39/07/30


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

39/07/30

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- مسألة ( 51 ) وقوع البيع بالمعاطاة - المكاسب المحرّمة.

وتوجد عبارة مختصرة للشيخ الأعظم(قده ) في المكاسب لا يبعد أنه يريد أن يشير إلى كلّ هذا المطلب الذي بيناه حيث قال:- ( ويدل عليه[1] ايضًا عموم فوله تعالى " وأحل الله البيع " حيث إنه يدل على جميع التصرفات المترتبة على البيع[2] ، بل قد يقال بأنَّ الآية دالة عرفاً بالمطابقة على صحة البيع لا مجرّد الحكم التكليفي لكنه محل تأمل[3] )[4] ، فإذن هذه العبارة الموجزة لا يبعد أنها تريد أن تشير إلى التقريبين اللذين أشرنا إليهما.

ولكنه قال:- ( لكنه محلّ تأمل ) فالضمير الموجود في كلمة ( لكنه ) لمن يرجع - وهذه قضية جانبية لا ترتبط بالتقريبين- ؟ ولماذا ارادة الحلّ الوضعي محل تأمل الذي بناءً عليه تكون الآية مباشرة تدل على إمضاء المعاطاة ؟ كأنَّ النكتة في ذلك:- هي أنَّ الحلّ المتعارف والمفهوم عرفاً هو التكليفي وأما الحلّ الوضعي فهو مصطلح علمي فقهي وتحميله على القرآن الكريم هو تحميلٌ خارج عنه عليه.

أقول:- إنَّ الحلَّ الوضعي كلفظ نعم هو مصطلح أصولي أو فقهي وليس لغوياً ولكن واقعه يدركه العرف ، فأحياناً حينما ينسب الحلّ إلى الأمر الاعتباري مثل البيع فأنت تقبّل بسرعة كانسان عرفي أنَّ ﴿ أحلَّ الله البيع ﴾ أو ( البيع حلال ) أو ( بعت واشتريت ) لا يحتمل حرمتها ، فإذن حينما يقول القائل البيع حلال أو أحلّ لكم البيع نفهم منه كعرفٍ يعني أنه ممضى ونافذ ومقبول ، فإذن لا مشكلة من هذه الناحية ، وبهذا انتهينا من تقريب دلالة الآية الكريمة على صحة المعاطاة وإمضائها وأنها تفيد الملكية.

قد تذكر في المقام بعض الاشكالات نذكر منها ثلاثة:-

الاشكال الأوّل:- إنَّ التسّمك بإطلاق الآية الكريمة لإثبات حلّية امضاء المعاطاة هو تمسّك بالإطلاق أو العموم في الشبهة المصداقية ، وهذا الاشكال أثاره الشهيدان الأوّل والثاني.

وتقريب الاشكال:- إنه من المحتمل - ويكفينا الاحتمال - أنَّ ألفاظ المعاملات موضوعة لخصوص الصحيحة دون الشامل للفاسدة ، فإذا كان الأمر كذلك نضم مقدّمة ثانية وهي أنّ البيع من دون صيغة[5] أنه صحيح شرعاً ، فإذا لم نجزم بأنه صحيح شرعاً فتمسكنا بإطلاق ﴿ أحلّ الله البيع ﴾ يكون تمسكاً بالإطلاق في الشبهة المصداقية كما هو واضح.

وإنما قلت ( يكفينا الاحتمال ) لأنه بالتالي ما دمنا نحتمل أنَّ كلمة البيع موضوعة لخصوص الصحيح الشرعي فعلى هذا الأساس لا يجوز التمسّك بهذا الاطلاق ، لأنه من المحتمل أن يكون من التمسّك بالإطلاق في الشبهة المصداقية ، وأنت أيها المستدل عليك أن تثبت بنحو الجزم أنَّ القصود من كلمة البيع وسائر ألفاظ المعاملات أنها موضوعة للأعم من الصحيح والفاسد ، وحيث لا مثبت بل نحتمل أنها موضوعة للصحيح الشرعي ، والصحيح الشرعي يشك صدقه على المعاطاة لاحتمال أنَّ الصحيح الشرعي يعتبر فيه الصيغة ، فإذن يكون من التمسّك بالعام أو الاطلاق في الشبهة المصداقية وهو لا يجوز ، والنكتة في عدم جواز التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية هي أنَّ العام يثبت حكماً فيقول مثلاً ( أكرم الفقير ) أو ( صلّ خلف العادل ) ، أما أنَّ هذا عادل أو لا وأنَّ هذا فقير أو لا فهو لا يتكفل بيان ذلك فإنَّ الحكم لا ثبت موضوع نفسه.

