36/03/21


تحمیل
الموضـوع:- مسألة ( 1 ) – المكاسب المحرمة -كتاب التجارة.
القضيّة الأولى:-
أمّا بالنسبة إلى الأصل الأوّلي في المعاملات وأنّه هل يقتضي الصحة أو الفساد فالكلام تارةً يقع بلحاظ الأصل العملي وأخرى بلحاظ الأصل اللفظي:-
أمّا بالنسبة إلى الأصل العملي[1]:- فلعلّ المعروف أنّه يقتضي الفساد - يعني عدم ترتّب الأثر -، والوجه في ذلك هو أنّ هذه المعاملة قبل أن تقع لم يترتب الأثر عليها وبعد أن وقعت نشك هل وقع الأثر أو لا فنستصحب الحالة السابقة وهي عدم ترتب الأثر، فلو شككنا هل يصحّ بيع الدم أو لا فنقول إنّه قبل إجراء المعاملة لم يكن هناك نقلٌ وانتقالٌ وبعد إجرائها نشك هل حصل النقل والانتقال أو لا فنستصحب عدم تحقّق النقل والانتقال، وهو ما يعبر عنه باستصحاب عدم ترتّب الأثر، وقد أشار الشيخ الأنصاري(قده) في مكاسبه إلى ما ذكرنا حيث ذكره في مسألة أنَّ اللفظ هل يعتبر في عقد البيع أو لا - غير المعاطاة - وهناك تكلّم في حكم الأخرس وقال تكفيه الإشارة إلى العقد إذا لم يكن قادراً على التوكيل بل هي كافية حتى إذا فرض أنّه يقدر عليه، وليس هذا لأجل أصالة عدم الاشتراط فإنّ الأصل يقتضي الاشتراط . فإذن ليس المنشأ لقيام الإشارة مقام اللفظ في حقّ الأخرس - رغم قدرته على التوكيل - هو أصالة عدم الاشتراط وإنما المنشأ هو قضيّة أخرى فإنّ طلاق الأخرس حيث يصحّ بالإشارة فيصحّ البيع بالأولويّة، أو ما شابه ذلك، ونصّ عبارته - التي ذكرها في مقدّمةٍ في ألفاظ البيع - هو:- ( وكذا مع القدرة على التوكيل لا لأصالة عدم وجوبه كما قيل لأن الوجوب بمعنى الاشتراط كما في ما نحن فيه هو الأصل ) فهو يريد أن يقول إنّ الاشتراط - أي الوجوب الوضعي كما في ما نحن فيه - هو مقتضى الأصل.
فبحسب النتيجة هو أنّ كلّ شرط شككنا في اعتباره في المعاملة فالأصل العملي يقتضي أنّه معتبرٌ لأنّ من دونه لا يمكن الحكم بتحقّق الأثر.
إلا أنّه قد يشكل ويقال[2]:- إنّ الأصل العملي يقتضي عدم الاشتراط، وحاصل ما أفاده:- هو أنّ حديث البراءة - أي ( رفع عن أمتي ما لا يعلمون ) - يمكن أن نتمسّك به وننفي به كلّ شرطٍ مشكوكٍ في صحّة المعاملة، فإذا شككنا مثلاً في اعتبار العربية أو الماضويّة أو غير ذلك فننفي ذلك بحديث ( رفع عن أمتي ما لا يعلمون ) فإن شرطيّة العربية غير معلومة لنا فننفيها بمقتضى ( رفع عن أمتي ما لا يعلمون ).
فإن قلت:- هذا وجيهٌ ولكن يوجد في المقابل أصلٌ آخر معارض هو استصحاب عدم ترتب الأثر فماذا تصنع ؟ فصحيحٌ أنّ مقتضى حديث ( رفع ما لا يعلمون ) أنّ الشرطية مرفوعة ولكن يأتي الاستصحاب - أي ( لا تنقض اليقين بالشك ) - من الجهة الأخرى ويقول إنّ الأثر لم يكن ثابتاً قبل تحقّق هذه المعاملة وبعد أن تحقّقت هذه المعاملة التي نشك في صحتها نستصحب عدم ترتب الأثر فيكون معارضاً لحديث ( رفع عن أمتي ما لا يعلمون ) فلم تفعل شيئاً، فإنه حتى لو سلّمنا أن حديث الرفع يشمل الشرطيّة المشكوكة في المعاملة لكن يوجد ما يعارض ذلك وهو الاستصحاب.
