36/03/25


تحمیل
الموضـوع:- مسألة ( 1 ) – المكاسب المحرمة -كتاب التجارة.
وقد أشكل على الاستدلال بالآية الكريمة بعدة إشكالات:-
الإشكال الأوّل:- يمكن أن نقول إنّ الآية الكريمة ناظرة إلى إثبات اللزوم ووجوب الوفاء بكلّ عقدٍ فيما إذا كان مشروعاً في المرتبة السابقة، فما ثبتت شرعيّته في مرحلةٍ سابقةٍ تأتي الآية الكريمة وتقول ( يجب الوفاء به ) يعني إلى الأبد لا أنّه ينقضه أحد المتعاقدين، فلا يمكن أن نثبت بنفس الآية الكريمة مشروعيّة كلّ عقدٍ. وربما يظهر من بعضٍ تبنّي ذلك.
وفيه:- إنّ هذا تقييدٌ لا داعي إليه إذ الآية مطلقة من هذه الناحية، فهي تثبت اللزوم لكلّ عقدٍ، أمّا أنّه لابد وأن يكون العقد قد ثبتت شرعيّته في مرحلةٍ سابقةٍ فهذا تقييدٌ يحتاج إلى قرينةٍ وهي مفقودةٌ بل الاطلاق ينفيها.
إن قلت:- إنَّ هذا التقييد لم يذكر لوضوحه إذ من الواضح أنّ العقد يكون لازماً فيما إذا كانت شرعيّته ثابتةٌ في مرحلةٍ سابقةٍ، فلا يحتاج التقييد إلى قرينةٍ بل هو تقييدٌ مستبطنٌ وثابتٌ بالضرورة من دون حاجةٍ إلى ألفاظٍ تدلّ عليه.
قلت:- هناك احتملٌ آخر هو الذي ندّعيه وهو أنّ الآية الكريمة لا تريد أن تقول ( كلّ عقدٍ كان مشروعاً فأنا أثبت له اللزوم ) بل نحن ندّعي أنها تريد أن تقول ( كلّ عقدٍ أنا أحكم عليه باللزوم )، وبالتالي نفهم من ذلك بالدلالة الالتزاميّة أنّ كلّ عقدٍ هو مشروعٌ وصحيحٌ، فالآية الكريمة تريد أن تبيّن قضيّتين كلّيتين وحكمين كلّيين أحدهما هو أنّ كلّ عقدٍ هو مشروعٌ وثانيهما هو أنَّ كلّ عقدٍ هو لازمٌ، فأنا كشرعٍ أحكم على كلّ عقدٍ بالمشروعيّة كما أحكم عليه باللزوم، وبناءً على هذا لا نحتاج آنذاك إلى التقييد حتى على مستوى الإضمار والاستتار إذ الآية الكريمة هي تريد ابتداءً أن تحكم على كلّ عقدٍ بالشرعيّة واللزوم، وما نذكره هو الموافق للإطلاق فيكون هو المتعيّن . إذن لا إشكال بالتمسّك بهذه الآية الكريمة.
الإشكال الثاني:- إنّ الآية الكريمة وإن دلّت على شرعيّة كلّ عقدٍ بالدلالة الالتزاميّة إلا أنها ناظرة إلى العقود المتعارفة - يعني حين نزول الآية الكريمة كالبيع والإجارة وما شاكل ذلك - أمّا العقود المستحدثة كمعاملة التأمين على الحياة أو كإجارة الرحم لأجل حفظ البويضة الملقّحة فهذا عقدٌ جديدٌ ولا يكون مشمولاً لإطلاق الآية الكريمة.
وفيه:- إنّ هذا أمرٌ لا وجه له فإنّ الآية الكريمة تقول ( كلّ عقدٍ ) ولم تقل ( ما كان عندكم في هذا الزمان ) . إذن التقييد بما كان في هذا الزمان هو الذي يحتاج إلى دليلٍ فالإطلاق محكّم.
فإن قلت:- هذا وجيهٌ على مبنى القوم في باب الإطلاق حيث إنّهم يرون أنّ دائرة الإطلاق وسيعة فلذلك يتمسّكون بالاطلاق دائماً ولكن على مبنانا الذي ذكرنا فيه أنّ شرط التمسّك بالاطلاق هو أن يكون الإطلاق مستهجناً على تقدير إرادة المقيّد واقعاً فمتى ما كان الإطلاق مستهجناً عند إرادة المقيّد واقعاً ينعقد حينئذٍ الاطلاق ونتمسّك به، وفي مقامنا لو قال المتكلّم إنّي أقصد خصوص العقود المتعارفة في هذا الزمن لما كان ذلك مستهجناً منه، إنّه لو فرضنا هذا فكيف نتمسّك بالاطلاق ؟!! إذن التمسّك بالاطلاق إن تمّ فهو يتمّ على مبنى القوم ولا يتمّ على ما نذهب إليه.
