32/06/17


تحمیل

الوجه الرابع :- ما ذكره الشيخ النراقي (قده)[1] وحاصله؛ أن روايات الاضحاء التي تقول ( أضح لمن أحرمت له ) يمكن إثبات التعميم من خلالها وذلك أما ببيان أن الاضحاء هو عبارة عن البروز إلى السماء وليس لخصوص الشمس ، فالبروز للسماء هو الواجب ، وهذا كما يصدق على النهار يصدق على الليل أيضاً ، فان البروز للسماء ممكن في الليل فيجب ، بخلاف ما إذا فسر بالبروز للشمس ، فانه لا يمكن أن يتحقق إلا في النهار .

 إذن الاضحاء هو عبارة عن البروز للسماء ، وإذا تنزلنا فنقول هو مجمل ومردد بين الاحتمالين ، أي إما أن يراد به البروز للسماء أو يراد به البروز للشمس ، وهذا التردد يكفي لإثبات التعميم ، يعني أن التظليل محرم في الليل أيضاً ، وذلك من جهة العلم الإجمالي ، فنعلم إجمالا أن أحدهما واجب ، ومن باب منجزية العلم الإجمالي يلزم الاحتياط وذلك بالبروز للسماء حتى في الليل ، ففي النهار يلزم البروز للشمس وفي الليل يلزم البروز أيضاً ولكن للسماء ، وطبيعي هو لم يعبر بمنجزية العلم الإجمالي وإنما عبر لقاعدة الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني وليس هناك إلا فارق في التعبير وإلا فالروح واحدة ، هذا توضيح ما أفاده (قده).

وفيـه :-

 أما ما أفاده أولاً - من أن الاضحاء هو عبارة عن البروز للسماء وليس عبارة عن البروز للشمس - فعهدة هذه الدعوى عليه (قده) ، فان غير واحد من أهل اللغة يفسر الاضحاء بالبروز للشمس ، ولعل بعض الروايات إذا لاحظناها تساعد على ذلك . إذن دعوى أن الاضحاء هو عبارة عن البروز للسماء دعوى موهونة ومرفوضة .

 والمهم ما أفاده (قده) ثانياً ، يعني التمسك بفكرة العلم الإجمالي ، فان كلامه قد نقلناه لأجل هذه الدعوى وإلا فالجزء الأول من كلامه لا يستحق النقل ،

وفي جواب ذلك نقول:- لو سلمنا أن أهل اللغة مختلفون فبعضهم يفسره بهذا وبعض بذاك , فنقول أن العلم الإجمالي المذكور ليس منجزاً لانحلاله إلى علم تفصيلي وشك بدوي ، وذلك باعتبار أن البروز في النهار يعلم بوجوبه جزماً أما لأنه بروز للشمس أو لأنه بروز للسماء فلا يجوز للمحرم أن يدخل القبة في النهار جزماً والتظليل فيه محرم جزماً ، وأما ما زاد على ذلك أعني التظليل في الليل فهو شيء يشك في حرمته فتجري البراءة عنه .

 وكأن الذي صار سبباً للإيهام هو ملاحظة مفهوم البروز للشمس والبروز للسماء ، فلو لاحظنا هذين المفهومين كمفهومين فيوجد بينهما تباين ومن هنا يتخيل أن العلم الإجمالي منجز ، إلا انه ينبغي أن يكون واضحاً أن الذي يثبت له التنجز هو واقع المفهوم ومصداقه لا هو بما هو ، وإذا نظرنا إلى واقع المفهوم كان المورد من الأقل والأكثر ، فالبروز للشمس واجب جزماً في النهار أما لأنه بروز للشمس أو لأنه بروز للسماء فهو معلوم الوجوب ، وأما البروز في الليل إلى السماء فيشك في أصل وجوبه .

وبالجملة :- العلم الإجمالي المذكور لأجل انحلاله إلى علم تفصيلي وشك بدوي لا عبرة به.

الوجه الخامس:- التمسك بصحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع وغيرها الدالة على أن من ظلل من مطر أو شمس فعليه دفع الفداء ، وقد تقدمت هذه الصحيحة ، بتقريب أن وجوب الفداء لأجل التظليل من المطر يدل على أن التظليل المحرم لا يراد به خصوص التظليل من الشمس وإنما هو أوسع من ذلك ، وبهذا يثبت أن المقصود من التظليل هو الأعم دون خصوص التستر من الشمس .

