36/05/18


تحمیل
الموضـوع:- مسألة ( 8 ) - المكاسب المحرمة -كتاب التجارة.
مسألة ( 8 ):- تحرم ولا تصحّ التجارة بما يكون آلة للحرام بحيث يكون المقصود منه غالباً الحرام كالمزامير والأصنام والصلبان والطبول وآلات القمار كالشطرنج ونحوه ولا إشكال في أنّ منها الصفحات الغنائية - الأسطوانات - لصندوق حبس الصوت وكذلك الأشرطة المسجّل عليها الغناء وأما الصندوق نفسه فهو كالراديو من الآلات المشتركة فيجوز بيعه كما يجوز أن يستمع منهما الأخبار والقرآن والتعزية ونحوها ممّا يباح استماعه . أمّا التلفزيون فإن عُدَّ عرفاً من آلات اللهو فلا يجوز بيعه ولا استعماله وأما مشاهدة أفلامه فلا بأس بها إذا لم تكن مثيرة للشهوة بل كانت فيها فائدة علميّة أو ترويحٌ للنفس وإذا اتفق أن صارت فوائده المحلّلة المذكورة كثيرة الوقوع بحيث لم يعدّ من آلات اللهو عرفاً جاز بيعه واستعماله ويكون كالراديو وتختصّ الحرمة حينئذٍ باستعماله في جهات اللهو المثيرة للشهوات الشيطانيّة وأما المسجلات فلا بأس ببيعها واستعمالها.[1]
..........................................................................................................
وقبل أنّ ندخل في هذه المسألة نشير إلى بعض القضايا الجانبيّة الفنيّة:-
من قبيل:- أنّه ينبغي الالتفات إلى أنّ المسائل السابقة كانت ناظرة إلى القسم الأوّل من أقسام ما لا يجوز بيعه فإنّ الشيء الذي لا يجوز بيعه قد لا يجوز بيعه لأجل نجاسته بالمعنى الشامل للمتنجّس وهذا ما يصطلح عليه عند الفقهاء - وليس عند عامّتهم - بالقسم الأوّل، والقسم الثاني ما لا يجوز بيعه لأجل حرمة الانتفاع به أو بتعبيرٍ آخر لأجل كون المنفعة المقصودة منه محرّمة، ويدخل تحت هذا العنوان آلات اللهو والقمار والصليب والأصنام وما شاكل ذلك.
ومن الآن نريد أن نتحدّث عمّا لا يجوز بيعه لأجل كون المنفعة المقصودة منه محرّمة.
ومن قبيل:- إنّه(قده) قد تعرّض في هذه المسألة إلى نحوين من أنحاء ما لا يجوز بيعه لحرمة منفعته، النحو الأوّل ما تنحصر الفائدة المقصودة منه في خصوص المحرّمة ولا توجد له منفعة مقصودة محلّلة، وبتعبير آخر الآلات المختصّة بالحرام ويدخل تحت هذا عناوين ثلاثة كالصليب والأصنام وآلات اللهو وآلات القمار فإنّه لا يقصد منها إلّا الحرام.
والنحو الثاني فهو ما تكون المنفعة فيه مشتركة بين الحرام والحلال كالراديو والتلفزيون وغيرهما، وهو(قده) يبحث عن النحو الأوّل في صدر هذه المسالة كما يبحث النحو الثاني نهايتها ولو كان ينبّه على هذا لكان أفضل.
ومن قبيل:- أنّه حينما أخذ يذكر القسم الأوّل ذكر الأمثلة والمصاديق بشكلٍ غير مرتّب، يعني من المناسب أن يذكر المزامير والطبول جبناً إلى جنب فإنهما من آلات اللهو، فالمناسب أن تكون العبارة هكذا:- ( كالأصنام والصلبان، والمزامير والطبول، وآلات القمار كالشطرنج ونحوه ... ).
ومن قبيل:- أن يذكر أنّ منهجة بحثنا سوف تكون بالشكل التالي وهي أن نبحث أوّلاً عن الآلات التي منفعتها مختصّة بالحرام ويدخل تحت هذا البحث عناوين ثلاثة الصلبان الأصنام ... الخ، وإذا انتهينا نبحث في آلات اللهو، ثم آلات القمار، ثم نبحث النحو الثاني وهي الآلات المشتركة..
وبعد أن عرفنا هذا ندخل في صلب المسألة:-
الآلات المختصّة بالحرام:- وهي كما عرفنا ذات مجاميع ثلاثة ونتكلّم عن كلّ مجموعة تحت عنوانٍ مستقل:-
بيع الأصنام والصلبان:-
يظهر أنه لا خلاف بينهم في بطلان بيع الصليب والصنم، ولكن ما هو المدرك الفنّي ؟
ذكر الشيخ الأعظم(قده) في المكاسب[2] بعض الأدلّة التي تتناسب مع مذاقه المبارك:-
من قبيل:- عدم الخلاف في المسألة أو الإجماع فيها، ورواية تحف العقول، والنبوي الشريف الذي يقول:- ( إنّ الله إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه ).
