33/04/02


تحمیل
  (بحث يوم السبت 2 ربيع الثاني 1433 هـ 82)
 كان الكلام في ذكر الأدلة التي استُدلّ بها على قول المشهور من عدم وجوب التكسّب على المدين وعدم جواز إلزامه به وتقدّم ذكرُ الدليل الخامس [1] ودَفْعُ ما أُشكل به عليه من جهة السند وتعقيب ذلك بذكر تقريب دلالته بالتمسّك بالإطلاق المقامي من جهة ظهور سكوت الإمام (عليه السلام) عن إلزام الزوج المعسر بالتكسّب في عدم وجوب التكسّب عليه بعد البناء على عدم وجود عبارة (ولم يأمره بالتكسّب) في نصّ الرواية - كما هو الصحيح - .
 ولكن نوقش في هذا الاستدلال من جهتين :
 الأولى :

عدم تمامية الإطلاق المقامي في المورد بمعنى أنه لا دلالة في سكوت الإمام (عليه السلام) على عدم وجوب التكسّب من جهة أن الرواية ليست في مقام ما يجب على الزوج المعسر حتى يكون الإطلاق المقامي المُستفاد من سكوت الإمام (عليه السلام) مقتضياً لعدم وجوب التكسّب .
 الثانية :

لو سُلّمت تمامية الإطلاق المقامي فإن غاية ما يَثبت به هو عدم إلزامه (عليه السلام) للزوج المعسر بالتكسّب ولا دلالة في هذا على عدم وجوبه عليه فإن القضية المنقولة في الرواية عبارة عن واقعة جزئية خارجية لا قضية كلية ينعقد لها الإطلاق ومن المحتمل دخالة بعض الظروف الخاصة في الحيلولة عن إلزامه بالتكسّب كما لو كان الإمام (عليه السلام) قد علم أن الشخص غير قادر على التكسّب أصلاً أو كان قادراً ولكن لم يتيسّر له الكسب المناسب لشأنه وعلى ذلك فلا يمكن أن نستدل من سكوت الإمام (عليه السلام) عن إلزامه بالتكسّب على عدم وجوب التكسّب عليه [2] .
 ومن هنا يتبين عدم تمامية شيء مما استُدلّ به للقول المشهور [3] وبناء عليه تصل النوبة إلى التمسّك بمقتضى الأصل العملي المقتضي لوجوب التكسّب لفرض توقف وجود الواجب عليه لما تقدّم من أن أداء الدين بالنسبة إلى المدين واجب مطلق - وليس واجباً مشروطاً - فتجب حينئذ مقدماته الوجودية التي يتوقف عليها وجود الواجب خارجاً ويتفرّع على هذا وجوب إلزامه به أيضاً باعتبار أن الحاكم هو المسؤول عن إحقاق الحقوق وإيصالها إلى أصحابها فإذا فُرِض توقّف ذلك على أن يتكسّب المدين المعسر فبإمكان الحاكم إلزامه به .
 هذا .. ويمكن أن يُستفاد وجوب التكسّب من معتبرة غياث بن إبراهيم ورواية الأصبغ المتقدّمتين لأنهما تصرّحان بأن الإمام (عليه السلام) كان يحبس في الدين فإن تبيّن له إفلاس المدين وحاجته خلّى سبيله حتى يستفيد مالاً - بناءً على أن (حتى) تعليلية بمعنى (لأجل) فإن المفهوم منه أن علّة إطلاق سراحه وتخلية سبيله إنما هي استفادة المال الذي يفي بأداء الدين وهذا إنما يتحقّق بالتكسّب فيكون التكسّب واجباً لتحقيق تلك الغاية ويتفرّع عليه جواز أن يُلزمه الحاكم به في ما لو امتنع أو يسجنه لما تقدّم من أن الحاكم هو المسؤول عن إحقاق الحقوق وإيصالها إلى أصحابها والمفروض توقف ذلك على استفادة المال التي تتحقّق بالتكسّب ؛ ولو خُدش في هذا البيان ففي التمسّك بمقتضى الأصل المذكور غنى وكفاية .
