36/06/18


تحمیل
الموضـوع:- مسألة ( 10 ) - المكاسب المحرمة -كتاب التجارة.
إن قلت:- صحيحٌ إنّ الشرع ليس من الضروري أيجاباً ولا سلباً أن يحكم ولكن له مبغوضيّة، فالغش بعدما حكم العقل بأنّه قبيحٌ فحتماً يكون مبغوضاً عند الشرع، نعم هو ليس بلازمٍ كحكمٍ واعتبار إذ بالإمكان الاكتفاء بحكم العقل ولكن كمبغوضيّةٍ أوليس بثابتٍ ؟!! وإذا سلّمنا أنّه مبغوض فالنتيجة التي نريدها من وراء إثبات الحكم نحصل عليها كلّاً أو جلّاً من خلال المبغوضيّة إذ بالتالي يحرم ارتكاب الغش لأجل أنّه مبغوضٌ للمولى فيكفينا هذا في إثبات الحرمة روحاً وإن لم نثبتها اسماً ولفظاً . هذا تساؤل قد يوجه في هذا المجال.
وواضحٌ أنّ هذا الكلام سيّالٌ ولا يختصّ بمقامنا، ففي جميع موارد حكم العقل يمكن أن نقول بهذا الكلام فإذا كان يحكم بالقبح فنقول إنَّ الشرع عنده مبغوضيّة وإذا كان العقل يحكم بالحسن - كما في الصدق - فنقول إنّ للشرع إرادة، فالنتيجة تكون حينئذٍ نفس النتيجة من وراء الملازمة فما نريده من وراء الملازمة سوف يثبت بهذا الشكل.
قلت:- من أين لك أنّ الشيء إذا كان قبيحاً في نظر العقل والعقلاء يلزم أن يكون مبغوضاً لدى المولى إذ لعلّ هناك نكتة التفت إليها الشرع لم يلتفت إليها العقل والعقلاء، فهذا الاحتمال موجود وبالتالي لا يمكن أن نقول إنّه متى ما حكم العقل بالقبح حتماً كانت هناك مبغوضيّة لدى الشارع.
إن قلت:- يعني تريد أن تقول الآن أنا أشكّك في مبغوضيّة الغشّ لدى الشرع وهذا لا أحتمل أنّك تشكك فيه ؟ فما دمت لا تشكّك فيه فإذن وصلنا إلى النتيجة !!
قلت:- نعم قد أجزم بأنّه مبغوضٌ لكن لا من خلال مسألة الملازمة والقبح بل لعلّه من مسألة ارتكازٍ متشرّعي أو من رواياتٍ أو من غير ذلك، فالمنشأ لا ينحصر بمسألة أنّه من حكم العقل بالقبح ننتقل إلى المبغوضيّة بل يحتمل أن تكون هناك مناشئ أخرى.
إذن لا يمكن أن نستنتج المبغوضيّة من حكم العقل، نعم نحن نستنتجها من مناشئ أخرى ولكن هذه قضيّة ثانيّة، يعني لو كان صاحب الجواهر(قده) يقول بالارتكاز المتشرّع فلا كلام لنا، أو يستفاد ذلك من مجموع الأخبار، أو بالضرورة الفقهيّة أو الدينيّة هذا ثابت فلا كلام لنا، أمّا أن تستفيده من حكم العقل بالقبح فنقول إنَّ هذا لا مثبت له.
الحكم الثاني:- إنّ المعاملة الواقعة على الغش باطلة - والفرق بين هذا الحكم والحكم السابق هو أنّ الأوّل ناظر إلى الحكم التكليفي وهذا ناظر إلى الوضعي -.
والوجه في ذلك:- هو أنّ ما قُصِدَ لم يقع وما وقع لم يُقصَد، أو بتعبيرٍ آخر:- ما جرى عليه العقد يخالف ما عليه الواقع وما عليه الواقع يغاير ما جرى عليه العقد، يعني أنَّ المورد نظير من اشترى جاريةً فتبيّن أنّ المبيع عبدٌ ففي مثل هذه لحالة نقول بالبطلان مادامت لمعاملة شخصيّة لا كلّية، نعم لو فرض أنّ العقد جرى على الجارية الحسناء فتبيّن أنها ليست حسناء فهنا متعلّق العقد متّحدٌ مع ما هو الواقع غايته قد تخلف الشرط فيثبت خيار تخلّف الوصف أو الشرط، أمّا إذا كانت المغايرة كلّية فلا يصحّ لأنّ العقد قد جرى على الجارية والحال أنّه ليس بجارية فيقع باطلاً.
