38/03/20


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

38/03/20

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: مسألة ( 28 ) الاجارة على الواجبات - المكاسب المحرمة.

وما ذكره الاردبيلي قد يتأمل فيه:-

أما بالنسبة الى حديث نفي الضرر:- فقد قرأنا أنه حديث نفي لا حديث اثبات ، فهو ينفي الحكم الذي يولّد الضرر ، أما هو فلا يثبت حكماً يجبر الضرر ويدفعه ، فمثلا وجوب الوضوء في الأيام الباردة للشخص المريض يولّد الضرر له فيرتفع هذا الوجوب لأنّ هذا الوجوب يسبب الضرر ، أما تعال الى موردنا وهو أنه لو خرج الحر من السجن وضمنا له هذا الضمان سوف يجبر الضرر الذي أصابه في السجن لأنّه حبس شهر أو شهرين وقد فات عليه العمل ، هذا جبرٌ للضرر ورفع للضرر فالحكم بالضمان هنا نريد أن نستفيده حتى ندفع الضرر عن هذا الانسان المحبوس لا أنه يوجد حكم ضرري في حقة ويراد رفعه حتى نتمسّك بقاعدة نفي الضرر.

فإذن هذه القاعدة تقول كل حكم شرعي ثابت في الشريعة إذا نشأ منه الضرر فهو يرتفع ، ولا تستطيع أن تقول نحن نثبت بهذه القاعدة الحكم الذي يجبر الضرر فهذا لا تدل عليه القاعدة ، والضمان هنا في الحقيقة جبرٌ للضرر لا أنه يوجد عندنا حكم يسبب الضرر حتى يراد رفعه.

وإذا سألتني وقلت:- من أين لك أنك أن قاعدة لا ضرر هي قاعدة نافية وليست مثبته ، فهي تنفي الحكم الضرري لا أنها تثبت حكماً يدفع الضرر ويجبره ويتداركه ؟

قلت:- إنه لسان القاعدة ، فهي تقول ( لا ضرر ولا ضرار ) ، فأقصى ما يثبت هو أنه لا حكم ينشأ منه الضرر ، أما أنه يثبت حكمٌ يجبر الضرر فهذا لا تثبته فإن اللسان لسان نفيٍ لا لسان اثبات.

وأما بالنسبة الى الآيتين الكريمتين فجوابهما واضح:- فهي في الحقيقة ناظرة الى أنه لابدّ وأن تحازي بالمثل ، كما لو حبسك فأنت تحبسه لا أنه يكون ضمان ، فالضمان ليس جزاءً بالمثل إنما الجزاء بالمثل هو أن أحبسه كما حبسني مثلاً ، أما أنه نقول بثبوت الضمان فلا ، فعلى هذا الاساس ما ذكره الاردبيلي واضح التأمّل.

عود الى صلب الموضوع:- وكان هو الوجه الثاني من الوجوه التي يستدل بها على أنّ عمل الحر ليس بمال ، وهو أنه لو كان مالاً يلزم أنه لو حبس ثبت الضمان لعمله ، ونحن في الاثناء قلنا إن الفقهاء مختلفون بأنه يوجد ضمان أو لا يوجد ضمان ، ونحن أنهينا هذه القضية ، والان نرجع إلى أنَّ هذا الوجه هل هو تام أو ليس بتام ، لو كان عمل الحر مالاً فلو حبس يلزم من ذلك ثبوت الضمان ؟

