36/11/23


تحمیل

الموضـوع:- مسألة ( 16 ) - المكاسب المحرمة -كتاب التجارة.

كان كلامننا في الأمر الرابع وذكرنا فيه أنّ الشيخ الأعظم ذكر مطلباً حاصله أنه لو قلنا بأن حرمة التصوير تعم غير الحيوان ولا تختصّ بذي الروح فلابد من التقييد بقيدين بناءً على التعميم الأوّل أن يكون ذلك الشيء الذي هو ليس من الحيوان مخلوقاً لله عزّ وجلّ أمّا إذا لم يكن مخلوقاً كالسيف السيارة وما شاكلهما فتصويرها لا محذور فيه ، والثاني هو أنّه إذا كان الشيء مخلوقاً لله عزّ وجلّ فلابد وأن يكون رسمه بشكلٍ يثير إعجاب الناظر ، فالخشبة مثلاً هي مخلوقة لله عزّ وجلّ ولكنها لا تثير إعجاب الناظر فرسمها لا محذور فيه ، أما لماذا هذان القيدان وما هو منشأهما ؟ قال:- ( إنّ الأدلة لا تشمل ذلك ) ، ونصّ عبارته:- ( ثم إنّه لو عمّمنا الحكم لغير الحيوان - مطلقاً أو مع التجسيم - فالظاهر أنّ المراد به ما كان مخلوقاً لله سبحانه على هيئةٍ خاصّة معجِبةٍ للناظر على وجهٍ تميل النفس إلى مشاهدت صورتها المجرّدة عن المادّة أو معها ، فمثل تمثال السيف والرمح والقصور والأبنية والسفن ممّا هو مصنوعٌ للعباد وإن كان في هيئةٍ حسنةٍ مُعجِبةٍ خارجٌ ، وكذا مثل تمثال القصبات والجبال والشطوط ممّا خلق الله لا على هيئة مُعجِبةٍ للناظر ...... لعدم شمول الأدلّة لذلك كلّه )[1] [2] .

والكلام تارةً يقع في الأشياء المخلوقة للّه عزّ وجلّ والتي اعتبر فيها أن تكون موجبة لإعجاب للناظر ، وأخرى في الأشياء التي ليست مخلوقة له والتي قال بأنّ رسمها ليس بحرامٍ سواء كانت مُعجِبةً للناظر أو لا:-

أمّا بالنسبة إلى القيد الأوّل فيرد:-

أوّلاً:- إنّه لم يذكر مستند الاستثناء ، نعم هو قال في العبارة:- ( لعدم شمول الأدلة ) ، ونحن نحرّض على أن تكون العبائر عليمّة فإنّ هذا مجرّد دعوى ، فلماذا الأدلّة لا تشمل هذه بناءً على التعميم - مثل رواية ( إيّاكم وعمل الصور )[3] ، فإذا أخذنا بهذه الرواية[4] فهو إطلاقٌ كافٍ يشمل الشيء الذي نريد أن نصوّره سواء كان بهيئةٍ مُعجِبةٍ أو لا فإنه من هذه الناحية يوجد الاطلاق ، وليس له إلّا أن يدّعي الانصراف ، والانصراف بلا موجبٍ أبداً ، فما أفاده(قده) لا نعرف له مستنداً سوى الانصراف والانصراف لا موجب له بعدما كانت عبارة ( إياكم وعمل الصور ) كافية.

ثانياً:- إذا سلّمنا الانصراف فمن المناسب أن نشترط هذا القيد - وهو أن يكون الشيء بهيئة معجبة - حتى إذا لم نقل بالتعميم لغير الحيوان واقتصرنا على الحيوان ، فنقول ليس كلّ حيوان بل الحيوان المعجِب للناظر مثل الأسد أو الطاووس أو غير ذلك ، أمّا أن نرسم صورة الخُنفساء أو الوزغ فهذه لا تُعجِب الناظر فأمثال هذه أيضاً لابد وأن يلتزم الشيخ الاعظم(قده) بأن تصويرها ليس بمحرّم - هذا إذا كان الانصراف موجوداً -.

وأنا لا أريد أن أقول إنّ الانصراف موجودٌ ولكن إذا ادّعينا الانصراف فلابد وأن نقول به حتى إذا لم نبنِ على التعميم - يعني بنينا على الاختصاص بالحيوان - ، فنشترط أن يكون الحيوان بشكلٍ موجبٍ لإعجاب الناظر ، فمثل الخنفساء وغيرها غير مشمولةٍ ، وهذا لا يلتزم به (قده).

ثالثاً:- إنّ المناسب لو أخذنا قيد ( إعجاب الناظر ) وقلنا هناك انصرافٌ إليه فمن المناسب أن يكون ذلك في جانب الصورة لا في جانب ذي الصورة ، فالشيخ الأعظم(قده) جعل المدر على ذي الصورة ، فذي الصورة إذا كان بيهئةٍ مُعجِبةٍ للناظر فتصويره يكون حراماً ، وإذا لم تكن معجبةً فتصويره ليس بحرام كتصوير الشطوط والجبال.

