37/06/04


تحمیل

الموضوع:- الولاية للجائر – مسألة ( 36 ) – المكاسب المحرمة.

توجيه الاحتمال الأوّل:- أما بالنسبة إلى الاحتمال الأوّل فهو مركب من مقدّمتين:-

الأولى:- لا يجوز القتل.

الثانية:- يجوز غير ذلك.

أما المقدمة الأولى - أي عدم جواز القتل-:- فهو شيء واضح لأجل ما دلّ على أنّ التقية شرّعت لحفظ الدم وحقنه فإذا بلغت الدم فلا تقية كما دلّت على ذلك صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام:- ( إنما جعلت التقيّة ليحقن بها الدم فإذا بلغ الدم فليس تقيّة )[1] ، وهذا شيء واضح ولا يحتاج إلى كلام ، والمهم أنّ الكلام هو في تجويز الحبس والضرب وأخذ المال وما شاكل ذلك.

وأمّا بالنسبة إلى جواز غير ذلك فقد استدل له بثلاث وجوه:-

الوجه الأوّل:- التمسّك بإطلاق حديث نفي الإكراه - أي حديث ( رفع عن امتي ما استكرهوا عليه ) فإنه بإطلاقه شامل حتى للقتل ولكن خرج القتل بالمخصّص وهو الرواية المتقدّمة فيبقى الباقي تحت العموم - الاطلاق -.

الثاني:- إنه لو لم يجز ذلك للشخص المكرَه يلزم وقوعه في الحرج ومقتضى إطلاق قوله تعالى:- ﴿ وما جعل عليكم في الدين من حرج ﴾ جواز كلّ ذلك والذي خرج - أي القتل - فهو قد خرج بالدليل وإلا كان داخلاً.

الثالث:- إنّ نفس حديث ( إنما جعلت التقية ليحقن بها الدماء ) له دلالتان ، دلالة أولى وهي أنّ التقية إذا بلغت الدم فلا يجوز ، وهذه دلالة مسلّمة وقد تمسكنا بها لإثبات الدعوى الأولى وهي أنه لا يجوز القتل ، كما يستفاد من هذا الحديث دلالة ثانية وهي أنه إذا لم تبلغ الدم فيجوز .

أمّا بالنسبة إلى ما أفاده في الوجه الأول فالجواب عيله اضح:- وهو أنّ الحديث مسوق مساق الامتنان على الأمة ككلّ وليس على الأفراد وإن لزم ضدّ الامتنان بالنسبة إلى الفرد الآخر فإنّ هذا ليس بامتنانٍ رأساً أو هو امتنانٌ ولكنه ليس حسناً وليس عقلائياً ، فإنّ الامتنان العقلائي هو الذي لا يلزم منه إيذاء وضرر الآخرين ، وعلى هذا الأساس هذا الامتنان هو امتنانٌ على الامة ، والامتنان على الأمة إنما يصحّ ويكون وجيهاً إذا لم يلزم إدخال الضرر على الآخرين والإيذاء لهم من حبسٍ أو أخذ مالٍ أو ما شاكل ذلك ، وهذا شيء واضح.

يبقى قد تسأل وتقول:- من أين استفدنا الامتنان ؟

والجواب:- ليس من البعيد أن نستفيد ذلك كلمتي ( رفع ) و ( أمتي ) ، فنفس كلمة ( رفع ) لا تستعمل إلا في موارد الامتنان ، فأقول لك مثلاً ( إني أرفع عنك المجيء إلى التعزية ) فكلمة ( أرفع ) لا تكون إلا هكذا عادةً ، مضافاً إلى أنّ كلمة ( أمتي ) - لوحدها أو بضمّها إلى كلمة ( رفع ) - فإنها تدل على الامتنان أيضاً ، فالحديث حديث امتنان ، ولا يحسن الامتنان فيما إذا استلزم من الرفع في موردٍ إدخال الضرر والإيذاء على الآخرين ، والمفروض أنّ الامتنان على هذا الشخص الذي أكرِهَ من قبل السلطان على الولاية ورفع الإكراه عنه وتجويز الولاية له يستلزم من ذلك إدخال الضرر على الآخرين بحبسٍ أو ضربٍ أو ما شاكل ذلك وهذا إمّا هو ليس بامتنانٍ أو أنّه امتنانً ليس عقلائياً وليس بحسنٍ.

وكان الشيخ الأعظم(قده) ملتفتاً إلى هذا فأجاب وقال:- إنَّ المكرِه - أي السلطان - بإرادته السيئة هو الذي وجّه الضرر على الناس حيث أكره هذا الشخص أن يتولى أمر هذه المدينة والذي من لوازمه ضرب هذا وحبس ذاك ، فما نشأ إنما ينشأ من إرادة المكرِه - بالكسر - وليس من إرادة المُكرَه - بالفتح - ، وعلى هذا الاساس لا يمكن أن يقال إنّ هذا الامتنان ليس بحسنٍ ، حيث إنّك تجوّز لهذا المكرَه أن يتولى وبالتالي يدخل الضرر على الآخرين في سبيل أن ترفع الضرر عنه ، فهذا ليس امتناناً حسناً ، أمّا إذا قلنا إنَّ هذا الإكراه هو في الحقيقة قد تحقق بسبب إرادة المكرِه - وهو السلطان - فالامتنان يكون حسناً بعد إدخال إكراه السلطان في الحساب ، ويكون المورد نظير السيل الذي يأتي من أعالي الجبال ، فهو يأتي متوجهاً إلى بيت فلان مثلاً فحينئذٍ إذا قال لي الشرع أنت - أي الذي يكون في جوار هذا البيت الذي سوف يأتيه السيل - لا يلزمك أن تتحمّل الضرر مادام السيل هو قد جاء إلى بيت فلان ، فبالتالي السيل قد جاء ليس بإرادتي ففي مثل هذه الحالة لا يكون المورد من الامتنان السيء بل من الامتنان الصحيح ، فهو يمتنّ عليّ ويقول لا يلزمك أن تتحمّل الضرر لأنّ الضرر قد جاء متوجهاً إلى ذاك الشخص.

