36/06/08


تحمیل
الموضـوع:- مسألة ( 8 ) - المكاسب المحرمة -كتاب التجارة.
الوجه الثاني:- التمسّك بفكرة الارتكاز المتشرعي وذلك بأن يقال إنّ المرتكز في أذهان المتشرّعة حرمة استعمال آلات اللهو كالآلات التي يستعملها أهل الغناء والطرب، ومقصودنا من المتشرّعة ليس الطبقة المقلّدة والعامّة من الناس وإنما الفقهاء، نعم يكون ضمّ بقيّة الناس لا بأس به ولكن المهم هو طبقة الفقهاء فإنّ المرتكز في أذهانهم ذلك.
وأتمكن أن أقول إنّ النتيجة - أي حرمة الاستعمال - مفروغٌ عنها عندهم وإنما لو وقع كلامٌ فهو في التكييف والاستدلال الفقهي على ذلك، ونفس الفراغ من النتيجة فيه دلالة على أنّ هذه النتيجة مرتكزة في أذهانهم، ومادامت مرتكزة فنقول إنّ كلّ معلولٍ يحتاج إلى علّة، وما هي العلة لهذا الارتكاز والوضوح ؟ إنّه لا يمكن أن يكون قد حدث صدفةً وعفواً، فقد يقال إنّه نشأ من الروايات، ولكن من الواضح أنّ الضعيف لا يولّد قويّاً، فدلالة الروايات لو كانت تامّة فهي لا تولّد مثل هذا الوضوح الثابت في أذهان الفقهاء، إنّ هذا الوضوح والارتكاز يدلّ على أنّ المنشأ ليس هو هذه الروايات بل هو شيء أوضح من الروايات وليس إلّا التلقّي جيلاً عن جيلٍ إلى أن نصل إلى طبقة الأئمة عليهم السلام ولابد أنهم قد تلقّوا جواً واضحاً في بيت العصمة والطهارة، وهذا هو الذي ولّد هذا الارتكاز والوضوح.
وهذه الطريقة نستفيد منها - أي التمسّك بالارتكاز المتوارث - في الموارد التي يكون فيها وضوحٌ وارتكازٌ فقهيّ ولكن لا يوجد دليلٌ واضح من آية أو رواية ولئن كان فهو ليس بذلك الوضوح، والخفيُّ لا يولّد وضوحاً قويّاً وارتكازاً جليّاً.
وهذه الفكرة طبقناها في موارد متعدّدة منها باب نيّة القربة في الصوم والصلاة والخمس والغُسل فإنّ هذه الأمور ليس فيها دليل على اعتبار نيّة القربة ولكن هذا شيءٌ جليٌّ في أذهان الجميع وهذا الجلاء لابد وأنّه جاء يداً بيد إلى أن نصل إلى معدن العصمة والطهارة.
وقد تسأل تقول:- لو كان المنشأ هو أهل العصمة والطهارة فلابد من وجود مؤشرٍ على ذلك، ولو كان هناك مؤشّر لنُقِل إلينا عن طريق كتب الرواية والتاريخ فكيف انتقل من معدن العصمة والطهارة إلى الرواة ؟
ونجيب عن ذلك:- بأنّ طالب الحوزة مثلاً حينما يأتي إلى الحوزة العلميّة فهناك بعض الأمور الواضحة في الحوزة ولكنّة لا يوجد من أخبرنا بها وصرّح باعتبارها، من قبيل أنّ طالب العلم لا يلبس ربطة العنق فإنّ هذه القضية ثابتة في الأجواء الحوزويّة رغم أنه لم يخبره أحدٌ بها بل هو يتلقّى جواً واضحاً لهذا المعنى ومثل هذا لا ينقل بالألفاظ، ومثل هذا يمكن أن نفترضه في مقامنا.
الوجه الثالث:- إنّ المسألة عامّة البلوى، وما كان عام البلوى يلزم أن يكون حكمه واضحاً، ولا يحتمل أنّ الحكم الواضح هو جواز الاستعمال إذ لو كان هو الجواز فكيف خفي هذا الحكم الواضح عن الفقهاء أجمع وصاروا إلى الحرمة، إنّ مصيرهم إلى الحرمة يشهد بأنّ ذلك الحكم الواضح هو الحرمة.
هذه وجوه ثلاثة نتمسّك بها لإثبات حرمة استعمال آلات اللهو وهي تصلح أن تكون مستنداً لفتوى الفقيه بنحو الجزم بلا حاجة إلى الاحتياط.
