37/01/28


تحمیل
الموضـوع:- مسألة ( 17 ) حرمة الغناء - المكاسب المحرمة -كتاب التجارة.
استدراك:- ذكرنا فيما سبق أنّه توجد ثلاث أو أربع آيات قد يستدلّ بها على حرمة الغناء كما توجد روايات متعدّدة، والرواية الثانية التي أشرنا إليها وهي رواية يونس[1] التي كانت تقول:- ( سألت الخراساني قلت له إن العباسي نسب إليك أنك رخصت في الغناء، فقال:- كذب ..... ) ، وذكرنا أنّها رويت بعدّة طرق أحدها طريق الشيخ الصدوق(قده) فإنّه رواها عن شيخه أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني[2]، وقلنا إنَّ المشكلة هي من ناحية أحمد إلّا بناءً على كفاية الترضّي فإنّ الصدوق قد ترضّى عليه أو أنَّ نفس كون الشخص شيخاً للصدوق هي من موجبات التوثيق وإلا فالأمر مشكل من ناحية وثاقته.
ولكن استدرك وأقول:- هذا ولكن هناك عبارة للشيخ الصدوق(قده) في كتاب كمال الدين وتمام النعمة قال فيها:- ( قال مصنّف هذا الكتاب رضي الله عنه:- لم أسمع هذا الحديث إلّا من أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني رضي الله عنه بهمدان عند منصرفي في حج بيت الله الحرام وكان رجلاً ثقة ديناً فاضلاً رحمة الله عليه ورضوانه )[3] . فإذن تعبيره هذا يكفينا في إثبات وثاقته[4].
رأيٌ الكاشاني والسبزواري:-
قد يفهم من عبارة هذين العلمين التفصيل في حرمة الغناء بأن يقال هو في ذاته ليس محرّماً وإنما الحرمة تنشأ من المقارِنات كدخول الرجال على النساء أو كاستعمال آلات اللهو أو التكلّم بالباطل أو ما شاكل ذلك، فلاحظ عبارة الفيض الكاشاني(قده)[5] والسبزواري(قده)[6].
بيد أنّ السيد الخميني(قده)[7]:- ذهب إلى أنّ هذين العلمين يفصّلان بشكلٍ آخر، فهما ناظران إلى المضمون، فالمضمون أو الكلام المتغنّى به تارةً يكون باطلاً فيصير محرّماً، وأخرى يكون في حقٍّ فهذا لا بأس به، ونصّ عبارته:- ( بل الظاهر منهما أن الغناء على قسمين حق وباطل فالحق هو التغني بالأشعار المتضمنة لذكر الجنة والنار والتشويق إلى درا القرار والباطل هو المتعارف ما هو المتعارف في مجالس أهل اللهو كمجالس بني أمية وبني العباس ).
وسواءً كانت النسبة الصحيحة هي هذه أو تلك فهذا ليس بمهم، وإنما المهم هو أنّ نلاحظ الدليل ونسير وراءه، والشيخ الأعظم(قده) في المكاسب[8] تعرّض إلى قول هذين العلمين وأطال وأطنب بما لا داعي إليه.
أمّا الوجوه التي يمكن أن يستند إليها العلمان فهي:-
الوجه الأوّل:- دعوى الانصراف بأن يقال إنّ النصوص الدالة على حرمة الغناء ناظرة إلى الغناء في تلك الفترة الزمنيّة - أي فترة بني العباس - وفي تلك الفترة كان يدخل الرجال على النساء وكان يستعان بآلات الموسيقى أو يتكلّم بالباطل وما شاكل ذلك، فهذا النحو هو الذي كان متداولاً والنصوص ناظرة إلى هذا الشيء المتداول، وهذا لا يقصد منه القضيّة الخارجيّة لأنّه لا يُشار إلى خصوص هذا الفرد من الغناء وإنما يشار إلى نوع هذا المتداول فكلّ ما كان من هذا القبيل فالروايات تشمله، فيدّعى إذن أنها منصرفة إلى هذا النحو من الغناء.
الوجه الثاني:- رواية أبي بصير وهي:- ( محمد بن يعقوب عن عدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمد[9]عن الحسين بن سعيد عن علي بن أبي حمزة[10]عن أبي بصير قال:- سألت أبا عبد الله عليه السلام عن كسب المغنّيات فقال:- التي يدخل عليها الرجال حرام، والتي تدعى إلى الأعراس ليس به بأس وهو قول الله عز وجل " ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضلّ عن سبيل الله" )[11].
وتقريب الدلالة:- هو إنّه حينما سأل أبو بصير عن كسب المغنّيات قال الإمام عليه السلام:- ( التي يدخل عليها الرجال حرام ) يعني المقترن بالمحرّم - وهو دخول الرجال - وهذا يؤخذ بنحو المثاليّة للمحرّم الذي يرتكب أثناء الغناء فيستفاد منها أنّ الغناء إذا كان مقترناً بدخول الرجال على النساء أو ما شاكل ذلك فالكسب يكون حراماً.
ومن الواضح أنّنا نحتاج إلى ضمّ مقدّمة وهي أنّ حرمة الكسب تدلّ على حرمة العمل إذ لو كان العمل مباحاً لما كان الكسب محرّماً.
