32/11/05


تحمیل
 بسم الله الرحمن الرحيم ..
 كان الكلام في صحيحة عمار بن مروان المتقدمة حيث استُدلّ بها على حرمة أخذ الأجرة على القضاء باعتبار ورود قوله (عليه السلام) : (ومنها أجور القضاة) بناءً على أن الضمير فيها يعود إلى الأنواع وقلنا إنه ذُكر إشكال على هذا الفهم وادُّعي أنه من المحتمل أن يكون الضمير راجعاً إلى الاسم الموصول المتقدم وهو (ما أصيب من أعمال الولاة الظلمة) .. وقلنا إن هذا الاحتمال بعيد وذكرنا أن هناك قرينتين تنفيانه .. وقلنا بعد ذلك إن الاستدلال بالرواية يتوقف على أن لا تكون الرواية ناظرة إلى القضاة المعهودين الموجودين في زمان صدور النصّ وهم الذين يتولون القضاء من قبل السلطان الجائر .
 ووجه توقف الاستدلال على ذلك هو أن غاية ما تدل عليه الرواية حينئذ هو سُحتية الأجور التي يأخذها القضاة المنصوبون من قبل الولاة الظلمة وهذا غير محل الكلام فإنّا إنما نتكّلم على القاضي الذي يكون قضاؤه طبق الموازين الشرعية فهذا هل يجوز له أن يأخذ الأجرة على القضاء أو لا يجوز له ذلك وهذه الرواية ليس فيها دلالة على ذلك .. إذاً حتى يتم الاستدلال لا بد من إثبات أن الرواية ليست ناظرة إلى أولئك القضاة الموجودين في زمان صدور النصّ .
 وبعبارة أخرى : إن القضية ليست خارجية يكون موضوعها هؤلاء الأفراد وإنما هي قضية حقيقية موضوعها كل من يتصدّى للقضاء فهذا لا يجوز له أخذ الأجرة لأن الأجور التي يأخذها القضاة هي من السحت .. وحينئذ قد يقال بأن هناك قرائن على أن القضية ناظرة إلى هؤلاء القضاة المعهودين فلا يمكن الاستدلال بالرواية :
 منها : أن اللام في القضاة عهدية وليست للجنس .. وقد ذكرنا أنه خلاف الظاهر ولا يُصار إليه إلا بدليل خصوصاً وأن اللّامات المذكورة بعدها في المعطوفات كالفواجر والخمر لا تصلح لغير الجنس فحمل اللام في القضاة على العهد خلاف الظاهر .
 ومنها : أن يقال إن الأجور التي نستطيع القول إن الرواية سيقت لبيان حكمها لم يُعهد أخذها إلا من قبل السلطان الجائر فأخذ الأجرة من المتخاصمين الذي هو داخل في محلّ الكلام بل هو الفرد الواضح منه أمر غير معهود لا في زمان صدور النص ولا في غيره .. وبعد استبعاد أن يكون المراد من السلطان هو العادل بقرينة الحكم بسحتية هذه الأجور لأن ما يدفعه الحاكم العادل لا يكون سحتاً قطعاً فإذاً يكون المقصود بالأجور التي سيقت الرواية لبيان حكمها هي الأجور التي يأخذها القضاة من السلطان الجائر الذي نصبهم لتولّي القضاة فعدم معهودية أخذ الأجرة من المتخاصمين هو القرينة على تخصيص الرواية بخصوص القضاة المعهودين الذين يأخذون أجورهم من الحاكم الجائر ، وهذا الاختصاص ليس من جهة حمل اللام في القضاة على العهد حتى يأتي ما تقدّم من أنه لا موجب لهذا الحمل وأنه خلاف الظاهر ولا يُصار إليه إلا بقرينة وإنما هو من جهة شيوع كون أجور القضاة تؤخذ من السلطان الجائر فالرواية تشير إلى خصوص هذه الأجور وحينئذ لا يصحّ الاستدلال بها في محلّ الكلام .