وأجاب الشيخ الأعظم(قده) في المكاسب على هذا الاشكال حيث قال:- إنني أجزم بأنه ليس موضوعاً للصحيح الشرعي ، بل هو موضوع للأعم ، والدليل على ذلك سيرة الأعلام فإنها جرت على أنه متى ما شكّوا في اعتبار قيدٍ من القيود كالعربية والماضوية فإنهم يتمسّكون بالإطلاق ، بينما بناء على ما ذكره الشهيدان لا يمكن التمسّك بالإطلاق ، يعني ينسدّ باب التمسّك بالإطلاق ، لأنه من دون العربية أو من دون الماضوية لا نجزم بأنَّ هذا صحيح فلا يجوز التمسّك بالإطلاق ، بينما جرت سيرة الأعلام على التمسّك بالإطلاق ، قال ما نصّه:- ( وقال الشهيد الأول في قواعده:- الماهيات الجعلية كالصلاة والصوم وسائر العقود لا تطلق على الفاسد إلا الحج لوجوب المضي فيه انتهى ....... ويشكل ما ذكراه بأنَّ وضعها للصحيح يوجب عدم جواز التمسّك بإطلاق نحو "وأحلّ الله البيع " واطلاقات سائر العقود في مقام الشك في اعتبار شيء فيها مع أنَّ سيرة علماء الاسلام التمسّك بها )[6] .

وهل هذا الجواب مقبول أو لا ؟ لعلك تقول:- إنهم لم يلتفتوا إلى أنَّ هذا تمسّك بالإطلاق في الشبهة المصداقية ، ولكن إنَّ ارتضيته فبها .

وإلا فيمكن أن نجيب بجوابٍ آخر غير ما أفاده الشيخ الأعظم(قده) وذلك بأن يقال:- إنَّ لفظ البيع وغيره هو من الألفاظ التي كانت متاولة قبل الاسلام وفي ذلك الزمان لا معنى لكونها موضوعة للصحيح الشرعي ، لأنه لا يوجد شرع اسلامي ، فكونها موضوعة للصحيح الشرعي غير محتمل ، نعم المحتمل أنها موضوعة للصحيح العرفي ، وحينما نقول هي موضوعة للصحيح العرفي ليس المقصود أنها موضوعة لمفهوم الصحيح العرفي وإلا لزم الترادف يعني متى ما سمعنا بكلمة بيع فيلزم أن يتبادر إلى ذهننا الصحيح العرفي ، كلا بل المقصود أنها موضوعة لواقع الصحيح العرفي ، فإذا كان كذلك نضمّ مقدمة ثانية وهي أنَّ القرآن الكريم حينما استعمل كلمة البيع قصد منها ذلك المعنى العرفي الذي كان متداولاً كما هو واضح فإنَّ الأحكام تنصب على العناوين العرفية كما هو واضح ، ونضمّ إلى ذلك مقدّمة أخرى وهي أنه إذا رجعنا إلى العرف فإننا نرى أنَّ المعاطاة بيع عرفاً ، فعلى هذا الأساس تم الاستدلال بها بلا لزوم محذور التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية ، وقد خفي ذلك على الشيخ الأعظم(قده).

الاشكال الثاني إن يقال:- إنَّ الآية الكريمة ليست في مقام البيان من ناحية أجزاء البيع وشرائطه ، وإنما هي فقط تريد أن تبيّن أن البيع يختلف عن الربا ، فإنَّ الربا حرام في الشريعة والبيع حلال ، فهي في مقام البيان بهذا المقدار أما ما هي الأجزاء والشرائط فهي ليست في مقام البيان من ناحيتها ، فلاحظ الآية الكريمة حيث تقول ﴿ الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبّطه الشيطان من المسّ ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحلّ الله البيع وحرّم الربا ﴾[7] ، فإذن هي ناظرة إلى أنهم قالوا ( إنه لا فرق بين الربا والبيع فإنَّ الربا بيعٌ فإذا كان البيع حلال فالربا حلال أيضاً ) والآية الكريمة جاءت تردهم وتقول إنَّ الأحكام تنصب على العناوين والله تعالى حلّل عنوان البيع وحرّم عنوان الربا ، فإذن غاية ما يستفاد منها أنَّ هذا حلال وذاك حرام أما ما هي الأجزاء والشرائط فهي ليست في مقام البيان من هذه الناحية ، فلا يجوز التمسّك بإطلاق ﴿ وأحلّ الله البيع ﴾ ، والحال أنَّ علمائنا يتمسّكون بإطلاقها ، وحتى الشيخ الأعظم(قده) تمسك بها في المكاسب من أوّل المكاسب إلى آخرها ، كما أنَّه لم يشر إلى هذا الاشكال وكان من المناسب الاشارة إليه.


[1] أي يدل على ثبوت الملك في المعاطاة من البداية.
[2] وهذا اشارة إلى التقريب الثاني يعني بناء على أن المراد هو الحلية التكليفية.
[3] يعني تدل على الحلية الوضعية فأحلَّ يعني الحلَّ الوضعي.
[4] كتاب المكاسب، الأنصاري، ج2، ص40.
[5] الذي هو عبارة عن المعاطاة.
[6] كتاب المكاسب، الأنصاري، ج2، ص19.