الوجه الثالث:- صحيحة أبي بصير وسندها:- الكليني عن العدة عن أحمد عن الحسين عن النظر بن سويد[12] عن يحيى الحلبي[13] عن أيوب بن الحرّ[14] عن أبي بصير قال:- ( قال أبو عبد الله عليه السلام:- أجر المغنّية التي تزفّ العرائس ليس به بأس وليست بالتي يدخل عليها الرجال )[15].
ورواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد، وكذلك رواها الصدوق بإسناده عن أيوب بن الحرّ . فإذن توجد ثلاث طرق لهذه الرواية فهي صحيحة إذن ولا مشكلة فيها.
وتقريب الدلالة:- هو أنَّ الإمام عليه السلام قيّد وقال:- ( أجر المغنية التي تزف العرائس ليس به بأس ) ولكن قيد وقال ( وليست بالتي يدخل عليها الرجال )، يعني إذا كان يدخل عليها الرجال فالأجر يصير حراماً، وبضمّ تلك المقدّمة وهي أنّ حرمة الأجر بالملازمة يدلّ على حرمة العمل عرفاً.
الوجه الرابع:- عبد الله بن جعفر في قرب الاسناد عن عبد الله بن الحسن عن عليّ بن جعفر عن أخيه قال:- ( سألته عن الغناء هل يصلح في الفطر والأضحى والفرح ؟ قال:- لا بأس به ما لم يُعصَ به )[16]، ورواه عليّ بن جعفر أيضاً في كتابه ولكن نقله صاحب الوسائل(قده) بعبارة ( ما لم يؤمر به )، ولكن الموجود في المصدر الآن هو عبارة ( ما لم يزمّر به )، وهذا هو المناسب.
والدلالة واضحة لأنّه اشترط في نفي البأس أن لا يُعصى به أو أن لا يقترن بالتزمير معه.
الوجه الخامس:- هناك روايات تحثّ على قراءة القرآن بالصوت الحسن وبالحان العرب[17] هذا من جانب، من جانبٍ آخر توجد عندنا الروايات التي تقدّمت والدالة على حرمة الغناء، والنسبة بين هاتين الطائفتين هي العموم والخصوص من وجه فإن الأولى التي حثّت على قراءة القرآن بالصوت الحسن أو بألحان العرب هي مطلقة وبإطلاقها تشمل القراءة غير الغنائية والقراءة غير الغنائية فكلاهما صوتٌ حسن وكلاهما لحنٌ من ألحان العرب، إذن مقتضى إطلاق الصوت الحسن أو ألحان العرب أنه لا فرق بين أن يكون هذا الصوت بنحوٍ غير غنائي أو بنحوٍ غنائي هذا إطلاق من هذا الجانب.
وأيضاً يوجد إطلاق من ذاك الجانب - أي في روايات حرمة الغناء - فإنّه بإطلاقها تدلّ على أنّ الغناء محرّم سواء كان في الكلام العادي أو في قراءة القرآن، ومورد الاجتماع هو ما إذا كان بصوتٍ حسنٍ غنائيٍّ وفي القرآن، فالأولى تحثّ عليه والثانية تنهى عنه، وحينئذٍ يتعارضان في هذه المادّة ونرجع إلى الأصل إن لم يكن عمومٌ فوقاني وهو يقتضي الإباحة، إذن ثبتت الإباحة والتغنّي في القرآن الكريم وإذا ثبت هذا هنا ثبت في غيره لعدم الفرق[18].
هذه وجوه خمسة قد يتمسّك بها لإثبات جواز الغناء لكن بعضها يثبت ما لم يُعصَ به أو ما لم يزمّر معه أو ما لم يدخل الرجال على النساء فهذه تدلّ على النسبة المعروفة إلى العلمين من أنّ المناط على الاقتران بالمحرّمات، بينما على الوجوه الأخرى كالوجه الأخير فإذا كان في كلام حقٍّ فلا بأس به وهذا يتلاءم مع ما نسبه السيد الخميني(قده).


[1] وقد نسبت في بعض المصادر إلى الريان بن الصلت، وقلنا هذا لا يؤثر لأن كلاهما ثقة.
[2] وهناك فرق بين هَمْدان بسكون الميم وهَمَدان بفتحها، فبالفتح نسبة إلى المدينة المعروفة وبالسكون نسبة إلى القبيلة العربية المعروفة.
[4] انتهى الاستدراك / المقرر.
[8] تراث الشيخ الانصاري ( المكاسب المحرمة ج1 )، الانصاري، تسلسل14، ص289.
[9] وأحمد هذا إما هو ابن عيسى الاشعري القمي أو ابن خالد البرقي وكلاهما ثقة.
[10] وإذا كان هناك كلام في رجال السند فهو في ابن أبي حمزة.
[12] وهو من الثقات.
[13] حيث قال النجاشي الحلبيّون بيت معروف بالكوفة كلهم ثقاة - على عكس بنو الاشعث فإنهم صنعوا ما صنعوا بأمير المؤمنين والحسن ... ..
[14] وهو ثقة.
[17] وهي روايات مذكورة في ابواب قراءة القرآن.
[18] أو قد يقال بالأولى.