وموردنا من هذا القبيل، والوجه فيه هو أنّ الدينار إذا كان غشاً فذلك يعني أنه ليس بدينارٍ وإنّما هو صورة دينارٍ فعلى هذا الأساس تكون المخالفة في المقام كالمخالفة بين الجارية والعبد، نعم إذا لم يكن الغش بنحوٍ يوجب المغايرة المذكورة - يعني كان غشاً جزئياً بحيث لا يسلب كونه ديناراً ولكن قيمته أقل - فهذا خارج عن محلّ كلامنا ومحلّ كلامنا هو فيما إذا كان الغش بنحوٍ كان لا يُتعامل به وليس بدينارٍ والمعاملة قد جرت على الدينار وهذا ليس بدينارٍ بل هو ورقة عاديّة فالمعاملة إذن تكون باطلة لما أشرنا.
الحكم الثالث:- شرط الحرمة التكليفيّة وشرط البطلان هو جهل الطرف الثاني، أمّا إذا فرض أنّ الطرف الثاني كان ملتفتاً إلى أنّ هذه عملة مزيّفة فلا حرمة تكليفيّة كما لا بطلان.
أمّا أنه لا حرمة تكليفية فواضحٌ:- باعتبار أنّ عنوان الغش لا يصدق فإنّ صدقه فرع الجهل وبعد فرض علمه لا غشّ في البين.
أما أنه لا بطلان:- فلأن الوجه الذي أشرنا إليه في إثبات البطلان لا يأتي هنا فإنا ذكرنا في تقريب البطلان أن العقد قد وقع على عنوان الدينار وهذا ليس بدينارٍ، إنّ هذا الوجه لا يأتي في المقام باعتبار أنّه يدري من البداية بأنّه ليس بدينارٍ فالعقد لم يجرِ واقعاً على الدينار وإنما جرى على هذه الورقة العديّة فعلى هذا الأساس يكون العقد صحيحاً فما جرى عليه العقد هو الورقة وما عليه الواقع هو الورقة فلا مشكلة في البين.
نعم قد تقول:- هو باطلٌ من ناحية أنّه لا قيمة للورقة فهذا في الحقيقية قضيّة ترتبط بالمثال وإلا ففي موردٍ آخر قد يكون الشيء له قيمة فلا تكون المعاملة سفهيّة ولا على اللاشيء، فإذن لا حرمة كما أنه لا بطلان.
يبقى شيء:- وهو أنّ السيد الماتن(قده) قال في العبارة:- ( أما مع علمه ففيه إشكال والأظهر الجواز ) فلماذا استشكل ؟
والجواب:- لا يبعد أنّه استشكل لأجل روايات الدرهم المزيّف التي سوف تأتي فإنّ الإمام عليه السلام أخذه وقسمه نصفين وألقاه في البالوعة، فهذه الروايات لو تمّت فقد يستفاد منها أنّ هذا لابد من إعدامه، ومعه يكون التعامل عليّه محرّماً تكليفاً لأنّ هذا إبقاءٌ له وهو لا يجوز.
ولكن استظهر الجواز بعد ذلك الجواز من ناحية أنّ هذه الروايات ضعيفة السند كما أنّه يمكن التأمّل في دلالتها كما سيأتي.
الحكم الرابع:- يجوز دفع العلمة المزيّفة إلى الظالم لدفع ظلمه، كما يمثّل بالعشّار - والمفروض أنّه ظالم لا أنّ الدولة عادلة مطلوبٌ فيها الاستقرار - ففي مثل هذه الحالة لا بأس بأن يدفع إليه عملةً مزيّفة حتى يدفع شرّه.
وقد تعرّض الشيخ الأعظم(قده) إلى هذا الحكم ولكنه توقّف من ناحيةٍ فقال:- اللهم إلا إذا قلنا بوجوب الإتلاف كما قد يظهر من الروايات حيث أتلف الإمام عليه السلام العملة وطرحها في البالوعة فحينئذٍ بناءً على وجوب الإتلاف يكون دفعها إلى الظالم يتنافى مع وجوب الإتلاف فيكون هناك عصيانٌ للحكم بوجوب الإتلاف، قال ما نصّه:- ( .... أو الدفع إلى الظالم الذي يريد مقداراً من المال كالعشّار ونحوه بناء على جواز ذلك وعدم وجوب إتلاف مثل هذه الدراهم )[1].
