17-07-1435


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

35/07/17

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضـوع:-مسألة ( 428 ) / الواجب الثاني عشر من واجبات حج التمتع ( المبيت بمنى ).
الأمر الثالث:- عرفنا أنّ استثناء الأمور الضرورية له تخريجات ثلاثة تقدّت الاشارة إليها، والآن نقول:- إنّ هذه التخريجات قد تختلف فيما بينها عملاً، فهي في الغالب قد لا تختلف عملاً ولكن قد يحصل اختلافٌ فيما بينها عملاً - وكانت التخريجات هي:- ( الأوّل:- انصراف المطلق إلى الفرد الغالب وهو ما يصاحب هذه الأمور من الاكل والشرب وغيرها، والثاني:- عدم تأثير ذلك على التسمية عرقاً فهذا يصدق عليه أنّه اشتغل طيلة الليلة بالعبادة، والثالث:- إن ما يدلّ على الاجتزاء بالاشتغال بالعبادة يدل ّبالالتزام على عدم قدح هذه الأمور وإلا يلزم لغوية التشريع ) - إن هذه التخريجات الثلاثة قد تختلف فيما بينها، ونذكر موارد الاختلاف وهي:-
من قبيل التدخين:- فلو فرض أنّ الشخص المشتغل بالعبادة أراد أن يدخّن ولا يريد أن يشتغل بالعبادة أثناء التدخين، إنّ هذا بناءً على التخريج الثاني الذي يقول لا يضر بالتسمية لا يكون حكمه الجواز لأنه بالتالي لا يضرّ بالتسمية.
بينما على التخريج الثالث الذي هو الملازمة العرفيّة الموجبة للدلالة بالالتزام على عدم قدح ذلك فلا يتمّ هنا لأن التدخين لم يكن موجوداً في ذلك الزمان وليس من المصاحبات في ذلك الزمان حتى يقال إنّ ما دلّ على جواز الاشتغال بالعبادة يدلّ بالالتزام على جوز التدخين وإنما الذي كان مصاحباً هو الأكل والشرب وقضاء الحاجة وغيرها من هذه الأمور التي هي من لوازم كلّ إنسان أمّا التدخين فليس من اللوازم لكل إنسان فالدليل الدال على جواز الاشتغال لا يدلّ بالملازمة على جوازه.
وهكذا التخريج الأوّل لعله لا يأتي لأنّ هذا ليس هو الفرد الغالب، نعم الفرد الغالب هو المصاحب كالأكل والشرب وقضاء الحاجة وما شاكل ذلك إما مثل التدخين فلا.
وهكذا لو فرض أن الإنسان أراد الاتصال بالموبايل فإن الاتصال بشخصٍ يحتاج إلى مقدّمات من تحصل الرقم والانتظار لفترةٍ وهذا الانتظار لتحصيل الرقم وما شاكله بناءً على التخريج الثالث لا يكون مستثنىً لأنه ليس من اللوازم بل هو شيءٌ جديد، وهكذا على التخريج الأوّل يمكن أن يقال هو لا يأتي، أمّا بناء على لتخريج الثاني فلا يكون مضرّاً باعتبار أنّه فترة قليلة لا يضرّ بتسمية أنّه مشتغلٌ بالعبادة طيلة الليلية.
ولحدّ الآن هذه جهة ايجابية للتخريج الثاني وسلبية للتخريجين الآخرين.
ولكن قد نفترض مثالاً آخر تكون فيه القضيّة بالعكس، يعني تلزم السلبيّة بلحاظ التخرج الثاني والإيجابية بلحاظ التخريجين الآخرين، كما لو فرضنا أن الانسان احتاج إلى قضاء الحاجة ولكّنه احتاج إلى فترةٍ طويلةٍ لسببٍ وآخر - فإن الفترة المتعارفة هي ثلاث أو أربع دقائق ولكن هذا احتاج إلى ربع ساعة مثلاً - فإن مثل هذا قد يكون مضراً على التخريج الثاني لأنّ هذه فترة ليست بالقصيرة فتضرّ، بخلافه على مثل التخريج الثالث فإن قضاء الحاجة من الملازمات غايته قد تكون قضاءها لشخص لفترةٍ قصيرةٍ ولآخرٍ قد تكون كثيرة فقد يقال إنّ ذلك لا يؤثر بناءً على التخريج الثالث، وقد يقال إنّه لا يؤثر أيضاً على التخريج الأوّل، فهذا يحسب ايجابيّة للتخريج الأوّل والثالث.
وهكذا لو فرض الإنسان حينما يريد أن يأكل يبقى لفترةٍ طويلةٍ فالكلام هو الكلام، يعني إذا كان أكلة يستغرق نصف ساعة مثلاً فهذا قد يقال هو يضرّ بالتسمية بخلافه على التخريجين الآخرين . وهكذا لو فرض أنّ فترة الأكل مثلاً لم تكن طويلة ولكن أراد أن يذهب لقضاء الحاجة أو يأكل فلو أردت أن تجمع هذه الفترات فقد تكون كلّ واحدةٍ بمفردها هي متعارفة ولكن عند جمعها قد تصير فترةً كبيرةً وتضرّ بالتسمية، فعلى هذا الأساس أيضاً تكون مؤثرة على التخريج الثاني وقادحة في صدق الاسم بخلافه على التخريجين الآخرين.