أجاب(قده) وقال:- إنّ المورد من الأصل السببي والمسبّبي والأصل السببي حاكم على المسببي، وما هو الأصل السببي والمسببي في مقامنا ؟ يقال:- إنّ شكّنا في ترتّب الأثر وعدم ترتّبه - في النقل والانتقال وهل أنّه حصل أو لا - ناشئٌ من أنه هل يشترط العربية أو لا، فإذا كان يشترط العربية فلا يترتب الأثر وإذا لم يشترط فيترتب الأثر، وعلى هذا الأساس يكون الشك في الشرطيّة شكٌّ سببي للشك في ترتّب الأثر، والأصل الجاري في الشك السببي حاكمٌ على الأصل المسبّبي، فعلى هذا الأساس تجري البراءة عن الشرطيّة المشكوكة فنرفعها بلا معارضٍ في البين لأنَّ استصحاب عدم ترتّب الأثر محكومٌ بهذا الأصل.
ولكن يبقى مطلبٌ:- وهو أنّه كيف تثبت أنّ حديث الرفع شاملٌ للشرطيّة المشكوكة في المعاملة فقد يقال هي خاصّة بباب التكليفيّات، يعني إذا شككنا أنَّ التدخين حرامٌ أو لا فيأتي حديث الرفع ويقول ( رفع عن أمتي ما لا يعلمون )، أو شككنا في أنّ الدعاء عند رؤية الهلال واجبٌ أو لا فيأتي حديث الرفع ويرفعه، أمّا أنّه شاملٌ للأحكام الوضعيّة مثل شرطيّة الشرط المشكوك في المعاملة فهذا كيف تثبته ؟
هناك جوابان:-
الأوّل:- وهو لم يذكره ولعله لشدّة وضوحه وهو التمسّك بالاطلاق فإن حديث ( رفع عن أمتي ما لا يعلمون ) مطلقٌ ولم يقيّد بالأحكام التكليفية والمدّعي لاختصاصه بذلك هو الذي يحتاج إلى دليل، أمّا المدّعي لكونه شاملاً للتكليفيّة وللوضعيّة فلا يحتاج إلى دليل لأنّ ذلك هو مقتضى الاطلاق فالإطلاق يكفينا.
الثاني:- توجد رواية صحيحة عن صفوان والبزنطي تدلّ على أنّ حديث الرفع صالحٌ للتطبيق في مجال الأحكام الوضعيّة، وقد طبّقه الإمام على الأحكام الوضعيّة، ونصّ الرواية:- ( عن أبي الحسن عليه السلام:- في الرجل يستكره على اليمين فيحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك أيلزمه ذلك ؟ فقال:- لا، قال رسول الله صلى الله عليه وآله رفع عن أمتي ما أكرهوا عليه وما لم يطيقوا وما اخطأوا )[3]، بتقريب:- أنه عليه السلام نفى صحّة هذا القسم والصحّة من الأحكام الوضعيّة، فعلى هذا الأساس يكون الحديث شاملاً للأحكام الوضعيّة التي منها الصحّة.
وواضحٌ أنّ هذا البيان يحتاج إلى ضمّ مقدّمتين حتى يتمّ:-
إحداهما:- أنّه لا فرق بين الصحّة وبين غيرها من الأحكام الوضعيّة كالشرطيّة في مقامنا، فمورد الرواية وإن كان هو الصحّة ولكن بضمّ عدم احتمال الفصل إلى الرواية يثبت التعميم لكلّ حكمٍ وضعيٍّ، ولعله لم يشر إلى هذا لوضوحه.
ثانيهما:- إنَّ هذا الحديث واردٌ فيما أُكرِهوا عليه ومالم يطيقوا وما أخطأوا بينما مورد شاهدنا هو رفع ما لا يعلمون، فكيف تثبت أنّ ( رفع عن أمتي ما لا يعلمون ) عامٌّ ويشمل الأحكام الوضعيّة ولا فائدة في أن تثبت أنَّ هذه الثلاثة شاملة للأحكام الوضعيّة ؟ نتغلّب على هذه المشكلة بعدم القول بالفصل أو بعدم احتمال التفصيل بين فقرةٍ وأخرى، فمادام قد ثبت أنَّ هذه الفقرات الثلاثة من الحديث شاملة للحكم الوضعي فحديث الرفع الذي ذُكِرَت فيه التسعة يكون شاملاً أيضاً بجميع فقراته للحكم الوضعي.