ويمكن أن نبيّن في وجه الإشكال أموراً ثلاثة:-
الأوّل:- ما أشار إليه(قده)، يعني يجب اتلافها بمقتضى الروايات الآتية فدفعها إلى الظالم يكون توانياً وتماهلاً في امتثال الحكم بلزوم اتلافها.
الثاني:- إنّه يلزم حسم مادّة الفساد، وهذه مادّة فسادٍ فلابد من حسمها، فإذا دفعت هذه العملة إلى الظالم فلم تحسم آنذاك مادّة الفساد بل أبقيناها.
الثالث:- إنّ المورد من موارد الإعانة على الظلم والانحراف لأنّ هذا الظالم إذا أخذ هذه العملة المزيّفة فسوف يشتري بها أشياء لنفسه كالطعام ليأكله مثلاً فبدفعي هذه العملة له سوف أعينه على هذه المعاملة المحرّمة لأنه سوف يغشّ مؤمناً وسوف أساعده على ارتكاب الحرام.
هذه أمور ثلاثة قد تذكر في هذا المجال - يعني لا أقل للإشكال في جواز دفعها إلى الظالم -.
ولكن يرد:-
أما بالنسبة إلى الأول فالجواب:- إنّه سوف تأتي الروايات والوارد في إحداها مثلاً هو أنّ الإمام عليه السلام قال:- ( ألقه في البالوعة حتى لا يباع شيء فيه غش )[2]، إنّه عليه السلام أمر بإلقائه في البالوعة حتى لا يباع شيء فيه غش وهذا واضحٌ في وجوب الإتلاف كي لا تتحقّق معاملة فيها غش، هذا ما قد يستدل به على وجوب الاتلاف.
ولكن يرد عليه:- إنّه يمكن أن يقال هي منصرفة عن مثل هذه الحالة، يعني أنّ الإمام ناظر إلى الحالات العاديّة لا إلى مثل هذه الحالة فهو أمر بإعدامه وإلقائه في البالوعة حتى لا تحصل المعاملات العاديّة أمّا أن تدفعه لظالمٍ لدفع شرّه فهذا يمكن أن يقال بالانصراف عنه، فإنّ سلّمنا الانصراف فبها، وإن لم نسلّمه فنتمسّك بما أشرنا إليه في باب الإطلاق ونقول لو فرض أنّ الإمام عليه السلام ظهر وقال إنّ مقصودي هو الحالات المتعارفة لا بما يشمل دفعها إلى العشّار فهل يعاب عليه ويقال له إذن لماذا لم تقيّد وتقول ( إلا دفعها إلى العشار فإنه لا بأس به ولا يلزم آنذاك إلقاؤها في البالوعة ) ؟ كلّا إنّه عرفاً لا يقال له ذلك والنكتة في أنّه لا يعاب عليه هو أنّ الحالة المتعارفة هي هذه المعاملات العاديّة دون دفعها إلى العشّار، وإذا كان لا يعاب عليه فلا ينعقد حينئذٍ الإطلاق.
وأمّا بالنسبة إلى الثاني:- فهذا في الحقيقة منشؤه وهو الضرورة والارتكاز فإنّ مادّة الفساد ثابتةٌ بالارتكاز المتشرّعي وبالضرورة الفقهيّة، نعم قد نختلف في صغرى الفساد أمّا بعد أن سلّمنا الفساد فيجب إزالته، فالدليل دليلٌ لبيّ ولا ينعقد للدليل اللّبي إطلاقٌ والقدر المتيقّن منه هو غير هذه الحالة - أي حالة دفعها إلى العشّار لدفع شرّه -.
وأمّا بالنسبة إلى الثالث:- فلو بُنِيَ على أنّ الإعانة على الحرام حرامٌ على إطلاقها وبعرضها العريض فنقول من قال إنّ المورد من موارد الإعانة على الحرام ؟ إذ لعلّ هذا العشّار الظالم لا يشتري بها طعاماً لنفسه بل لعله يدفعها إلى ظالمٍ آخر مثلة، إنّ هذا احتمال وجيهٌ وموجودٌ ومادام موجوداً فلا يمكن أن تقول إنّ المورد هنا حتماً هو من الإعانة على الحرام وإنما يحتمل أن يكون المورد من الإعانة على الحرام فيصير المورد من موارد الشبهة الموضوعيّة وبالتالي يكون التمسّك بعموم ﴿ ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ﴾[3]في المقام تمسّكاً بالعام في الشبهة الموضوعيّة، وعليه فلا إشكال من هذه الناحية.