ونحن نترك مناقشة هذه الأدلة لأنّا قد علقنا عليها بما تقدّم، والمهم هو الأدّلة الأوجه والأمتن.
وقد تطرح عدّة وجوهٍ لإثبات المطلوب وهو حرمة البيع تكليفاً وحرام وضعاً:-
الوجه الأوّل:- التمسّك بقوله تعالى:- ﴿ لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ﴾[3]، بتقريب:- أنّ هذه الأشياء من الباطل حيث إنّ الاسلام ألغى ماليّة الهيئة، فهذه الهيئة الخاصّة التي هي هيئة صنم أو صليب قد ألغاها وأسقطها عن الاعتبار ومعه يكون بذل المال في مقابل لا شيء أيّ في مقابل الباطل فالباطل هنا بمعنى اللا شيء والعدم.
وإذا قلت:- صحيح أنَّ الإسلام قد ألغى الهيئة وهي لا شيء ولكن ربما يكون للمّادة وجودٌ وماليّة فإنّ الصنم على نحوين فتارةً يكون مصنوعاً من التراب والحجارة وهذا لا ماليّة لمادته، فالمادّة لا ماليّة لها كما أنّ المفروض أنّ الاسلام ألغى مالية الهيئة عن الاعتبار فيصير هذا المجموع باطلاً ولا شيء، ولكن ربما يكون للمادّة ماليّة كما إذا كان الصنم مصنوعاً من الذهب فهنا يصدق عليه أنّه شيءٌ موجودٌ ومالٌ لا أنّه عدمٌ محض، فالعدم المحض نتصوّره فيما إذا كان الصليب أو الصنم مصنوعاً من التراب ؟!
قلت:- هذا صحيحٌ من جهةٍ ولكن بما أنّ المقوّم والملحوظ الأساسي في هذه الأشياء هو الهيئة والبذل إنّما يكون مقابل الهيئة لأنّها هي الملحوظة دون الذهب فإنّ عنوانه ليس ملحوظاً فعلى هذا الأساس يكون البذل أزاء لا شيء لأنّ ما يبذل بإزائه الثمن قد فرض أنّه لا شيء وقد وألغي شرعاً وأسقط عن الماليّة، نعم لو فرض أنّ الهيئة كانت منفكّة عن المادّة بنحوٍ يوجد شيآن في الخارج أشبه بالصفقة المتعدّدة خارجاً كخمرٍ وخلّ فالشرع ألغى ماليّة الخمر ولكن يبقى شيء آخر وهو الخل يبذل بإزائه المال، أمّا هنا فحيث لا يوجد في الخارج وجودان وإنما وجودٌ واحدٌ والمقوّم الأساسي والمبذول بإزائه المال هو الهيئة وقد ألغيت فيكون هذا الموجود الخارجي لا شيء والبذل بإزائه بذلاً بالباطل.
إن قلت:- نحن فيما سبق عرفا أنّ البيع ليس متقوّماً بالماليّة، يعني لنفترض أنّ الإسلام ألغى ماليّة الهيئة ولكن هذا لا يعني أنّ المورد لا يصير بيعاً إذ البيع لا يلزم فيه ماليّة العوضين، فبالتالي إسقاط الشيء عن الماليّة لا يلازم خروج المورد عن كونه بيعاً فيبقى المورد بيعاً، نعم من يرى أنّ البيع متقوّم بماليّة العوضين يتمّ عنده هذا الوجه ولكن نحن لا نبني على ذلك.
قلت:- إنّ المنهي عنه في الآية الكريمة ليس هو عنوان البيع وإنما هو الأكل والبذل مقابل اللا شيء والباطل فلو فرض أنّ المنهي عنه كان هو عنوان البيع فهنا نقول إنّ عنوان البيع صادقٌ لكن المفروض أنّ المنهي عنه هو الأكل بالباطل والمورد من مصاديق الأكل بالباطل فيلزم التفرقة بين هذين العنوانين.
ويرده:-
أوّلاً:- إنّا ذكرنا سابقاً أنّ هذا يتمّ لو فسّرنا الباء بالمقابلة، أمّا لو فسرناها بالسببيّة فلا يتمّ إذ يحتمل أن يكون المقصود من الباء هو المقابلة يعني لا تأكلوا أموالكم بينكم مقابل الباطل أي مقابل لا شيء فهنا يتم الاستدلال فيقال إنَّ هذه الأصنام هي لا شيء، أمّا إذا فسّرت بالسببيّة أي لا تأكلوا أموالكم بالأسباب الباطلة كالسرقة والرشوة والغيلة والغصب وما شاكل ذلك يعني فكلوها بالأسباب غير الباطلة والمفرض في مقامنا أنّنا نأكل المال بالأسباب غير الباطلة - أعني البيع ولس بالغيلة وبالغصب - فتكون الآية آنذاك أجنبيّة عن المقام.
إن قلت:- هل أنت تجزم بأنّ الباء هنا سببية فلعلّها للمقابلة وبذلك يتمّ ما أراده المستدل ؟
قلت:- إنّي لا أريد الجزم بكون الباء سببيّة وإنما أريد أن أقول هو احتمالٌ مقبول ووجيهٌ، ومادام مقبولاً فلا يمكن الاستدلال بالآية الكريمة وسوف تأتي قاعدة ( إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال ) فإنّ هذا من الموارد المقبولة لهذه لقاعدة.
