36/08/19


تحمیل
الموضـوع:- مسألة ( 16 ) - المكاسب المحرمة -كتاب التجارة.
إن قلت:- إنّ التزويق يتحقّق بالرسم باليد، فمن رسم صوراً على جدار بيته فقد زوّقه، فإنّ التزويق بمعنى التحسين، والتحسين كما يتحقّق بتعليق الصورة يتحقّق برسمها أيضا . إذن سوف يثبت حرمة رسم الصور لأنها مصداقٌ للتزويق.
قلت:- إنّ النسبة بين العنوانين هي العموم من وجه، فقد يصدق التزويق بلا رسمٍ كتعليق الصور، وقد يصدق الرسم من دون تزويقٍ كما لو محى الرسم بمجرّد اكتماله فإن عنوان التزويق لا يصدق آنذاك ولو بسبب الانصراف عن مثل هذه الحالة التي لا استمراريّة فيها إذ التزويق قد أخذ فيه عنوان الاستمرارية . إذن لا يثبت حرمة الرسم بما هو رسمٌ ونحن نريد إثبات حرمة الرسم.
إن قلت:- إنّ التعبير الوارد في الرواية هو ( تصاوير التماثيل) والتصاوير جمع تصوير والتصوير يطلق على المعنى المصدري، فاذا صوّر شخصٌ حيواناً مثلاً فقد صدق عنوان التصوير، وليس المقصود من التصوير هو الصورة بل المقصود هو المعنى الحدثي أي نفس عملية التصوير، وعلى هذا سوف يثبت في الرواية أنّ تصوير التماثيل بعنوانه محرّمٌ.
قلت:- إنّ ما ذكر مجرّد احتمال، فكما هذا محتملٌ فذاك محتمل أيضاً . فإذن الرواية مجملة من هذه الناحية ولا يمكن من خلالها إثبات حرمة التصوير والرسم باليد.
بل يمكن أن نقول:- لو كان هذا هو المقصود فلا حاجة إلى الجمع بصيغة ( تصاوير التماثيل ) بل المناسب أن يعبّر بـــ( تصوير التماثيل ).
بل نقول أكثر:- وهو أنّ التصوير بالمعنى الحدثي قد لا يكون له صيغة جمعٍ وإنّما يستعمل بصيغة الإفراد - أي ( تصوير ) - أمّا ( تصاوير ) بمعنى الجمع للتصوير الذي هو الرسم فقد لا يكون ثابتاً في اللغة.
أذن أصل التصوير بمعنى الرسم لم يثبت لغةً، ولو ثبت فصيغة الجمع من البعيد أن يراد منها هذا المعنى، وعلى هذا الأساس لا يمكن أن نستفيد من الرواية هذا المعنى.
والذي نحتمله:- هو أنّ المقصود من الرواية شيء أخر وهو أن يكون المقصود تزويق البيوت بتماثيل الأصنام ورموز الشرك ونحو ذلك، وإلا فمجرّد تعليق صورة شجرةٍ مثلاً من البعيد أن يكون مشمولاً لهذا النهي وينزل الوحي لا جل تحريمه، إنّ القضيّة لابد وأن تكون مهمّة، والمهمة هي تعليق رموز الشرك في البيوت لأنّه خلاف مسألة التوحيد، ولكن يبقى كاحتمالٍ وجيهٍ، والمسألة من هذه الناحية متروكة للفقيه . نعم نبقى نصرّ على أن الرواية ناظرة إلى تزويق البيوت والتزويق شيءٌ والتصوير والرسم شيءٌ أخر.
ولو تنزلنا وقلنا بأنّ تزويق البيوت هو بمعنى التصوير والرسم ولكنّه أخصّ من المدّعى إذ غاية ما يثبت هو أنّ رسم الصور في البيوت لا يجوز، أمّا الرسم على الورق - كما هو محلّ الابتلاء - فلا تدلّ الرواية على تحريمه.
وأُلفت النظر إلى وجود رواية أخرى لأبي بصير أيضاً ومرويّة في المحاسن عن أبيه عن القاسم بن محمد عن علي بن أبي حمزة عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال:- ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله:- أتاني جبرئيل فقال:- يا محمد إنّ ربك ينهى عن التماثيل ) [1]، إنّ الوارد في هذه الرواية عبارة ( ينهى عن التماثيل ) وليس فيها تزويق البيوت حتى يقال هي أجنبيّة عن المقام فإنّ النهي فيها هو عن عنوان ( التماثيل ).
ولكن يرد عليها:- أنها لو تمّت سنداً وغضضنا النظر عن القاسم بن محمد الجوهري وعليّ بن أبي حمزة فالنهي متوجّه إلى عنوان التماثيل، فهناك فعلٌ مقدّرٌ، فلم يذكر( صنع ) أو ( إيجاد ) التماثيل لذا يرد عليها ما أوردناه على الرواية الأولى - أعني صحيحة محمد بن مسلم - من أنها مجملة من هذه الناحية فلا يمكن التمسّك بها إذ لعلّ المقصود هو وجود التماثيل في البيت أمّا مطلقاً أو في مكان الصلاة.
