختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممّن لا تضيق به الأمور ، ثم ذكر صفات القاضي ، ثم قال : وأكثر تعاهد قضائه وافسح له في البذل ما يزيح علته وتقلّ معه حاجته إلى الناس وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره " [1] .
 والشاهد في قوله : " وافسح له في البذل ما يزيح علته وتقلّ معه حاجته إلى الناس " ، وهذه الجملة لولا ذيلها [2] لكانت ظاهره في جواز البذل له من بيت المال حتى مع غناه إلا أنه حتى مع هذا الذيل يمكن تفسير العبارة بمعنى لا يتنافى وجواز ارتزاق القاضي الغني من بيـت المال لأن الغِنى يكفي فيـه أن يملـك الشخـص قـوت سنتـه فحسـب فالذيـل يُعبّـر عن مستـوى أكثـر ممّا يتحقّـق بـه مسمّى الغنى فقـد
 يُفهم من الرواية جواز البذل حتى مع كونه مالكاً لقوت سنته أي كونه غنياً - فيمكن الاستدلال بهذه الرواية على جواز البذل حتى مع الغنى .
 هذا .. ولم يُشترط في الرواية عدم تعيّن القضاء فلذا تكون مطلقة فتشمل حالتي التعيّن وعدمه .. وعلى كل حال فهذه الرواية وإن لم تكن دلالتها بذلك الوضوح إلا أنها تصلح للتأييد ، كما أن هناك روايات أخرى وإن كانت غير تامة سنداً لكنها تصلح للتأييد أيضاً .
 وفي مقابل ذلك قد يقال إن هناك رواية معتبرة سنداً تدلّ على عدم جواز الارتزاق من بيت المال وهي ما رواه الشيخ الكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن محبوب عن عبد الله بن سنان : " قال : سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن قاضٍ بين قريتين يأخذ من السلطان على القضاء الرزق فقال : ذلك السحت " [3] .
 ولكن ما يدفع مثل هذا التوهّم [4] هو أن في الرواية احتمالاً آخر وهو أن يكون المقصود به القاضي المنصوب من قبل السلطان الجائر فإنه لا إشكال أن ما يأخذه في مقابل قضائه يكون سحتاً لأن قضاءه ليس على وفق الموازين الشرعية وهذا أجنبي عن محلّ الكلام الذي يُفترض فيه كون القاضي منصوباً من قبل الإمام (عليه السلام) أو من قبل نائبه وهو يقضي بالعدل وفق أحكامه سبحانه وتعالى بل يمكن أن يقال إن ظاهر الرواية هو ذلك فإن التعبير بـ(السلطان) في ألسنة الروايات يراد به السلطان الجائر ولا يُعبّر في ألسنتها عن الإمام (عليه السلام) بهذا التعبير فذلك القاضي منصوب من قبل السلطان الجائر وهو يأخذ الرزق منه مع كونه ليس أهلاً لهذا المنصب شرعاً والقضاء الصادر منه ليس على طبق الموازين الصحيحة فالثمن الذي يأخذه في مقابله يكون سحتاً فالرواية إذاً أجنبية عن محلّ الكلام ولا يمكن الاستدلال بها على جواز الارتزاق من بيت المال .
 ومن هنا يظهر أننا في هذا المقام ننتهي إلى أن الأقرب هو جواز الارتزاق مطلقاً إلا أنه بالرغم من هذا فإن علماءنـا (رض) مَن قـال منهـم بالجـواز مطلقـاً أو في بعـض الصـور قال بأن الأولـى للقاضــــي
 
 إذا كان غنياً - بل لعله الأحوط له أن يتعفّف عن أخذ المال من بيت مال المسلمين ولو من باب التوفير على ذوي الحقوق الآخرين .
 المقام الثاني : في جواز أخذ القاضي الأجرة على القضاء من المتخاصمَين أو من غيرهما ، وهذا البحث المهم هو صغرى لكبرى كلية تُبحث في مقام آخر وهي في جواز أخذ الأجرة على الواجبات والمقصود بها الأعم من العينية والكفائية والتوصلية والعبادية - .


[1] الوسائل مج27 ص223 .
[2] يعني قوله : (ما يزيح علته وتقلّ معه حاجته إلى الناس) .
[3] الكافي مج7 ص409 .
[4] أي توهّم دلالة الرواية على عدم جواز الارتزاق من بيت المال .

BaharSound

www.baharsound.com,www.wikifeqh.ir,lib.eshia.ir

 

map