والخلاصة:- إن الذي نريد أن نلفت النظر إليه هو أنّ هذه التخريجات قد تختلف من الناحية العمليّة والأمثلة والمصاديق قد نختلف بها ولكن بشكلٍ كليّ هذا المطلب مقبولٌ - وهو أنّ هذه التخريجات قد تختلف في بعض النتائج -.
الأمر الرابع:- إنَّ الانشغال بالعبادة في مكة على ما تقدّم يقوم مقام المبيت بمنى.
والسؤال:- هل يلزم في الانشغال في مكة بالعبادة أن يكون طيلة الليلة - يعني من الغروب إلى طلوع الفجر - أو أنه يكفي أن يكون بمقدار هو أحد النصفين إمّا النصف الأوّل أو النصف الثاني ؟
والجواب:- احتمل الشهيد(قده) في دروسه[1] الاكتفاء بمقدار نصف الليل، وعلّق صاحب المدارك(قده) على ذلك بقوله:- ( إنه غير واضح )[2]، ومقصوده هو أنّ الدليل لا يساعد على ذلك.
ومن المناسب أن نرجع الى الروايات ونلاحظ أنها ماذا تقتضي[3]:- والروايات المتعرضة إلى قضية البدل - وهو الانشغال بالبدل في مكة بالعبادة - هي صحاح معاوية الثلاث، وتوجد أيضاً رواية أخرى وهي صحيحة صفوان، فالروايات إذن التي ينبغي مراجعتها هي أربع، وأما غيرها من الروايات فلم يتعرّض لهذه القضيّة.
ولكن قبل أن نلاحظ الروايات نقول:- إذا ثبت أن ظاهرها هذا أو ذاك - يعني تمام الليل أو ثبت أنه نصف الليل - فذلك هو المطلوب لأنّه إذا كان هناك ظهورٌ فنأخذ به وأمّا إذا كانت مجملة ومردّدة من هذه الناحية فالمناسب آنذاك المصير إلى الأصل العملي، وهو ماذا يقتضي ؟ إنه يقتضي البراءة، باعتبار أنّ الذمّة قد اشتغلت جزماً بالحجّ المقيّد بالمبيت في أحد النصفين أو الانشغال العبادة في أحد النصفين أيضاً أمّا انشغالها بأكثر من ذلك - يعني المقيّد بالمبيت في أحد النصفين أو الانشغال تمام الليل - فهذه كلفة زائدة في أحد فردي التخيير وهي حيث لم تثبت ولا دليل عليها ولا جزم بها فيمكن حينئذٍ نفيها بالبراءة.
إذن مقتضى الأصل العملي هو البراءة لأن اشتغال الذمة بالعبادة تمام الليلة أمرٌ ليس بمعلومٍ وإنّما المعلوم هو لزوم الاشتغال في الجملة أمّا أن يكون بتمام الليلة فهذا شيءٌ مشكوك فينفى بالبراءة.
وقد يقول قائل:- إنَّ المناسب في تنقيح الأصل هو أن نلاحظ أن الانشغال بالعبادة هل هو مسقطٌ أو بديلٌ ؟ فإذا قلنا أنّه مسقطٌ يعني أن الذمة منشغلة بالمبيت والعبادة في مكة دورها دور المسقط لما اشتغلت به الذمّة فبناءً على هذا الاحتمال يكون المناسب هو الاشتغال إذ الذمة مشتغلة بالمبيت في منى جزماً ونشكّ هل سقط هذا الاشتغال بفعل العبادة في نصفٍ من الليل أو لا ؟ فهل هذا يسقط ذلك الاشتغال السابق أو لا ؟ والمناسب تطبيق قاعدة الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني[4]، وعلى هذا الأساس إذا بنينا على أنّ الانشغال بالعبادة في مكّة مسقطٌ ففي مورد الشكّ يكون المناسب هو الاشتغال، أمّا إذا كان بديلاً فالمناسب آنذاك هو البراءة إذ الشك آنذاك يكون شكّاً في أنّ الذمة هل اشتغلت بالمبيت أو الانشغال بتمام الليل أو أنّها اشتغلت بالمبيت أو الانشغال في الجملة - يعني ولو بمقدار نصف الليل - ؟ والمتيقن هو هذا الثاني وما زاد فهو مشكوكٌ فينفى بالبراءة.
إذن مسألة الأصل العملي لابد وأن تربط بأن الاشتغال بالعبادة هل هو مسقطٌ أو هو واجبٌ بنفسه، فبناءً على كونه مسقطاً يكون المدار هو الاشتغال، وأمّا بناءً على أنّه واجب بنفسه فحينئذٍ يكون المناسب هو البراءة.