وأمّا بالنسبة إلى حرمة التعامل:- فقد يتمسّك بالوجوه التي ذكرناها في العنوان السابق - يعني في التعامل على الصلبان والأصنام - فإن تلك الوجوه - ولو جلّاً - قد تعمّم إلى مسألتنا، ونذكر هنا بعضها:-
الوجه الأوّل:- ما تمسّك به السيد الخوئي(قده) في تلك المسألة وطبّقه هنا وهو أنّ هيئة الصنم معدومة ومادامت معدومة فماذا تبيع ؟! إنك تبيع لا شيء، وسرّى هذا الكلام نفسه إلى هذا المورد فقال إنّ آلات اللهو معدومةٌ - ولابد وأن يكون المقصود هو باعتبار محوها ومحقها واعدامها - وبيع المعدوم باطلٌ فإنّ البيع يحتاج إلى شيئين وهنا لا يوجد شيآن بل يوجد شيءٌ واحد فإنّ المعوّض ليس بموجودٍ وإنما الموجود هو العوض فقط فهو يُجعَل ثمناً مقابل لا شيء.
ونفس ما ذكرناه من جوابٍ هناك يأتي هنا أيضاً فنقول:- هل يقصد من ذلك أنّ الثمن قد جعل مقابل المعدوم حقيقةً فإنّ هذا باطلٌ جزماً فإنّ الآلة الموسيقيّة موجودةٌ وليست معدومة، فلابد وأن يكون مقصوده أنها بحكم المعدوم وإذا كانت بحكم المعدوم فمعنى ذلك أنّ الماليّة قد زالت عنها فيبطل البيع، وجوابه:- أنّه لا يشترط في صحة انعقاد البيع ماليّة العوضين وهذه قضيّة يؤمن بها هو أيضاً.
الوجه الثاني:- قوله تعالى:- ﴿ ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ﴾[1]فإنّ أخذ الثمن في مقابل آلات الطرب والموسيقى هو أكلٌ للمال بالباطل.
والجواب نفس الجواب:- حيث ذكرنا هناك أنّه من المحتمل أن تكون الباء هنا باء السببية وليست باء المقابلة - ويكفينا الاحتمال - يعني ليس المقصود هو أنه لا تأكلوا أموالكم مقابل اللاشيء والباطل بل لعلّ المقصود هو أنه لا تأكلوا أموالكم بسبب العقود والطرق الباطلة كأن يكون تحصيل المال من طريق الغش والسرقة والغصب فهذه طرقٌ باطلة، وما دمنا نحتمل أنّ الباء سببيّة فلا يمكن التمسّك بالآية الكريمة في المقام لأنّ السبب في مقامنا صحيحٌ وهو البيع.
هذا مضافاً إلى ما ذكرناه سابقاً:- وهو أنّه لو سلّمنا أنّ الباء هنا باء المقابلة فالمقصود من الباطل هنا ليس هو الباطل الشرعي وإنما هو الباطل العرفي، وهذه الأشياء ليست باطلاً عرفاً بل العرف والناس يتنافسون عليها فهي ليست من الباطل العرفي وإنما هي من الباطل الشرعي.
الوجه الثالث:- إنّ ما دلّ على حرمة بيع الجارية المغنيّة يمكن التمسّك به لإثبات حرمة بيع آلات الموسيقى لأنّ الجارية المغنيّة توجد لها فوائد محلّلة فإنّ فائدتها لا تنحصر بالغناء - فهي امرأة فيستفاد من كونها امرأة - فإذا كان بيعها حرام وباطل رغم وجود الفائدة فبالأولى يكون بيع آلات الموسيقى والطرب باطلاً لأنه لا يوجد فيها منفعة محلّلة حسب الفرض.
والجواب نفس الجواب فإنّه يقال :- نحن لا نعرف الملاكات الشرعية، فملاك تحريم بيع الجارية المغنية لا نعرفه . فإذن لا يمكن أن نحصره في كونها يترتّب عليها فائدة محرّمة - وهي الغناء - حتى يقال إنّ الفائدة المحرّمة موجودةٌ بشكلٍ أقوى في آلات الغناء والطرب بل لعله توجد نكتة ثانية نحن نجهلها.
ثم ترقّينا وقلنا:- يمكن أن نجزم بوجود نكتةٍ ثانيةٍ وذلك بأن يقال إنّ الجارية المغنيّة تكون حيثية غنائها هي محرّكٌ للآخرين فمن كانت عنده جارية مغنيّة يحركه نفس وجودها إلى المحرّم وهذا قد يصدر حتى من المتديّن، وهذا بخلافه في آلات اللهو فإنها ليست مهمّة ولا تغرّ المتديّن أما وجود الجارية فقد يغرّه أحياناً .