والآن دعونا نسلّم ونقول والحال لا ضمان مثل ما ذكر المحقق الحلي(قده) مثلاً فحينئذٍ كيف نجيب عن هذا الوجه الثاني؟ وجوابه أن يقال:- إنه ليس من لوازم المالية الضمان دائماً ، بل ذلك قد يثبت وقد لا يثبت ، فهناك بعض الأموال مسلّم أنها أموال ولكن رغم ذلك لا يثبت الضمان ، فليس من لوازم المالية الضمان دائماً يعني ملازمة دائمية ، كلا فهذه الملازمة ليس ثابتة دائمية ، نعم الغالب والطابع العام هو كذلك - أنه أذا كان الشيء مالاً يثبت الضمان بالحبس وبالتفويت وغير ذلك - أما أنه لازم دائمي فلا ، ونمثل بمثال:- كما لو فرض أن شخصاً أخذ عباءتي أو كتابي أو فراش بيتي أو سيارتي الخاصة يوماً أو يومين أو شهراً من دون أن يستوفي المنافع بعلمٍ أو بجهلٍ فلو استرجعته منه هل أقول له أنت فوّت منافعه عليّ فتكون أنت ضامناً رغم أنه لم يستوفِ المنافع ؟ إنه لم يثبت ضمانٌ للعين إذا لم يحصل فيها ضرر ولم يستوفِ المنافع ، ففي مثل هذه الحالة العباءة أو غيرها مال ومنافعها مال أيضاً والحال أنه لا ضمان ، نعم إذا استوفى المنافع وكانت السيارة مثلاً سيارة أجرة فهذه قضية ثانية ، أما إذا كانت السيارة شخصية وليست للأجرة والعباءة أيضاً ليست للأجرة بل هي عباءتي – وهو تصرف بها اشتباهاً بل حتى عمداً - لا نحتمل هنا ثبوت الضمان.

إذن ليس من لوازم المالية ثبوت الضمان ، فقد تثبت المالية أحياناً ولا ضمان كما مثلنا بهذه الأمثلة وغيرها ، فعلى هذا الأساس هذا الوجه الثاني وهو أنه لو كان عمل الحر مالاً يلزم ضمانه لو حبس ، هذه الملازمة لا نسلّمها إذ لم يثبت أن كل مال يثبت ضمانه بالحبس كما مثلنا بالأمثلة المذكورة.

الوجه الثالث:- ما ذكره الشيخ النائيني(قده )[1] ، وحاصله:- إنه لو كان عمل الحر مالاً يلزم أنه لو كان الحر محجوراً عليه - يعني كان مفلّسا أو سفيهاً - يلزم أن لا نجوز له أن يتصرّف في هذه الطاقة - أي في عملة - بأن يذهب ويعمل عملاً لفلان قربة الى الله تعالى ، فنقول له إنّ عملك هذا مال وأنت محجور عليك فلا يجوز لك أن تتصرف في هذا المال ، فانت أيها المفلّس أو السفيه لا يجوز لك أن تعمل عملاً لفلان وغير ذلك حتى الأعمال القربية لأن هذا تصرّف في المال والسفيه والمفلس ممنوعان من التصرّف.

ويمكن أن يجاب عليه:-

أولاً:- يمكن أن نقول:- نعم المناسب أنه لا يجوز له أن يتصرف ، لكن سيرة المتشرعة أو سيرة العقلاء الممضاة جارية على تصرف السفيه والمفلّس بلا ردع شرعي ، وهذا هو الذي جعلنا نخرج عن مقتضى القاعدة ، فهذه السيرة موجودة وهي التي منعتنا من التمسك بما ذكر.

وثانياً:- أن يقال:- نجيب بفكرة القصور في المقتضي ، فنقول إن ما دل على منع السفيه أو المفلّس من التصرف في ماله هو من الأوّل قاصر عن شمول مثل عمله ، بل هو ناظر الى المال المنفصل لا الى المال المتصل إن صحّ التعبير ، والمال المنفصل مثل بيته أو سيارته أو غير ذلك ، أما عمله الذي هو مال متصل به وليس منفصلاً عنه فدليل الحجر قاصر عن شموله ، فهذا يحتاج الى ثبوت هذه الدعوى ، فإن ثبتت فهي نعم الجواب ، ولكن كيف نثبت ذلك ؟

وباختصار نقول:- نذهب الى كتاب الحجر ونلاحظ المستند الذي منع السفيه من التصرف في أمواله والدليل الذي منع المفلّس من التصرف في أمواله.

أما بالنسبة الى السفيه:- فتوحد عندنا آيتان كريمتان مع رواية ، والآية الكريمة هي:- ( وابتلوا اليتامى حتى اذا بلغو النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا اليهم أموالهم )[2] ، ودلالتها واضحة فإنها اشترطت شرطين في جواز دفع أموال اليتامى إليهم الأول إذا بلغوا النكاح يعني كناية عن بلوغ السن الشرعي ، والثاني أن يكون رشيداً ليس سفيهاً ، فيثبت من ذلك أن البلوغ وحده لا يكفي لجواز تصرّف الانسان في أمواله ، وإنما هناك شرط آخر وهو أن يكون رشيداً بمعنى أنه يعرف كيف يتصرف في الأموال ، وهذه الآية الكريمة الواضح منها بقرينة ( فادفعوا اليهم ) أنه (فادفعوا ) أصلا لا يصدق إلا في الأموال المنفصلة أما الأموال المتصلة فلا معنى له ، فيوجد قصور في المقتضي بلا اشكال.