 وكيف كان فالذي يظهر مما تقدّم أنه لا خصوصية للتكسّب في المقام بل يعمّ مطلق ما يتوقف عليه أداء الدين الواجب وإنما خُصّ التكسّب بالذكر من باب كونه المصداق الأبرز لتحقيق ذلك فيلزم بناءً على هذا قبول الهبة - مثلاً إلا إذا فُرض كونه حرجياً عليه أو كونه مستلزماً لتوهين شأنه فلا يجب حينئذ بلا إشكال بل إن بعض فقهائنا (رض) - وهو الشيخ (قده) في النهاية على ما هو المنسوب إليه - التزم بأنه يجوز للحاكم أن يدفع المُعسر نفسه إلى الغرماء ليؤاجروه أو يستعملوه شريطة أن لا يكون ذلك حرجياً عليه ولا موجباً للتوهين بشأنه والظاهر أن مستنده في ذلك رواية السكوني عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام) : " أن علياً (عليه السلام) كان يحبس في الدين ثم ينظر فإن كان له مال أعطى الغرماء وان لم يكن له مال دفعه إلى الغرماء فيقول لهم اصنعوا به ما شئتم إن شئتم آجروه وان شئتم استعملوه " [4] .
 ولكن الأصحاب لم يوافقوا الشيخ (قده) في ما ذهب إليه ولم يعملوا بمقتضى هذه الرواية وإن كانت عندهم تامة سنداً بل إن بعضهم ناقش في سندها فقال بعدم اعتبارها ولا بد أن يكون ذلك من جهة النوفلي بل والسكوني أيضاً - على رأي بعضهم - .
 ولكن تقدّم أنه يمكن إثبات وثاقة النوفلي بوجوه ذُكرتْ في محلّها ، وأما السكوني فقد تقدّم أيضاً ما يدلّ على وثاقته فالرواية من حيث السند معتبرة والمناقشة فيه غير متّجهة .
 نعم .. استشكل بعضهم في الرواية من جهة أخرى وهي الحجية فقال بأن مضمون هذه الرواية مخالف للقواعد ولعمل الأصحاب كما أصرّ على ذلك الشيخ الأنصاري (رض) بل والشيخ نفسه أيضاً إذ لم يظهر منه المخالفة للأصحاب والالتزام بهذه الفتوى وقد تقدّم أن صاحب مفتاح الكرامة ذكر أنه تتبّع كتاب النهاية فلم يجد ما يشير إلى أن الشيخ (قده) يذهب إلى ما نُسب إليه مما هو موافق لمضمون الرواية ولذلك نجد أنه (قده) في باب الدين قد وافق الأصحاب وفي باب آخر اقتصر على ذكر الرواية فقط .
 وبهذا يظهر أن الأصحاب مطبقون على عدم العمل بهذه الرواية ممّا يحقّق كبرى الإعراض عن الرواية المعتبرة سنداً وهو موجب لوهنها وسلب الحجية عنها .
 فالنتيجة أن رواية السكوني موهونة بالإعراض ولا عامل بها مما يوجب سقوطها عن الحجية .
 هذا .. وقد ناقش بعضهم في دلالة الرواية - بقطع النظر عن المناقشة في سندها فقال بعدم إمكان الالتزام بمضمونها وذلك من جهة مخالفتها للعقل والنقل :
 أما مخالفتها للعقل فباعتبار أن ظاهر الرواية هو تجويز تسليط شخص على آخر ليفعل به ما يشاء وهذا ممنوع بحكم العقل لأن فيه سلباً للحرية .
 وأما مخالفتها للنقل فمن جهة أن دفع المعسر إلى الغرماء ليستعملوه أو يؤاجروه مخالف مع ما دلّ على لزوم الإنظار كقوله تعالى : (فنظرة إلى ميسرة) .