قلت:- صحيحٌ أنّه على مبنانا سوف تنهدم كثيرٌ من الاطلاقات التي يتمسّك بها القوم، بيد أنّه يوجد عندنا أحيانا - ولا أقول دائما ً- بديلٌ يمكن الاستعانة به لإثبات السعة ونتيجة الاطلاق وذلك البديل يكون أحياناً هو الجزم بعد الخصوصيّة من قبيل ما دلّ على لزوم الوضوء والغسل بالماء فهنا قد يقال إنّ الآية الكريمة لا إطلاق فيها لماء المقطّر لأنه حدث في زماننا فإذا كان المتكلّم يريد خصوص ذلك الماء الذي فيه نسبةٌ من التراب وغيره وأطلق لا يكون إطلاقه مستهجناً رغم إرادته المقيّد فالإطلاق لا يمكن التمسّك به والحال أنّه هل تحتمل أنّ الماء المقطّر لا يجوز الوضوء به ؟!! إنّه لا يمكن أن يصير إليه فقهية، ونحن نجيب في مثل ذلك على أنّه يوجد عندنا بديلٌ عن الإطلاق وهو الجزم بعدم الخصوصيّة - يعني لا نحتمل خصوصيّة أنّ الماء الذي فيه نسبة من التراب يجوز الوضوء به دون غيره - فالجزم بعدم الخصوصيّة يكون موجباً للتعدّي، كما قال الفقهاء بأنّه لو قال الإمام عليه السلام:- ( اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه )[1] نتعدّى من الثوب الى الجبّة أو العمامة وغيرهما فإنَّ هذه الأشياء لا تسّمى ثوباً فنحن نتعدّى من باب الجزم بعدم الخصوصيّة.
أو يكون البديل للإطلاق هو مناسبات الحكم والموضوع، أو هو شيءٌ ثالثٌ.
وفي مقامنا البديل - لــ ﴿ أوافوا بالعقود ﴾[2] - هو مناسبات الحكم والموضوع فإنّ العرف يرى أنّ المناسب لوجوب الوفاء هو حيثيّة العقد والمعاقدة أمّا حيثية أنّ هذا العقد يلزم أن يكون ثابتاً في الزمن السالف فهذا ليست له خصوصيّة، فوجوب الوفاء يتناسب مع حيثيّة المعاقدة بين الطرفين من دون خصوصيّةٍ لكون ذلك العقد هو متعارف في تلك الفترة السابقة . إذن نتعدى بمناسبات الحكم والموضوع ولا مشكلة من هذه الناحية,
الإشكال الثالث:- إنّه ورد في رواية عبد الله بن سنان تفسير العقود بالعهود، ونصّها:- ( عن أبي عبد الله عليه السلام :- قوله " أوفوا بالعقود " يعني بالعهود )[3]، وتقريب الإشكال:- هو أنّ العهود جمع عهد وهي عبارة عن العهد والمعاهدة بين الطرفين - كما تجري المعاهدة في أثناء الحرب بين المسلمين والكفّار في صلح الحديبية وغيرها - فكأن الآية الكريمة ناظرة إلى العهود التي تتمّ بين المسلين والكفّار أو بين قبيلة وقبيلة، فالمقصود من الآية الكريمة هو هذا وليس المقصود هو مطلق العقد وبالتالي هي لا تنفعنا.
وفيه:- لو تمت الرواية سنداً فيمكن أن نقول إنّ تفسيرها بذلك هو من باب التطبيق - أي بيان بعض المصاديق - كما إذا سألنا شخصٌ وقال ما معنى أوفوا بالعقود ؟ فنقول له أنّه يجب الوفاء بعقد البيع وهذا من باب بيان مصداقٍ لا من باب الحصر، والروايات الشريفة كثيراً ما تداول فيها هذا المعنى - أي أنها تبين بعض المصاديق للآية الكريمة - لا أنّها تقصد الحصر، وعلى هذا الأساس تريد الآية الكريمة أن تبيّن بعض المصاديق للعقود وهي عبارة عن العهود وهذا لا ينفي بقاء كلمة العقود على معناها الواسع.
ومع التنزّل وتسليم أنّ العقد يُقصَد منه العهد وليس ذلك من باب بيان بعض المصاديق بل من باب الحصر وأنّ العقد عبارة عن العهد فنقول:- إنَّ العهد ذو معنىٍ واسع يشمل البيع والإجارة وما شاكل ذلك فإنّ هذه عهودٌ ومعاهدة بين الطرفين ايضاً، فكلّ طرفٍ يتعهّد بنقل ما عنده إلى الطرف الثاني ويلتزم بذلك فذلك نحوٌ من العهد والمعاهدة.
الإشكال الرابع:- لو رجعنا إلى الآية الكريمة وجدنا أنّها لا ترتبط بما بعدها إذ هي قالت:- ﴿ يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم ﴾، وما الربط بين ﴿ أوفوا بالعقود ﴾ وبين ﴿ أحلّت لكم بهيمة الأنعام ﴾ ؟ إنّه لا ربط بينهما.
وعلى هذا الأساس يحتمل أن يكون المقصود من العقود معنىً آخر يتلاءم مع ما تذكره الآية الكريمة بعد ذلك - يعني قوله تعالى ﴿ أحلت لكم بهيمة الأنعام ﴾ - وحيث أنّنا نجهل وجه الربط ولعلّه على أساسه يتغيّر معنى ﴿ أوفوا بالعقود ﴾ فمعه لا يصحّ التمسّك بإطلاق الآية الكريمة لأنّها اتصلت بشيءٍ يحتمل أن يكون قرينةً على كون المقصود شيئاً آخر وبذلك الشيء الآخر يتحقّق الربط ؟