33/03/22


تحمیل
 (بحث يوم الأربعاء 22 ربيع الأول 1433 هـ 76)
 كان الكلام في أدلة عدم التوقف - أي أن حكم الحاكم لا يتوقف على طلب المدّعي - وتقدّم ذكر ثلاثة أدلة على ذلك :
 الدليل الرابع : التمسّك بسيرة العقلاء القائمة على إطلاق وظيفة الحاكم وأن الحاكم له أن يحكم وإن لم يطلب منه المدّعي ذلك كما هو المعلوم من سيرة القضاة غير الشرعيين في زمان الأئمة (عليهم السلام) وبضميمة عدم ورود الردع عنها يثبت إمضاء مضمونها شرعاً .
 ونوقش في هذا الدليل بأنه إن كان المقصود هو الاستدلال بما هو المتعارف خارجاً بين القضاة غير الشرعيين من عدم إناطة الحكم بطلب المدّعي فهو واضح المنع إذ لا حجية لعملهم حتى يكون دليلاً على ثبوت مثله عند الشرع .
 وإن كان المقصود هو الاستدلال بالكبرى المعهودة في بعض الأبحاث الاستظهارية من أن سكوت الشارع عن بيان شيء بحيث يلزم من عدم بيانه الإخلال بالغرض يقتضي أنه أوكل الأمر فيه إلى ما هو المتعارف خارجاً فيكون هو المقصود شرعاً أي أنه اكتفى عن بيانه بالتعارف الخارجي ، وفي المقام حيث سكت الشارع المقدّس ولم يُبيّن الإطلاق [1] لفرض عدم العثور على دليل يكون مطلقاً من هذه الناحية كما لم يبيّن التقييد لو كان مراداً له والمسألة تحتاج إلى تشخيص وتعيين فيُفهم من ذلك أنه أوكل الأمر فيها إلى ما هو المتعارف خارجاً من عمل القضاة ولو كانوا غير شرعيين وحيث إن عملهم كان قائماً على عدم تعليق الحكم بصورة طلب المدّعي فيكون هذا هو الثابت شرعاً من غير حاجة إلى ضميمة عدم ورود الردع .
 ولكن هذا الوجه مخدوش أيضاً فإن الكبرى المزبورة وإن كانت مسلّمة - من جهة أنه يلزم من ترك تعيين الحدّ من دون الإيكال إلى ما هو المتعارف الإخلالُ بالغرض وعدمُ تمكّن المكلّف من امتثال الحكم الشرعي في مورده وذلك من قبيل ما ذُكر في باب النفقة حيث يكون الشخص ملزماً بها شرعاً تجاه زوجته وعياله - مثلاً - مع عدم ورود نصّ بتحديدها شرعاً والحال أن امتثال الأمر بها يتوقف على معرفة مقدار المأمور به منها فيُفهم من ذلك أن الشارع أوكل الأمر فيها إلى ما هو المتعارف خارجاً والمعيّن عرفاً فلا يبقى المكلّف متحيِّراً بشأنها - إلا أن انطباقها في المقام ممنوع وذلك لعدم وصول الأمر في ما نحن فيه إلى الوقوع في الحيرة والتردد فإنه مع عدم ورود دليل مطلق يُثْبِت عدم إناطة الحكم بصورة طلب المدّعي أو مقيّد يُثْبِت إناطته بها يكون دليل المشروعية والنفوذ مجملَ الحدود فتصل النوبة حينئذ إلى التمسّك بالقدر المتيقَّن منه وهو الالتزام بأن حكم الحاكم إنما يكون جائزاً في خصوص صورة طلب المدّعي .
 والنتيجة عدم تمامية هذا الدليل أيضاً .
 الدليل الخامس : ما قد يقال من أن إطلاق وظيفة الحاكم وثبوت حقّ الحكم له بقطع النظر عن طلب المدّعي يُفهم من اقتضاء ما يدلّ من الأدلة على سقوط تعلّق حقّ المدّعي بالدعوى بعد رفعه لها ويكون الأمر فيها من حيث الحكم ومقدماته وشؤونه موكولاً إلى الحاكم وخالصاً له وهذا معناه أن حكم الحاكم لا يكون متوقّفاً على طلب المدّعي لانقطاع صلته بالقضية بعد رفعه لها إليه ، نعم .. غاية ما يثبت للمدّعي حقّ التنازل عن الدعوى ورفع يده عنها .
 ومن تلك الأدلة الدالة على انقطاع صلة المدّعي بالقضية بعد رفعه لها إلى الحاكم :
 صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) :
 " قال : سألته عن الرجل يأخذ اللص يرفعه ؟ أو يتركه ؟ فقال : إن صفوان بن أمية كان مضطجعاً في المسجد الحرام فوضع رداءه وخرج يهريق الماء فوجد رداءه قد سرق حين رجع إليه فقال : من ذهب بردائي ؟ فذهب يطلبه فأخذ صاحبه فرفعه إلى النبي (صلى الله عليه وآله) : فقال النبي (صلى الله عليه وآله) : اقطعوا يده ، فقال الرجل : تقطع يده من أجل ردائي يا رسول الله ؟ قال : نعم ، قال: فأنا أهبه له ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : فهلّا كان هذا قبل أن ترفعه إليّ ، قلت : فالإمام بمنزلته إذا رفع إليه ؟ قال : نعم " [2] .