إذن نحتمل أن هذه النكتة قد أخذها الشرع بعين الاعتبار كجزءٍ من الملاك وهذا ليس بموجودٍ في آلات اللهو.
الوجه الرابع:- رواية أبي الفتوح الرازي في تفسيره عن الرسول صلى الله عليه وآله:- ( إنّ الله بعثني هدىً ورحمة للعالمين وأمرني أن أمحو المزامير والمعازف والأوتار والاوثان وأمور الجاهليّة ... إنّ آلات المزامير شراؤها وبيعها وثمنها والتجارة بها حرام )[2]، ودلالتها واضحة حيث قالت ( إنّ آلات المزامير شراؤها وبيعها .. حرام ).
ولكن الإشكال من حيث السند فإنّ سند أبي الفتوح الرازي إلى الرسول صلى الله عليه وآله مجهولٌ فتكون الرواية مرسلة.
الوجه الخامس:- إنّ آلات اللهو قد حرّم الشرع جميع منافعها وتحريم جميع المنافع يدلّ عرفاً على بطلان البيع، وحرمته إمّا ببيان لزوم محذور اللغويّة فإنّ المنافع إذا كانت محرّمة فالحكم بصحّة المعاملة يكون لغواً والحكم بجوازها التكليفي يكون لغواً أيضاً، أو ببيان الدلالة العرفيّة بمعنى أنّ العرف يفهم بالالتزام من حرمة المنافع أنّ البيع باطل وأنه لا يجوز لا من باب محذور اللغوية بل من باب الدلالة الالتزاميّة العرفيّة.
وهذا وجهٌ ظريفٌ لا بأس به ولكنه موقوفٌ على كون جميع المنافع محرّمة والحال أنّه يمكن أن يقال إن بعض المنافع محلّلة كأن توضع الآلة الموسيقية في مكان كمنظر من مناظر الزينة وهذا شيء له قيمة يتنافس عليه العقلاء، اللهم إلّا أن يُبنى على لزوم الإعدام وهذا أوّل الكلام، نعم في رواية أبي الفتوح الرازي ولعله في روايةٍ أخرى ورد هذا المعنى ولكن هاتان الروايتان لم تتمّا سنداً بل قد يناقش في دلالة الرواية السابقة.
وعلى أيّ حال هذا وجهٌ وجيهٌ لولا هذه المناقشة الصغروية التي أشرنا إليها.
ومن خلال هذا يتّضح أنّ المناسب المصير إلى الاحتياط في الفتوى لأجل هذا الوجه الذي ذكرناه، مضافاً إلى أنّ هذا الحكم معروفٌ بين الفقهاء، فالمعروف بينهم هو بطلان وحرمة البيع فلأجل التحفّظ من مخالفة هذه الشهرة والمعروفيّة المصير إلى الاحتياط الوجوبي يكون شيئاً وجيهاً.
وقبل أن نختم كلامنا عن هذا الموضوع نشير إلى أنّه ينبغي أن تقيّد عبارة المتن فإنه ورد فيها التعبير بالطبول والمزامير وكان من المناسب التقييد بما إذا كانت فائدتها منحصرة بالحرام، ولعلّه لم يقيّد ذلك اعتماداً على وضوح المطلب ولو لاستفادته من ذيل المسألة.
وأمّا إذا كانت الآلة ليست مختصّة بالحرام:- فبيعها واستعمالها لا محذور فيه مادام استعمالاً في الحلال، كالسكين فإنها وسيلة للمحرّم بأن يستعين بها لقتل إنسان برئ كما أنها وسيلة للغير الحرام كأن يذبح بها دجاجة مثلاً، فهي تستعمل للاثنين معاً ولا يحتمل أنّ استعمالها في حدّ نفسه حرام أو أنّ بيعها حرام، كلّا إنّه ليس بمحرّم، نعم يكون استعمالها في المجال المحرّم محرّم من باب أنّه قد ارتُكِب الحرام، فنفس الاستعمال ليس بحرامٍ وإنما قتل البريء مثلاً يكون حراماً، وأمّا بالنسبة إلى بيعها فلا محذور فيه، نعم إذا علمتُ بأنّ المشتري للسكين يريد قتل إنسانٍ بريء بها فتأتي حينئذٍ كبرى أنّ الإعانة على الحرام حرام أو لا ؟ فإن بني على الحرمة كان ذلك محرّماً، وإن لم يُبنَ على الحرمة - والسيد الماتن لا يبني عليها - فيكون البيع ليس محرّماً.