39/07/28


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

39/07/28

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- وقوع البيع بالمعاطاة - مسألة ( 51 ) - المكاسب المحرّمة.

مطالب ثلاثة ترتبط بالموضوع:-

المطلب الأول:- ذكرنا أنه قد يتمسك بسيرة المتشرعة وقد يتمسك بسيرة العقلاء ، وفي هذا المجال نذكر هذه الفائدة ، وقد ذكرناها سابقاً ولكن الآن نسلّط الأضواء عليها ، فنقول:- إنه متى ما فرض وجود سيرة عقلائية جزماً أو احتمالاً بدرجة معتدّ بها فسيرة المتشرعة لا يمكن التمسك بها من باب احتمال أنها نشأت من المتشرعة لا بما هم متشرعة بل بما هم عقلاء ، فصحيح أنَّ زرارة ومحمد بن مسلم وغيرهما في زمن الامام الصادق عليه السلام كانوا يجرون المعاطاة ولكن نحتمل أنَّ هذا كان منهم بسبب النزعة العقلائية لا بما هم متشرعة ، فننتهي إلى أنه لا يمكن التمسّك بكلتا السيرتين معاً ، لأنه متى ما افترضنا وجود سيرة عقلائية أو احتملناها فسيرة المتشرعة لا يمكن الجزم بها.

اللهم إلا أن يكون المقصود على سبيل منع الخلو ، يعني أنَّ مقصودك حينما تقول هناك سيرة متشرعة وسيرة عقلاء يعني أنه لا يخلو الأمر من أحدهما ، وهذا فلا باس به ، يعني إما أن تكون هناك سيرة متشرعة ولو غضضنا النظر عنها فسيرة عقلاء ، فإذن يكون الاستدلال بواحدة منهما وليس بالاثنين معاً.ومن خلال هذا يتضح التأمل في الاستدلال على حجية الظواهر وخبر الثقة مثلاً حيث قرأنا في الحلقة أنه يستدل على ذلك بسيرة المتشرعة وسيرة العقلاء معاً ، أما سيرة المتشرعة فإنه لا إشكال في أنَّ أصحاب الأئمة عليهم السلام كانوا يعملون بظاهر الأحاديث الواردة عن الأئمة السابقين ، وسيرة العقلاء واضح أنها موجودة ، فهنا ظاهر عبارته أنه تمسّك بكلتا السيرتين ، ولكن لابد وأن يكون المقصود إما سيرة متشرعة إذا غضضنا النظر عن الجنبة العقلائية أو سيرة عقلاء ، فالأمر لا يخلو من إحدى السيرتين لا أنه تمّسك بكلتا السيرتين.

والخلاصة:- إنه لا يمكن الجمع في مقام الاستدلال بين السيرتين ، ومن جمع فلابد أن يكون مقصوده أنه لا يخلو الأمر من إحدى السيرتين.

المطلب الثاني:- ذ كر الشيخ الأعظم(قده) أنَّ سيرة العقلاء على المعاطاة قد يقال بأنه مردوع عنها برواية ( إنما يحلل الكلام ويحرّم الكلام ) ، والرواية هي:- ( يجيئنا الرجل يقول لي اشتر لي هذا الثوب واربحك كذا وكذا فقال عليه السلام: أليس إن شاء أخذ وإن شاء ترك ؟ قال: نعم ، قال: إنما يحلّل الكلام ويحرّم الكلام ) ، وتقريب دلالتها على أنَّ المعاطاة باطلة ولا تفيد الملك هو أنه توجد عدة احتمالات فيها ، ونحن ذكرنا ثلاث احتمالات ، الأول منها أنَّ ( إنما يحلل ويحرّم الكلام ) يعني أنَّ جميع الأشياء في الدينا حلّيتها وحرمتها تدور مدار الكلام ، ولازم هذا أنَّ المعاطاة لا تفيد الملكية ، وهذا الاحتمال هو الذي ينفعنا في الردع عن المعاطاة وأنها لا تفيد الملكية ، ثم ذكرنا الاحتمال الثاني والثالث ولكنهما لا ينفعان في الردع عن المعاطاة ، ثم بعد ذلك أبطلنا الاحتمال الأوّل بما تقدم.

ولكن الذي نريد أن نقوله:- هو أنَّ الطريقة التي كانت هي أننا جعلنا قاعدة ( إنما يحلل الكلام ويحرّم الكلام ) ناظرة إلى باب المعاطاة على الاحتمال الأوّل ، أما على الاحتمال الثاني والثالث فليست ناظرة إلى أنَّ حلّية الأشياء كلّها تدور مدار الكلام وإنما يحتمل أنَّ المقصود أنَّ المضمون الواحد قد يحلّ بكلامٍ ويحرم بكلامٍ آخر ، كما في المرأة لو قالت ( آجرتك نفسي ) فلا تحلّ ، أما لو قالت ( زوجتك نفسي ) فتحلّ ، ولكن هذا أجنبي عن باب المعاطاة ، وهكذا الاحتمال الثالث.