 ومنها أيضاً موثّقة سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) :
 " قال : من أخذ سارقاً فعفا عنه فذلك له ، فإذا رفع إلى الامام قطعه ، فإن قال الذي سرق له : أنا أهبه له لم يدعه إلى الإمام حتى يقطعه إذا رفعه إليه ، وإنما الهبة قبل أن يرفعه إلى الإمام ، وذلك قول الله عز وجل : (والحافظين لحدود الله) فإذا انتهى الحدّ إلى الإمام فليس لأحد أن يتركه " [3] .
 ولكن نوقش في الاستدلال بهاتين الروايتين - وما بمضمونهما - أن موردهما أجنبي عن محلّ الكلام وذلك من جهة أن الروايتين تتحدّثان عن عفو الشخص عن حقّه وهبته له وهو فرع ثبوته له أولاً مع أنه أول الكلام في ما نحن فيه إذ لم يثبت الحقّ للمدّعي في ما يدّعيه بعدُ كما أن مورد الروايتين هو تقديم السارق لإقامة الحدّ عليه ولم يُفترض فيهما إقامة دعوى لدى الحاكم في خصومة ومنازعة على حقّ وأين هذا ممّا نحن فيه من أن المدّعي إذا رفع دعواه إلى الحاكم لينظر فيها فبعد ثبوت إقرار المُدّعى عليه بمضمون الدعوى فهل للحاكم أن يحكم استناداً إلى الإقرار من دون طلب المدّعي .
 هذا .. مع أن جواز رفع المدّعي يده عن الدعوى بعد إقامته لها وثبوت حقّ التنازل له عنها يشير إلى أن له نحو ارتباط بها ولم تنقطع صلته بها بمجرد رفعها إلى الحاكم .
 وينبغي الالتفات في هذه المسألة إلى أمرين :
 أولهما : إن محلّ الكلام في هذا الفرع والتساؤل عن توقف حكم الحاكم على طلب المدّعي وعدمه إنما هو بعد المرافعة لا قبلها فإن من الواضح أنه لا يجوز للحاكم الحكم قبل المرافعة ولو ثبت لديه الإقرار وجداناً أو تعبّداً .
 وثانيهما : إن في باب الإقرار خصوصية استوجبت وقوع ذلك التساؤل فيه وهي أن الحكم بطبيعة الحال إنما يصدر لحلّ الخصومة ورفع النزاع بين الطرفين فإذا فُرض أن الطرف الآخر قد أقرّ بما يدّعيه عليه الطرف الأول فهذا يُثبت الحقّ للمدّعي ويستوجب حلّ الخصومة ورفع النزاع بين الطرفين فأيّ موجب للحكم حينئذ بل قد قيل بأن أدلة نفوذ حكم الحاكم لا تشمل مثل هذا الفرض لأن الذي يُفهم منها أنها مختصة بما إذا كان هناك منازعة يتوقف حلّها على الحكم أو كانت هناك مصلحة واضحة يترتّب استيفاؤها عليه وكل منهما غير متوفّر في المقام فإن المفروض عدم وجود خصومة بعد الإقرار وأن الحقّ قد ثبت للمدّعي بموجب الإقرار [4] ، ولأجل هذه الخصوصية لم يجر هذا الكلام في غير باب الإقرار من طرق الإثبات كالبيّنة واليمين وغيرهما كما يشهد به ذكر هذا الفرع في خصوص باب الإقرار ، نعم .. قد يُفرض أن يطلب المدّعي الحكم من الحاكم ولو لخوفه من رجوع الطرف الآخر عن إقراره فيتوسّل بحكم الحاكم لتوثيق إقراره واستيفاء الحقّ المُقَرّ به منه ولكن هذا غير ما نحن فيه فإن محلّ الكلام إنما هو في أن حكم الحاكم بعد صدور الإقرار هل يتوقف أساساً على طلب المدّعي أم أنه وظيفة الحاكم محضاً ولا شأن للمدّعي بها فإذا أقرّ المُدّعى عليه بالحقّ حكم الحاكم بموجبه ولا يتوقف على أن يطلب المدّعي منه ذلك ؟
 وللكلام تتمة يأتي ذكرها إن شاء الله تعالى .


[1] يعني إطلاق حكم الحاكم حتى لصورة عدم طلب المدّعي .
[2] الكافي مج7 ص251 ، الوسائل مقدمات الحدود الباب السابع الحديث الثاني مج28 ص39 .
[3] المصدر السابق الحديث الثالث .
[4] نعم .. في صورة ما إذا امتنع المقرّ عن أداء ما أقرّ به فهنا يتدخّل الحاكم لاستيفاء حقّ المدّعي منه بالطرق القضائية ولكن هذا كلام آخر غير ما نحن فيه . (منه دامت بركاته)