 ويرد على ما تقدّم أنه مبني على افتراض أن القضية خارجية حيث يُفترض أن الرواية ناظرة إلى ما هو الشائع والمتعارف خارجاً من أن الأجور التي يأخذها القضاة إنما يأخذونها من السلطان الجائر وأما أخذ الأجرة من المتخاصمين أو من غيرهما فهو نادر جداً فحينئذ تُحمل الرواية على ما هو الشائع .. ولكن من الواضح أن هذا الافتراض هو أول الكلام لأنه على الأقلّ ثمة احتمال آخر وهو كونها ناظرة إلى الأجر الذي يُدفع إلى القاضي - بما هو قاضٍ - على القضاء أي أن القضية على نهج القضية الحقيقية كما هو الحال في أجور الفواجر إذ ليس من المحتمل حملها على نساء معهودات في ذلك الزمان وإنما المراد قضية موضوعها كل فاجرة تأخذ الأجر على الفجور فهذا الأجر يكون من السحت فهذه قضية حقيقية لا تتوقف على ملاحظة ما في الخارج بل هي تشمل ما هو المتعارف وغيره وفي ذلك الزمان وغيره بل هي صادقة حتى لو لم يتحقق موضوعها خارجاً كما هو شأن كل قضية حقيقية فليس فيها ثمة افتراض لموضوع موجود متحقق في الخارج ويُحمل عليه الحكم وإنما هي قضية مفادها أنه كلما كان هناك قاضٍ يأخذ الأجر على قضائه فما يأخذه يكون سحتاً .
 هذا .. والذي يظهر من الرواية في قوله (عليه السلام) : (أجور القضاة) هي الأجور التي يأخذها القاضي على القضاء كما يقال (أجور المُفتين حرام) أي أن الأجور التي يأخذها المُفتُون على الفتوى حرام ، وكذا في (أجور الفواجر حرام) فالمقصود به الأجور التي تأخذها الفواجر على الفجور حرام ، وفي محلّ الكلام ما يُفهم هو تحريم الأجر الذي يأخذه القاضي بما هو قاضٍ على القضاء والمقصود بالقضاء كما أسلفنا في أول هذا الكتاب هو حلّ الخصومة وفكّ النزاع فلسان الرواية هو الحكم بسحتية ما يأخذه القاضي على حلّ الخصومات ، وأما كون الرواية ناظرة إلى الأجر الذي يأخذه القاضي من السلطان فمستبعد لأن السلطان - عادلاً كان أو جائراً - إنما يُعطي الأجر للقاضي على منصب القضاء لا على مزاولة القضاء بالفعل ولذلك يأخذ القاضي أجره منه ولو فُرض أنه لم تكن ثمة قضية ليفصل بها في المدّة المرسومة للأجر على غرار ما يُعطيه السلطان للوالي ولرئيس شرطته وسواهم .
 هذا .. مع أن التعبير الوارد في الرواية وافٍ في تحريم الأجر الذي يأخذه القاضي بما هو قاضٍ والحكم بسُحتيته من دون حاجة إلى نصب قرينة إضافية على إرادة هذا المعنى حتى يقال إنه حيث لم يُؤت بهذه القرينة فلا بد من حملها على القضية الخارجية فالتعبير المذكور في الرواية تعبير عرفي وافٍ بالمقصود فافتراض حمل الرواية على القضاة المعهودين واختصاصها بهم خلاف الظاهر بل الظاهر كما تقدّم أنها ناظرة إلى ما يأخذه القاضي بما هو قاضٍ على القضاء سواء من المتخاصمين أو من غيرهما وفي ذلك الزمان وغيره من الأزمنة على نهج القضية الحقيقية كما هو الحال مع فقرات الرواية الأخرى حيث لا نحتمل فيها المعهودية والاختصاص بذلك الزمان .
 ومنه يظهر أن هذا الاعتراض على الرواية ليس تاماً كما أن الاعتراض المتقدم على الرواية ليس تاماً أيضاً .. والنتيجة أن الاستدلال بالرواية إلى هنا في محلّ الكلام لا بأس به فتدل على حرمة أخذ الأجرة على القضاء .