إذن نحن لابد وأن نجزم بأنّ الباء للمقابلة حتى يتمّ الاستدلال، ولكن حيث يحتمل أنّها سببيّة - ويكفينا إبراز الاحتمال - فلا يمكن آنذاك التمسّك بالآية الكريمة.
ثانياً:- ماذا يقصد من لباطل فهل يقصد منه الباطل الشرعي أو العرفي ؟ فلو كان هو الباطل الشرعي فسوف يتمّ الاستدلال بالآية الكريمة لأنّ هيئة الصنم والصنم ككل هو لا شيء شرعاً وقد ألغي وأُسقِط عن الماليّة ويُعَدُّ باطلاً شرعاً، ولكن لو كان المدار على الباطل العرفي فهذا ليس بباطلٍ عرفاً وإنما يتنافس عليه العقلاء كالآثار وما شابه ذلك فهو مالٌ عرفاً.
إذن الاستدلال يتمّ بناءً على كون المقصود هو الباطل الشرعي دون الباطل العرفي، ونحن نقول يحتمل أنّ المقصود من الباطل في الآية الكريمة - ويكفيني الاحتمال - هو الباطل العرفي فلا يتمّ الاستدلال بها لأنّ هذا ليس بباطلٍ عرفيّ، بل المقصود ذلك جزماً لأنّ الشرع حينما يشرّع حكماً ويصبّه على موضوعٍ فلابد وأن يكون المقصود من ذلك الموضوع هو الموضوع العرفي دون الموضوع الشرعي لأنّه لو كان الموضوع موضوعاً شرعيّاً لزم الدور وإحالة الشيء على نفسه، من قبيل أن يقول ( لا تأكل الحرام ) يعني الحرام شرعاً فإنّ هذا لا معنى له فإنّا نعرف أنّ هذا الشيء حرامٌ من النهي عن أكله فإذا انصب عدم جواز الأكل على الحرام الشرعي فهذا معناه توقّف الشيء على نفسه ويلزم من ذلك الدور كما هو واضح، وإذا فرض وجود أحكام من هذا القبيل فلابد من حملها على الارشاد فنقول إنّه يريد أن يؤكد على ترك المحرّمات الشرعيّة لا أنّ هذا هو بنفسه حكم شرعيّ آخر مستقلّ وإلا لزم ثبوت عقوبتين، فلابد حينما يقول ( لا تأكل المستقذر ) يعني ما هو مستقذر عرفاً فإذا كانت هناك مستقذرات عرفيّة كالبول والعذرة فهي مستقذرات عرفيّة إن صحّ التعبير فيكون النهي قد قصد منه هذا المعنى.
وفي موردنا نأتي ونقول:- إذا كان المقصود من الباطل هو الباطل الشرعي فمن أين نعرف أنّ هذا باطلٌ شرعيّ ؟ إنّا نعرفه من ( لا تأكل ) فيلزم بذلك الدور، فيتعيّن أن يكون المقصود من الباطل هو الباطل العرفي أي كلّ ما كان في نظر العرف باطلاً فلا تأكله، وإذا كان هذا هو المقصود من الآية الكريمة فسوف لا ننتفع منها لأنّ هذا ليس من قسم الباطل العرفي.
ثالثاً:- إنّ النهي المذكور في هذه الآية الكريمة إمّا أن يكون نهياً تكليفياً - أي ( لا تأكلوا ) - فيثبت بذلك الحرمة التكليفيّة دون البطلان، أو يكون المقصود هو الارشاد إلى الفساد يعني هو كناية عن البطلان والفساد وبذلك تثبت الحرمة الوضعيّة دون التكليفية، وكلاهما لا معنى لاستفادتهما من الآية الكريمة لا لأجل أنّه يلزم استعمال اللفظ الواحد في معنيين وهو مستحيل وإنما نقول هنّا ماذا نفسّر ( لا تأكلوا ) فهل نفسّرها بالنهي التكليفي أو بالنهي الارشادي ولا نحتمل الاثنين معاً ولا أقل احتمال الاثنين معاً خلاف الظاهر ؟ فإذا كان المقصود هو الأول فتثبت الحرمة التكليفيّة، وإذا كان المقصود هو الثاني فتثبت الحرمة الوضعيّة، وإذا كان المقصود هو الاثنين معاً فهو خلاف الظاهر، فالآية الكريمة لا يمكن أن يستفاد منها كِلا الحكمين، وبهذا يتّضح أنّ التمسّك بالآية الكريمة محلّ إشكال.
الوجه الثاني:- قوله تعال:- ﴿ ولا تعاونوا على الإثم والدوان ﴾[4] بتقريب:- أنّ بيع الصنم هو تعاون على الإثم والعدوان والآية الكريمة تقول تنهى عن ذلك، وقد يظهر هذا المعنى من كلمات الشيخ الأعظم(قده) في المكاسب[5]، وقد صرح به الشيخ النائيني(قده)[6].