أما الآن فنحن نريد أن نذكر احتمالاً آخر في المقصود من الرواية لم يشر إليه الشيخ الأعظم(قده) وقد فاته:- فهذ الرواية قد ذكرها الشيخ الطوسي(قده) في التهذيب في أبواب النقد والنسيئة ، وما هو الربط ؟ ، فنحن جعلناها في موردٍ آخر وهو أنَّ المدار مثلاً في حلّية الأشياء على الكلام ، بينما الشيخ الطوسي(قده) جعلها فبي أبواب النقد والنسيئة ، وصاحب الوسائل(قده) سكت عن هذا ولم يبينه ، فنفس ذكر الشيخ الطوسي(قده) لها في باب النقد والنسيئة سوف يجعلنا ننتقل إلى احتمالٍ آخر في المقصود من الرواية ، فهي أجنبية عن مسألة أنَّ حلّية الأشياء تدور مدار الكلام ، فكل ما ذكرناه أجنبي عنها ، فإنَّ الرواية تريد أن تبيّن مطلباً آخر وهو أنها تريد أن تبيّن حيلة من حيل الربا ، فهناك طريقة للفرار من حرمة الربا ، وهي كما لو فرض أني محتاج للمال ولم يقرضني أحد وكانت عندي ثلاجة فأبيعها إلى شخصٍ بمليون دينار نقداً فأقول له بعتك هذه الثلاجة بمليون دينار - وهي تسوى مليون دينار - فصار المليون دينار عندي ، ثم بعد ذلك أقول له أنا أشتري منك هذه الثلاجة بمليون ومائتان ألف دينار لفترة شهرين فيقول قبلت ، فترجع الثلاجة لي وبالتالي ذاك الشخص يأخذ المليون مع الفائدة ، فهل هذه الطريقة الربوية جائزة أو لا ؟ إنَّ مقتضى القاعدة والأصول بقطع النظر عن الرواية أن هذا جائز لأنَّ هذا بيع ببيع ، ولكن قالت الروايات إذا أخذ البيع الثاني شرطاً في البيع الأوّل فلا يجوز والفتوى من الفقهاء على هذا في باب شروط البيع ، ولكنهم لم يبينوا ذلك بل بينونها كما هو موجود في الروايات وهو أنه لا يجوز أن تبيع لشخصٍ شيئاً على أن تشتري منه ذلك الشيء مع أخذ البيع الثاني شرطاً في البيع الأوّل ، وهذا تعبّد ، فإذن انسدّ باب هذه الحيلة الربوية ، لأنَّ هذا شرط ضمني بينهما والشرط الضمني كالشرط الصريح ، فهذه الطريقة لا تجوز سواء كانت ربا أو غير ربا ، فهي غير الربا ولكنها لا تجوز.

ولا يبعد أنَّ الشيخ الطوسي(قده) حينما ذكرها في كتاب التهذيب في باب النقد والنسيئة فهم منها هذا المعنى ، يعني الاشارة إلى مسألة البيعين للفرار من الربا ، وكيف نطبقها في قمامنا ؟ نطبقها هكذا:- يأتيني شخص ويقول اشتر لي هذا الثوب وأربحك كذا وكذا ، يعني أنَّ المقصود أنك اشتره أوّلاً لنفسك ثم بعه لي فأربحك بسعر أفضل ولكن المقصود نسيئة فقال عليه السلام: ( أليس إن شاء اخذ وإن شاء ترك ) يعني لا يوجد إلزام بالبيع الثاني فإذا لم يكن إلزام بالبيع الثاني فلا بأس بذلك ، فإنَّ الذي يحلل ويحرّم هو الكلام يعني الإلزام فإذا كان هناك كلام بنحو يوجب الإلزام بينهما فهذا باطل ولا يجوز ، وأما إذا كان مجرّد مواعدة فلا مشكلة ، فليس من البعيد أنَّ الشيخ الطوسي(قده) فهم منها هذا المعنى ولذلك ذكرها في باب النقد والنسيئة ، لأن البيع الأول يصير بالنقد وأما البيع الثاني فيصير بالنسيئة ، لأنَّ الشخص الأول يشتري هذا الثوب لنفسه نقداً ثم يبيعه للثاني نسيئة بزيادة ، فالرواية تريد أن تشير إلى هذا المطلب.

وتوجد قرينة على أنَّ المقصود هو هذا المعنى ، وهي أنَّ هذا الشخص قال ( اربحك كذا وكذا ) ، يعني أنت اشتره لي وأنا أربحك ، ووجه القرينية هو أنه إذا لم يكن المقصود هذه الطريقة التي بيناها فلا حاجة إلى أن يقول ( ربحك كذا وكذا ) بل فليذهب هذا الطالب بنفسه ويشتري الثوب نقداً وبعس أقل بلا حاجة إلى أن يربح ذلك الطرف ، فإذن لابد أنه لا يوجد عنده مال ويريد أن يتّبع هذه الطريقة فينتفع الاثنين من خلالها.إذن ما صنعه الشيخ الطوسي(قده) شيء جميل وإن لم يبيّن النكتة ، وكان من المناسب للشيخ الأعظم (قده) الاشارة إلى هذا الاحتمال.والذي نريد أن نقوله:- هو أنه هل أنه بناء على هذا التفسير لا يجوز التمسّك بها أو تبقى على حالها صالحة للتمسّك بها سواءً فسّرناها بذاك التفسير السابق أو بهذا التفسير ، فهل الاستدلال بها على عدم صحة المعاطاة وعدم افادتها للملك سوف يسقط أو لا ؟

الجواب:- كلا ، بل يبقى الاستدلال بها تاماً على كلا التقديرين ، لأنَّ الرواية أعطت قاعدة وهي ( إنما يحلّل الكلام ويحرّم الكلام ) ، فهذه الفقرة جعلت حلّية الأشياء وحرمتها تدور مدار الكلام ، وحيث إنَّ المعاطاة ليس فيها كلام فحينئذٍ تصير باطلة ، فإذن الاستدلال بهذه الفقرة بَعدُ تاماً ، غايته أنَّ هذا الاحتمال باطل كما ذكرنا ، لأنَّ جعل حلية كلّها تدور مدار اللفظ شيء بعيد ، وإنما لابد من ابداء احتمالات أخرى.

إذن الخريطة التي رسمناها سابقاً سوف لا تختل.