ونحن نقول:- من المناسب أن تعتبره في الصورة لا أن تعتبره في ذي الصورة ، فإذا أردنا أن نقول بالانصراف فمن المناسب أن ندّعي الانصراف في الصورة ، يعني أن تكون الصورة مرسومة بشكلٍ جميلٍ يُعجِبُ الناظر؛ إذ الحديث في الرواية كلّه عن الصورة فكيف تذهب إلى ذي الصورة ؟!!

مضافاً إلى أنّ المحاذير في الرسم - وهي مسألة التشبّه وغيرها - إنّما تحصل إذا فرض أنّ الصورة كانت جميلة موجبة لإعجاب الناظر حيث نقول حينئذٍ هذا الإنسان شبيهٌ بالخالق لأنّه يخلق أشياءً جميلةً كما يخلق الله عزّ وجلّ ، أمّا إذا فرض أنّه لم يخلق صورةً موجبةً للاعجاب فحينئذٍ لا تتحقّق فكرة المشابهة وغير ذلك.

إذن لأجل أن الكلام في الرواية هو عن الصورة وليس عن ذي الصورة , ولأجل أنّ الحكمة الوجيهة والمحتملة هي التشبّه بالخالق فهذا كلّه يدعونا أن نجعل المدار في الإعجاب على ملاحظة الصورة لا ملاحظة ذي الصورة.

وأمّا بالنسبة إلى القيد الثاني:- فهو شيءٌ وجيهٌ ، ونكتة ذلك هو أنّ نفس الشيء الذي هو ليس مخلوقاً لله تعالى - كالسيّارة أو البناء - إذا كان إيجاده مباحاً فصورته لا تكون حراماً بالأَولى.

وهذه طريقةٌ أخرى غير ما سلكه الشيخ الاعظم(قده) حيث قال ( لعدم شمول الأدلّة ) ، فنحن نوافقه بالنسبة إلى القيد الآخر ولكن لنكتةٍ خارجيّة مقيّدة لاطلاق الأدلّة ، فالأدلّة مطلقةٌ في حدّ نفسها ولا يوجد مقيّد داخليّ ولكن يوجد مقيّدٌ خارجيّ ، فقوله ( لعدم شمول الأدلّة ) كأنه يوحي بوجود قصورٍ في نفس الأدلّة ، كلّا بل نحن نريد أن نقول إنّ إطلاقات الأدلّة تامّة بناءً على العميم فـ ( إياكم وعمل الصور ) مطلقٌ ولكن يوجد مقيّدٌ خارجيٌّ وهو أنّه لا إشكال في أنّ الشيء غير المخلوق لله عزّ وجلّ إيجاده وصنعه ليس بحرام فتكون صورته جائزة بالأولى.

وعلى هذا الأساس يجوز تصوير مثل هذا الشيء غير المخلوق لله عزّ وجلّ لهذه النكتة الخارجيّة المقيّدة.

الأمر الخامس:- ذكر الشيخ الأعظم(قده) أيضاً أنّ حرمة الرسم تختصّ بما إذا قصد الراسم الحكاية ، أمّا إذا لم يقصد الحكاية والتصوير فحينئذٍ لا حرمة.

وعلى هذا الأساس نقول:- لو فرض أنّ إنساناً بنى بناءً وكانت نتيجته على هيئة طيرٍ أو أسدٍ أو ما شاكل ذلك من مخلوقات الله عزّ وجلّ والحال أنّه ليس بمقصودٍ له من البداية فرسمه هذا لا يكون حراماً.

وهكذا الحال لمن أراد أن يرسم أو يوجد طائرةً ، فلعلّ بعض الطائرات يشبه الطائر ولكن الصانع حينما يوجد طائرةً أو الراسم حينما يرسم طائرةً لا يقصد بذلك أن يرسم حيواناً طائراً ولكن بالتالي كانت نتيجة الرسم هي هذه فمثل هذا يلزم أن لا يكون حراماً ، ونصّ عبارته:- ( هذا كلّه مع قصد الحكاية والتمثيل ، فلو دعت الحاجة إلى عمل شيءٍ يكون شبيهاً بشيءٍ من خلق الله ولو كان حيواناً من غير قصد الحكاية فلا بأس قطعاً )[5] [6] .


[1] تراث الشيخ الانصاري، الانصاري، تسلسل14، ص188.
[4] فنحن ناقشنا فيما سبق وقلنا إنّ لفظ ( إياكم ) أقصى ما يدلّ على التحذير والتحذير هو الأعم فلعلّه على مستوى الكراهة وهو ليس نهياً كما لو قلنا ( إياكم والتدخين ).
[5] تراث الشيخ الانصاري، الانصاري، تسلسل14، ص189.