 ثم إن هناك كلاماً حول دلالتها على حرمة أخذ الأجرة على القضاء مطلقاً أو خصوص ما إذا كان القضاء واجباً معيّناً وستأتي الإشارة إليه لاحقاً بعد إتمام الأدلة فثمة احتمال أن الرواية ناظرة إلى صورة التعيّن لا إلى صورة عدم التعيّن وكون القضاء واجباً كفائياً .
 الدليل الثاني : صحيحة عبد الله بن سنان التي مرّ ذكرها في بحث الارتزاق وهي تامة السند حيث يرويها المشايخ الثلاثة (الصدوق والكليني والطوسي قدهم -) بأسانيد تامة ففي الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن محبوب عن عبد الله بن سنان : " قال : سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن قاضٍ بين قريتين يأخذ من السلطان على القضاء الرزق فقال : ذلك السحت " [1] .
 والاستدلال بالرواية في محلّ الكلام مع أن العنوان الوارد فيها هو الرزق لا الأجرة التي هي محلّ الكلام مبني على أن يكون المراد بالرزق هو الأجر أو مطلق العوض ، والموجب للحمل على هذا المعنى أمران :
 الأول : الإجماع على جواز ارتزاق القاضي من بيت المال وظاهر الرواية نفي ذلك فلا بد من حملها على أن المراد من الرزق الأجر أو مطلق العوض .
 الثاني : قوله في الرواية (على القضاء) فإنه ظاهر في كون ما يأخذه عوضاً لا ارتزاقاً فيكون المراد بالرزق هو العوض الشامل للأجر الذي هو محل الكلام لأن ارتزاق القاضي لا يكون على القضاء بل لكونه يقوم بمصلحة من مصالح المسلمين فتكون الرواية ناظرة إلى محلّ الكلام وتدل على الحرمة والسُحتية .
 وهذا الاستدلال بهذا التقريب غير واضح لقرائن :
 الأولى : إن الظاهر كون المقصود بالسلطان في الرواية هو السلطان الجائر فلا تنفع الرواية حينئذ في مقام الاستدلال في ما نحن فيه حتى لو أُريد من الرزق فيها الأجرة ، وإنما حملناه على السلطان الجائر لأن الظاهر من هذا التعبير عادة هو ذاك لا ما يشمل السلطان العادل .
 الثانية : إن الرواية تُصرّح أن القاضي المذكور فيها هو منصوب من قبل السلطان بين قريتين (أو بين فريقين) وهو يأخذ الرزق على القضاء ولمّا كان من غير المتعارف أن يتصدّى الإمام (عليه السلام) لنصب قاضٍ بين قريتين فلا بد من حمله إذاً على السلطان الجائر ، نعم .. قد تعارف أن الإمام (عليه السلام) أَمَر بأن يُرجَع إلى من عرف حلالهم وحرامهم كما في الروايات الدالة على نصب القضاة إلا أنه لم يكن متعارفاً أن ينصب الإمام (عليه السلام) قاضياً بين قريتين .
 الثالثة : إن الحكم بسُحتية الرزق الذي يأخذه هذا القاضي من السلطان دليل على أن المقصود بالسلطان ليس هو السلطان العادل بل السلطان الجائر لأن ما يدفعه السلطان العادل من الرزق لا يمكن أن يكون سُحتاً .
 فلِما تقدّم يظهر أن الرواية تختصّ بخصوص الأجر الذي يُعطيه السلطان الجائر للقاضي وحينئذ تسقط عن صحة الاستدلال بها في محلّ الكلام .
 هذا كلّه إذا سلّمنا ما ذُكر في تقريب الاستدلال من حمل الرزق في الرواية على الأجر أو مطلق العوض ، وأما إذا شكّكنا في ذلك وقلنا إن الرزق باقٍ على معناه فالرواية تكون حينئذ أجنبية عن محلّ الكلام فتدلّ حينئذ على أن ارتزاق القاضي من السلطان الجائر غير جائز بخلاف القاضي وفق الموازين الشرعية فإن ارتزاقه من بيت المال لا إشكال فيه .