وموردنا أيضاً من هذا القبيل ، فالضرر قد جاء متوجهاً إلى الناس بسبب إرادة المكرِه - أي السلطان - ، وأما المكرَه فإرادته إلى جنب إرادة المكرِه ضعيفة ولا شيء ، فإذن المورد يكون من الامتنان الحسن إذا قلنا ( لا يجوز لك أيها المكرَه أن تضرب فلاناً أو فلان ) فهذا الضرب قد نشأ من إرادة نفس السلطان المكرِه وليس من أرادة المكرَه حتى تقول هذا من الامتنان السيء ، ونصّ عبارته:- ( الضرر فيه أولاً وبالذات متوجه إلى الغير بحسب إلزام الكرِه بالكسر وإرادته الحتمية ، والمكرَه بالفتح وإن كان مباشراً إلا أنه ضعيفٌ لا ينسب إليه توجيه الضرر إلى الغير حتى يقال إنه اضر بالغير لئلا تتضرر نفسه )[2] .

هذا ما ذكره وختم به البحث والموضوع.

وفيه:- إنّ المكرِه - بالكسر - وإن كان هو قد أراد إدخال الضرر على الآخرين بحبسٍ هذا أو ضرب ذاك - لأنّ هذا لازم كما قال(قده) - ، ولكن هذه الارادة لا تسلب الارادة والاختيار عن المكرَه – بالفتح - بل هو بعدُ يتمكن أن يقول لا أفعل ذلك ، فإذن إدخال الضرر على الآخرين نشأ لا من إرادة المكرِه فقط بل من أرادتهما معاً ، فإنَّ المكرَه بعدُ باقٍ على الاختيار ، ومعه ينسب إليه الضرر عرفاً ، فالوالي إذا حبس أو ضرب الآخرين فسوف يعاتبه العقلاء ويقولون له لم صنعت هذا ؟! فإذا أجاب وقال إني مكره على ذلك فيردّ عليه ويقال ما معنى ذلك فإنك باختيارك قد فعلت ذلك ؟!! بل إذا لم تصنع فأنت سوف تحبس فلماذا توجه الضرر حينئذٍ وتدخله على الآخرين في سبيل دفعه عن نفسك بعدما كانت عندك إرادة واختيار ؟!!

وبهذا يتضح الفارق بين مقامنا وبين سيل الجبل ، فإن السيل الجائي من الجبل هو متوجه إلى بيت فلان وإرادة أيّ إنسان ليست لها مدخلية ، فالعفل قد صدر من صنع الطبيعة - إن صحّ التعبير- من دون إدخال الارادة في الحساب ، بخلافه في مقامنا فإنّ الارادة لها مدخلية - أي إرادة المكرَه بالفتح - فلولا إرادة المركرَه لما دخل الضرر على هذا الشخص بالحبس أو الضرب أو ما شاكل ذلك ، فقياس مقامنا على ذلك المقام ليس بصحيح ، وبالتالي يبقى أنّ هذا الامتنان ليس بحسن لأنه أريد الامتنان على المكرَه بتوجيه الضرر إلى الناس العاديين وهذا ليس امتناناً حسناً فإنّ دخول هذا الشخص في الحبس ليس بأولى من دخول الوالي في الحبس.

إن قلت:- إذا لم يصنع الوالي ذلك فسوف لا يترتّب على ذلك دخول الحبس فقط حتى تقول إنَّ الأمر يدور بين دخول هذا للحبس وبين دخول الوالي للحبس بل لعلّ الوالي يقتل ، فحينئذٍ يكون الأولى أن يمتثل هذا الوالي.

قلت:- هذا معناه الموازنة بين الضررين وحيث إنّ ضرر الوالي المكرَه أكبر - لأنه القتل - فيكون دفع هذا الضرر بإدخاله على الآخرين حسناً ، ولكن هذا هو الاحتمال الثالث الذي سوف يأتي ، ونحن كلامنا الآن هو أننا لا ندخل مسألة أولوية أو أقوائية أحد الضررين في الحساب ، وإنما نفترض أنّ ضرر الوالي هو الحبس فقط.

إذن من خلال هذا كلّه ا اتضح أنّ حديث نفي الإكراه لا يمكن تطبيقه في موارد حقوق الناس - يعني بتطبيق الحديث لتجويز حبس الآخرين وضربهم وأخذ مالهم بحجّة أنك مكره - فإنّ هذا ليس امتناناً حسناً ، خلافاً لما ذكره الشيخ الأعظم(قده) ، فالحديث إذن يختص بالحقوق الإلهيّة - يعني إذا أكرهني الظالم على شرب الخمر أو ما شاكل ذلك مما كان حقاً إليهاً من دون أن يكون حقاً بشرياً فهنا يمكن تطبيق الحديث - ، أمّا إذا فرض أنه كان في مورد حقوق الناس فالامتنان بالتجويز له في مقابل إدخال الضرر على الآخرين ليس امتناناً ، أو لا أقل ليس امتناناً حسناً.