ومن باب الكلام يجرّ الكلام نقول:- ومن هذا القبيل مسألة صلاة الجماعة إذا شككنا في اعتبار شرطٍ أو جزءٍ فيها ولا ندري هل يعتبر في الجماعة أن لا يكون هناك فاصلٌ معتدٌّ به بين الصفوف وبين المأمومين أو لا ؟ وهل يعتبر في الجماعة أن تكون الصفوف كلّها في مكانٍ واحد لا أن بعضها هنا وبعضها في الطابق الثاني ؟ أو غير ذلك، فالأصل ماذا يقتضي إذا شككنا في اعتبار شيءٍ في صلاة الجماعة ؟ فهل المناسب هو البراءة أو هو الاشتغال ؟
هنا أيضاً قد تربط المسألة بهذه فيقال إنَّ صلاة الجماعة هل هي مسقطٌ أو واجب بنفسه ؟ فإذا قلنا هي مسقطٌ يعني أنَّ الواجب الأوّل الذي اشتغلت به الذمة هو صلاة الفرادى وأمّا الجماعة فهي مسقطٌ لما اشتغلت به الذمّة فالمناسب آنذاك هو الاشتغال لأنّا نشكّ هل تحقّق المسقِط أو لم يتحقّق، أمّا إذا قلنا إن صلاة الجماعة هي بنفسها واجبة يعني أنّ الشرع الاسلامي أوجب بنحو التخيير من البداية إمّا صلاة الفرادى أو صلاة الجماعة لا أنّ الواجب أوّلاً هو الفرادى والجماعة مسقطٌ له، إنّه بناءً على هذا لو شككنا في اعتبار قيدٍ في الجماعة فالمناسب هو أصل البراءة لأنه شكٌّ في أصل التكليف وليس في الشكّ في السقوط.
إذن هذه مسألة مهمّة ويمكن تطبيقها في هذا المجال أيضاً .
وعلى أيّ حال في مسألتنا - وهي الانشغال بالعبادة في مكة - قد يربط مقدار الوقت بكون هذا الانشغال هو مسقطٌ للواجب أو أنّه واجبٌ بنفسه ؟، هكذا قد يقال.
وتعليقنا:- هو أنّ هذا حوالة على مجهول لأن النصوص لم تتعرّض لهذه القضيّة ولا يمكن أن يستفاد من تعابيرها أنَّ الانشغال في مكة بالعبادة مسقطٌ أو هو واجبٌ بنفسه، إنَّ هذا كلامٌ أصوليٌّ بحت.
ولكن الذي يهوّن الخطب هو أنه بالتالي نبقى شاكّين في أنَّ الانشغال بالعبادة مسقطٌ أو واجبٌ ؟ وهذا الشكّ يبقى مستمراً لأن النصوص لا يظهر منها شيء والحوالة المذكورة حوالة على مجهولٍ، والنتيجة لا تتغّير بذلك لأنه بالتالي حينما نشك ولا ندري أنّ ذمّتنا قد اشغلت بالانشغال بالعبادة كاشتغالها بالمبيت أو لم تشتغل وأنّ الذي اشتغلت به هو المبيت بمنى فقط ؟ إنه بالتالي يمكن أن أقول أنا اشكّ في اشتغال ذمتي - فبالتالي يعود هذا صحيحاً - بالعبادة تمام الليلة فالبراءة تكون جارية حينئذٍ.
إذن ربط الأصل بهذا المبحث بعد فرض أنّ النصوص لا تشخّص ولا تعيّن أحد الاحتمالين لا يؤثر على النتيجة شيئاً لأن المكلّف بالتالي يبقى شاكاً في أنّ ذمته هل اشتغلت بالعبادة طيلة الليلة أو لا ؟ إنّ هذا يبقى شيء مشكوك فيكون المرجع هو البراءة.
إذن من خلال هذا اتضح أن الأصل العملي يقتضي البراءة فيمكن الرجوع إليه فيما إذا كانت الروايات مجملة من هذه الناحية
والآن فلنعد إلى الروايات:-
الرواية الأولى:- صحيحة معاوية بن عمّار المتقدّمة:- ( إذا فرغت من طوافك للحجّ وطواف النساء فلا تبِت إلّا بمنى إلّا أن يكون شغلك في نسكك . وإن خرجت بعد نصف الليل فلا يضرّك أن تبيت في غير منى )[5]


[1]  الدروس، الشهيد الأول، ص134.
[3]  وواضحٌ أنّ المعروف بين فقهائنا أنه يلزم طيلة الليل لا خصوص أحد النصفين.
[4]  التي مستندها أمران أحدهما حكم العقل فإن العقل يقول ( مادمت تجزم باشتغال الذمة فلابد وأن تجرم ببراءتها أما احتمال الفراغ فلا ) هكذا يقول قول العقل القطعي وهذا ما يصطلح عليه الأصوليون بالاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني، وثانيهما هو الاستصحاب فلو قال شخص أنا لا أقبل الأحكام العقلية فنقول له يوجد عندنا استصحاب لأن التكليف بالمبيت في منى كان ثابتاً جزماً ونشكّ في سقوطه وزواله فنستصحب بقاءه.