ويرد عليه:-
أوّلاً:- نحن نسلّم أن حديث الرفع شاملٌ للأحكام الوضعيّة من قبيل جزئية السورة إذا شككنا أنّها جزءٌ من الصلاة أو لا فالجزئية حكمٌ وضعيٌّ ويمكن تطبيق الحديث كما صنع الشيخ الخراساني(قده) في الكفاية، ولكن نقول:- إنَّ شرطيّة شيءٍ لحصول أثرٍ في باب البيع - مثل شرطيّة العربية أو الماضويّة - ليست قابلة لتطبيق حديث الرفع عليها لخصوصيّة فيها - ولا نريد أن ندّعي أنّ حديث الرفع لا يشمل كلّ حكمٍ وضعيّ -، والوجه في ذلك هو أنّ مرجع شرطية العربية مثلاً في البيع - أي حينما نقول العربيّة والماضويّة شرطٌ - يعود إلى أنّ الملكية تترتب عند اجتماع مجموع الشرائط التي منها العربيّة ولا تترتب الملكيّة عندما تكون العربيّة مفقودةٌ وغير حاصلة، فعلى هذا الأساس نقول أنت ماذا تريد أن ترفع ؟ هل تريد أن ترفع الملكيّة حين اجتماع الشرائط التي منها العربية فهذه ليست مشكوكةٌ بل نجزم بتحققها فلا معنى للرفع، فلابد وأن يكون المقصود هو تطبيق الحديث في حال وجود تسعة شرائطٍ من دون وجود الشرط التاسع، فأنت تريد أن تطبّق حديث الرفع حتى تثبت ماذا ؟ هل تثبت رفع الملكيّة أو أثباتها ؟ إنَّه لابد وأن يكون مقصودك هو أنّك تطبّقه حتى تثبت الملكيّة، ومن الواضح أنَّ حديث الرفع لا يقول إنّ الملكية ثابتةٌ عند عدم تحقّق الشرط المشكوك فإنّه لا قابلية له على ذلك لأنه يرفع ولا يثبت بل المناسب عدم ثبوت الملكيّة.
فإن قلت:- إنّي لا أريد أن أطبّق الحديث على الملكية المشكوكة حتى تقول إنّ لازم تطبيقه عليها ثبوت الملكيّة بل أطبّقه على الشرطية - كشرطيّة العربيّة أو الماضوية - فأقول الشرطيّةُ مشكوكةٌ فهي مرفوعة، نعم نتيجة رفعها هو ثبوت الملكيّة وهذا لا محذور فيه وحديث الرفع له القابلية على ذلك لأنَّ هذا في الحقيقة رفعٌ لا وضعٌ، نعم نتيجة الرفع هي ثبوت الملكيّة وذلك نحوٌ من التوسعة وهو موافقٌ للمنّة.
قلت:- إننا ذكرنا قبل قليل أنّ واقع الشرطيّة في باب المعاملات هو أنّ الملكية ثابتةٌ عند اجتماع الشرائط التي منها العربية وغير ثابتةٍ في حالة عدم اجتماع الشرائط - أي عدم تحقق العربية - وليست شيئاً قد جعله الشارع في مقابل هذا فلا معنى لتطبيق الحديث على الشرطيّة بعدما كانت لا واقع لها إلّا ما أشرنا إليه.
وبهذا يتّضح الفارق بين تطبيق الحديث في باب الأحكام التكليفيّة وبين تطبيقه في باب الأحكام الوضعيّة، فإنّه في الأحكام التكليفيّة كما لو شككنا أنّ السورة واجبةٌ أو لا فنقول التسعة واجبةٌ جزماً وأمّا العشرة فنشك في وجوبها فنرفع الوجوب عن العشرة - أو عن الجزء العاشر - . إذن هناك وجوبٌ متيقّنٌ وهو وجوب التسعة وهناك وجوبٌ مشكوكٌ وهو وجوب العشرة فنطبّق الحديث على وجوب العشرة فنرفعه وبذلك يثبت المطلوب . وهذا بخلافه في المقام فإنَّ الشك شرطيّة العربية يعني أن الملكيّة ثابتةٌ عند اجتماع العشرة وليست ثابتة عند التسعة من دون الشرط العاشر فإذا أردنا أن نطبّق الحديث فيلزم أن ندّعي أنّ الملكيّة ثابتةٌ عند تحقّق التسعة وحديث الرفع لا قابليّة له على إثبات الملكيّة وإنما هو يرفع لا أنّه يثبت.


[1] يعني لو فرضنا أنّه لا يوجد نصّ يدلّ على حكم المعاملة وأنها صحيحة أو فاسدة وبقينا نحن والأصل العلمي.
[2] وهذا ما ذكره الشيخ على الايرواني في الحاشيته على المكاسب، ج2، ص95، ط ذوي القربى.