 وهذا الاحتمال [2] ليس ببعيد بحسب ظاهر الرواية وما ذُكر من الأمرين الذين أوجبا حمل الرزق في الرواية على الأجرة أو على مطلق العوض فغير واضح :
 أما بالنسبة إلى الإجماع المدّعى فإنه لا ينافي إبقاء الرزق في الرواية على معناه وعدم حمله على الأجر لما ذكرنا من أن الإجماع قائم على جواز ارتزاق القاضي الصحيح من بيت المال وهذا لا ينافيه عدم جواز أخذ الرزق للقاضي غير الصحيح من الحاكم الجائر .
 وأما قوله (على القضاء) الذي ادُّعي كونه ظاهراً في كون ما يأخذه القاضي عوضاً لا ارتزاقاً فيكون المراد بالرزق على هذا هو العوض الشامل للأجر فهو كما عبّر السيد صاحب العروة (قده) معترضاً عليه بقوله : (وهو كما ترى وإن استدلّ به كثير من مشايخنا المحقّقين) [3] فإن الظاهر أنه إشارة إلى أن التعبير الوارد [4] يلائم الرزق كما يقال : (المؤذن يأخذ على الأذان الرزق) وغيرها من الموارد الأخرى التي هي من التعبيرات المتعارفة في كون المأخوذ هو الرزق لا الأجر .. إذاً لا يكون ذلك [5] قرينة على حمل الرزق على الأجر بل يبقى الرزق على ما هو عليه في ظاهر معناه .
 ومنه يظهر أن الاستدلال بهذه الرواية على حرمة أخذ الأجرة على القضاء ليس تاماً .
 الدليل الثالث : ما أشار إليه الشيخ صاحب الجوهر (قده) من أن القضاء من مناصب السلطان الذي أمره الله تعالى بأن يقول : (لا أسألكم عليه أجراً) [6] وأوجب التأسّي به " [7] .
 أي أن القضاء من مناصب النبي (صلى الله عليه وآله) وقد أُمِر أن لا يطلب أجراً على المنصب الذي منحه الله إياه ونحن أُمِرنا بالتأسّي به (صلى الله عليه وآله) .
 وأما وجه استدلاله (قده) بما ذُكر فهو باعتبار كون القضاء منصباً إلهياً منحه الله تعالى للنبي (صلى الله عليه وآله) وبالتالي مُنح بإذنه تعالى للقاضي الواجد للشرائط ومثل هذا المنصب الممنوح من قِبَله تعالى لا ينبغي أن يُؤخذ عليه الأجر فلا بدّ أن يؤتى به مجّاناً، ويستدلّ (قده) على ذلك بقوله تعالى: (لا أسألكم عليه أجراً) ، والسيد الماتن (قده) يوافق على هذا في رأيه السابق وجعله مؤيّداً [8] ، وأما في رأيه اللاحق - الذي ذكره في كتاب القضاء - فلا يوافق عليه بل عدل عنه .
 وفي وجه الاستدلال هذا تأمّلات يأتي ذكرها إن شاء الله تعالى .


[1] الكافي مج7 ص409 ، وكذا في الفقيه مج6 ص6 ، ولكن الموجود في النسخة المطبوعة من التهذيب مج6 ص222 : (قاضٍ بين فريقين) وهو المذكور في كلمات الفقهاء .
[2] أي كون المراد بالرزق هو الارتزاق .
[3] عبارته في العروة هكذا : " ودعوى : أن الظاهر من قوله : (على القضاء) كونه عوضاً عنه لا ارتزاقاً ، كما ترى " ، وليس فيها ما ذكره شيخنا الأستاذ بقوله (وإن استدلّ به كثير من مشايخنا المحقّقين) لاحظ العروة الوثقى مج6 ص441 .
[4] يعني قوله : (يأخذ من السلطان على القضاء) .
[5] يعني قوله (على القضاء) .
[6] الأنعام / 90 ، الشورى / 23 .
[7] جواهر الكلام مج22 ص122 .
[8] مصباح الفقاهة مج1 ص373 .