 وأقول : يمكن المنع من كلتا المخالفتين :
 أما بالنسبة إلى المخالفة مع العقل فإنه وإن كان الوارد في الرواية هو قوله : (اصنعوا به ما شئتم) ولكن من الواضح بقرينة الذيل أنه ليس المراد من : (ما شئتم) على إطلاقه ليلزم ما يُشبه الاستعباد [5] ليقال بكونه ممنوعاً بحكم العقل وإنما المراد المؤاجرة للغير وأخذ الأجرة وفاءً للدين أو الاستعمال للنفس في الأعمال المقدورة للمدين من الصناعة والزراعة والتجارة وجعل ذلك عوضاً عمّا في ذمة المدين فالغرض من ذلك إذاً هو أن يتمكّن المدين المعسر من تحصيل المال الوافي بأداء الدين الواجب والعقل لا يمنع من أن يُؤاجَر المدينُ المعسِر أو يُستعمَل توفية لدينه إذا كان ذلك غير حرجي له وغير مخالف لشأنه كما لو كان هو نفسه عاملاً وكاسباً .
 وأما بالنسبة إلى المخالفة مع النقل فهي غير لازمة لما ذكرنا من قبلُ أن وجوب التكسّب على المعسر وكذا مؤاجرته من قبل الغرماء للغير أو استعماله لأنفسهم لا ينافي إنظاره فإن المقصود بالإنظار في الآية الشريفة كما تقدّم - هو عدم مطالبته بالمال ما دام معسراً وهذا لا ينافي إلزام الحاكم له بالتكسّب أو دفعه إلى الغرماء ليؤاجروه أو يستعملوه لتحصيل المال الوافي بأداء الدين في زمان الإنظار .
 فتحصّل ممّا تقدّم أن الأقرب ما ذهب إليه جملة من المحققين من القول بوجوب التكسّب بل الالتزام بالتعميم لغيره أيضاً مما يتوقف عليه أداء الدين الواجب مما ليس فيه حرج على المعسر أو التوهين بشأنه كقبول الهبة - مثلاً كما الأقرب جواز إلزام الحاكم له بذلك مع مراعاة عدم الحرج أو التوهين.
  هذا ما يرتبط بالحالة الثانية التي يكون عليها المقرّ وهي الإعسار .
 بقي الكلام في الحالة الثالثة وهي ما لو لم يُعلم حال المدين المقرّ بالدين من حيث إعساره أو واجديته للمال فما هو حكمه ؟
 وأهمّ ما يُطرح هنا هو أنه هل يجوز حبسه لغرض استعلام حاله - وهو ما يُسمى بالحبس الاستظهاري - ليتبيّن كونه معسراً أو واجداً للمال ليلحقه الحكم الخاص بحالته أم لا يجوز ذلك بل على الحاكم أن يتبيّن حاله بطرقه الخاصة ؟
 الذي يظهر من بعض الروايات التي مرّ ذكرها جواز مثل هذا الحبس [6] كرواية السكوني المتقدّمة التي اشتملت على قوله (عليه السلام) : " أن علياً (عليه السلام) كان يحبس في الدين ثم ينظر .. " حيث يمكن تعليله بأنه إذا لم يُحبس المدينُ - الذي لم يُعلم حاله - ليُستظهَر فقد يكون في الواقع موسراً ويتصرّف في أمواله تصرّفات يُلحق نفسه بها بالمعسِر كما لو استغلّ كونه مخلّى السبيل ونقل جميع أمواله إلى محلّ غير معلوم .
 وللكلام تتمة ستأتي إن شاء الله تعالى .


[1] وهو رواية السكوني .
[2] وهذا الجواب يتأتّى حتى لو فُرض أن الفقرة التي أُضيفت في ملحقات العروة إلى الرواية كانت موجودة في نصّ الرواية واقعاً .. ولكن قد عرفت أنها أجنبية عنها . (منه دامت بركاته)
[3] وهو عدم وجوب التكسب على المدين المعسر وعدم جواز إلزامه به .
[4] التهذيب مج6 ص300 ، الوسائل أبواب الحج الباب السابع الحديث الثالث مج18 ص418 .
[5] أي صيرورة المدين عبداً للدائن يفعل به ما يشاء .
[6] أي الحبس الاستظهاري .