ومع غضّ النظر عن كلّ هذا يمكن أن نقول:- إنّ هذه الرواية ليست مغايرة لتلك الرواية بل هي نفسها، ولا ندّعي الجزم بذلك بل الاحتمال الوجيه فإنّ الراوي هو أبو بصير ووحدة الواقعة إذ لا يحتمل أنّ جبرئيل عليه السلام نزل مرّتين في هذه الواقعة، ولا أدّعي عدم الإمكان بل أقول هو شيءٌ بعيد . وإن لم تسلّم بهذا فوحدة الرواية قريبة حيث نقلت هناك بشكلٍ وهنا بشكلٍ، وحيث إنّ من المحتمل إرادة الشكل السابق فلا يمكن التمسّك بالتعابير الواردة فيها، وهذه نكتة صناعيّة ظريفة لا بأس بها.
الرواية الخامسة:- محمد بن الحسن بإسناده عن أحمد بن محمد بن عيسى عن محمد بن سنان عن أبي الجارود عن الأصبغ بن نُباتة قال:- ( قال أمير المؤمنين عليه السلام:- من جدّد قبراً أو مثّل مثالاً فقد خرج عن الإسلام )[2].
ورواها الصدوق في الفقيه مرسلة بلسان (قال)، ولعلّ دلالتها واضحة حيث ورد فيها ( فقد خرج عن الاسلام ) وهذا تعبير واضحٌ في الحرمة فإنّ الخروج عن الإسلام يلازم حرمة الشيء، ويثبت بذلك أنّ من مثّل مثالاً خرج عن الإسلام، وحيث إنّه مطلقٌ - أي مثلّ مثالاً بأيّ نحوٍ كان - فيتمسّك بإطلاقه، هكذا قد يقال في تقريب هذه الرواية.
وفي مقام الجواب نقول:- لو غضضنا النظر عن السند حيث ورد فيه محمد بن سنان وأبو الجارود، وبنينا على وثاقة الأصبغ بن نُباتة حيث ورد فيه أنّه من خواص أمير المؤمنين عليه السلام فنقول:- ما المقصود من قوله عليه السلام ( خرج عن الاسلام ) فهل الخروج هو الخروج الحقيقي - وهو النافع لإثبات الحرمة - أو الخروج الحكمي أي هو مسلمٌ ولكن آثار الإسلام لا تترتب عليه أو الخروج عن الإسلام الكامل نظير ( المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه ) فالمقصود فيه هو المسلم الحقيقي وبالمعنى الكامل، ونظير قوله تعالى ﴿ إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ﴾ [3]فالمؤمن الحقيقي والكامل هو من كانت هذه صفته ؟
إذن هذه ثلاثة احتمالات والنافع منها هو الأوّل، ولا إشكال في أن الظهور يقتضي الاحتمال الأوّل لأنّه المصداق الحقيقي للخروج عن الإسلام، أمّا بالمعنى الثاني والثالث فهو خروجٌ مجازيٌّ . ولكننا نعلم من الخارج أنّ هذا ليس من موجبات الخروج عن الإسلام ولا يحتمل ذلك، فمن مثّل مثالاً هل يخرج عن الإسلام حقيقة ؟! كلّا فإنه شيء لا يحتمله أحد خصوصاً إذا التفتنا إلى السياق فإنّ فيه عبارة ( جدّد قبراً ) فسواء فسّرنا ( جدد ) بتجديد القبر ببنائه من جديد أو ( حدّد) بمعنى سنّم القبر أو (جدّث) بمعنى جعله قبراً في قبر، وعلى كلّ هذه التقادير لا يحتمل أنّ من صنع ذلك يخرج عن الإسلام حقيقةً.
إذن المعنى الأوّل لا يمكن الأخذ به والمصير اليه، وهكذا المعنى الثاني فإنّ الشخص بمجرد أن يجدد قبراً أو يمثّل مثالاً فأحكام الإسلام لا زالت تطبّق عليه من طهارته وجواز تزويجه ولا يحتمل أحدٌ بأن أحكام الإسلام قد زالت عنه . نعم أقصى ما هناك هو الحكم بفسقه وجواز غيبته لا أنّ أحكام الإسلام قد زالت عنه، فالخروج الحكمي أيضاً من البعيد إرادته، فيتعيّن أن يكون المقصود هو الاحتمال الثالث - أي خرج عن الإسلام بمعناه الكامل - نظير ما أشرنا اليه في الحديث والآية الكريمة، ونحتمل - والله العالم - أن الرواية ناظرة إلى شيءٍ أخر وهو الإشارة إلى الأصنام والأوثان ورموز الشرك لا إلى رسم الصور وما أشبه ذلك وهذا التعبير لعلّه كان مألوفاً عندهم في تلك الفترة الزمنيّة.
وعلى أيّ حال الاستدلال والتمسّك بهذه الرواية شيءٌ صعبٌ كما قلنا.