والآية الثانية هي قوله تعالى:- ( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولاً معروفاً )[3] ، وهنا الآية الكريمة قالت ( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم ) ومن الواضح أن من يأتي من خارج الحوزة العلمية يقول إن معناها هو أن أموالك أنت أيا الانسان لا تعطيها للسفيه ، ولكن هذا الاحتمال ليس موجوداً وانما المقصود من كلمة ( أموالكم ) هو أموال السفيه ، فأموال السفيه لا تعطيها له ، ولكن لماذا عبّر بـ ( أموالكم ) ؟ لأجل أنّي وذلك الشخص واحد فإنَّ نظرة الاسلام الى جميع المؤمنين أنهم كنفسٍ واحدة ، وأما كلمة ( قياماً ) يعني جعلكم قوّامين على هذه الأموال فلا تؤتوها السفهاء ، فهذه الآية الكريمة دلت على أنه مادام متلبساً بصفة السفيه فلا تؤتوهم أموالكم فإنه لا يجوز ، فدلت على مانعية السفه من التصرف في أموال نفسه ، ولكن أي أموال هي ؟ هي الأموال المنفصلة بقرينة ( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم ) وهذا لا يصدق إلا على الأموال المنفصلة دون المتصلة مثل العمل المتصل فإن هذا لا معنى له.

فإذن كلتا الآيتين الكريمتين قاصرتان عن شمول المال المتصل.

ومن هذا القبيل رواية حمزة بن حمران:- عن أبي جعفر عليه السلام في حديث قال:- ( إنّ الحارية ليست مثل الغلام ، إنّ الجارية اذا تزوجت ودخل بها ولها تسع سنين ذهب عنها اليتم ودفع إليها مالها وجاز أمرها في الشراء والبيع ..... )[4] ، والشاهد هو قوله عليه السلام ( ودفع إليها مالها ) فإنها دلت على أنه مادامت ليست بالغة فلا يدفع المال فشرط جواز دفع المال أن تكون بالغة.

وهذه الرواية قد لا تكون أخذت عنوان السفه وإنما أخذت عنوان البلوغ فقط فلعلّ الاستشهاد بها يكون مشكلاً من هذه الناحية ، لكن لو أمكننا أن نعممها الى حالة ذهاب السفه بقرينة ( وجاز أمرها في الشراء والبيع ) لنفعت.

فعلى أيّ حال هي خاصة بالأموال المنفصلة ، فإذن الدليل هو قاصرٌ عن شمول مثل العمل.

وأما بالنسبة الى الفلّس:- فقد يكون المستند في المنع موثقة غياث بن إبراهيم عن جعفر عن أبيه:- ( أنّ علياً عليه السلام كان يفلِّس الرجل إذا التوى على غرمائه ثم يأمر به فيقسّم ماله بينهم بالحصص فإن أبى باعه وقسّم بينهم )[5] ، والشاهد هو أن الامام عليه السلام كان يفلّس الرجل إذا التوى على غرمائه ولم يتمكن من وفائهم فيحكم عليه بالفَلَس ثم يأمر به فيقسَّم ماله بينهم بالحصص ، فهو يتصدّى لتقسيم ماله بالحصص ، فهنا حينما يقال ( يقسّم ماله ) فالمقصود هو ماله المنفصل لا ماله بمعنى الذي يشمل العمل.

نعود الى صلب الموضوع ونقول من حديد:- إنه نتمسّك مضافاً الى السيرة التي جعلناها رداً أولاً نتمسّك بردٍ آخر وهو القصور في المقتضي ، ودليل منع السفيه أو المفلّس مختص بخصوص الأموال المنفصلة دون المتصلة.

وبهذا ننهي حديثنا عن الوجه الخامس من الوجوه التي يستدل بها على أنَّ الاجارة على الواجبات لا تجوز.

 


[1] منية الطالب، النائيني، ج1، ص104.