وجوابه واضح:- حيث يقال أن كلامنا هو في أن التظليل في الليل - ونؤكد في الليل - محرم أو جائز ، وهذه الرواية لا تدل على أنه محرم ، فإنها لم تقل ( التظليل في الليل محرم ) وإنما قالت لو كان هناك مطر فالتظليل منه يوجب الفداء ، يعني أن هذه الرواية أخص من المدعى، وغاية ما تدل عليه أنه لا يجوز للمحرم أن يظلل في الليل إذا نزل المطر ، أما إذا لم ينزل المطر فهل يكون التظليل محرماً ؟ أنها لا تدل على ذلك . إذن هذه الرواية لا تدل على أن التظليل في الليل بما أنه في الليل هو شيء محرم ، بل غاية ما تدل عليه أنه لو نزل المطر فالتظليل محرم ، وبين هذا وهذا فرق واضح . هذا لو سلمنا أن ثبوت الكفارة يدل على الحرمة ، أما إذا شككنا في ذلك كما تقدم منا أكثر من مرة فالرواية لا تثبت التحريم للتظليل حتى في حالة نزول المطر .

 إذن يمكن أن نذكر جوابين عن هذه الرواية ، أحدهما أن ثبوت الكفارة لا يدل على التحريم لعدم ثبوت الملازمة كما تقدم ، وثانيهما لو تنزلنا وسلمنا بدلالته على التحريم فغاية ما يثبت هو حرمة التظليل عند نزول المطر وليس بالليل بما هو تظليل في الليل .

الوجه السادس:- التمسك برواية زرارة ( سألته عن المحرم أيتغطى ؟ قال : أما من الحر والبرد فلا )[2]

 بتقريب:- أنها دلت على حرمة التظليل من البرد ولازم ذلك حرمة ركوب السيارة المسقوفة مثلاً في الليل لأنها تمنع من البرد في فصل الشتاء ومن الحر في فصل الصيف .

والجواب عن ذلك :-

أولاً:- انه يمكن مناقشة سندها ، باعتبار أنه ورد فيه المعلى بن محمد البصري وهو قد ضعف ، ومن هنا عبرنا بالرواية.

وثانياً:- انه بقطع النظر عن ذلك يمكن مناقشة دلالتها ، باعتبار أنها لم تعبر بـ(التظليل ) فلم تقل ( سأله عن المحرم أيظلل ) فلو كان السؤال عن التظليل أمكن تتميم دلالتها ، بيد أنه سؤال عن ( التغطّي ) ولعل المقصود به تغطية الرأس ن فانه لا يجوز للمحرم أن يغطي رأسه ، والإمام عليه السلام أجاب إذا كانت تغطية الرأس من الحر أو البرد فلا يجوز وأما إذا كان لأجل صداع مثلاً فيجوز ، انه بناءاً على هذا تكون الرواية أجنبية عن المقام ، وهذا واضح إذا قلنا بأن لفظ ( التغطّي ) منصرف إلى ذلك ، يعني إلى مثل تغطية الرأس ، وندعي أن التظليل لا يستعمل له لفظ ( التغطي ) انه إذا تم هذا فهو ، أما إذا قلنا بكونه صالحاً للاثنين معاً أي أن لفظ ( التغطي ) صالح لإرادة تغطية الرأس وللتظليل فيمكن آنذاك تتميم الاستدلال وذلك بالتمسك بالإطلاق ، فيقال هناك إطلاق للاثنين معا ومن خلال الإطلاق يثبت المطلوب ، يعني أن التظليل من البرد محرم أيضاً وحيث أنه يصدق في الليل فتثبت حرمة التظليل في الليل ، هكذا قد يقال في تتميم الاستدلال

ولكن يمكن الجواب:- بأنه لو سلمنا بصلاحية التغطي لذلك ، يعني لإرادة التظليل منه ، فيمكن يجاب ويقال ؛ أن هذا ليس من موارد التمسك بالإطلاق ، فان الإطلاق يكون حجة إذا فرض ثبوته في كلام الإمام عليه السلام ، وهنا لا يوجد مفهوم في كلام الإمام حتى يصح التمسك بإطلاقه ، فانه عليه السلام قال ( أما من الحر والبرد فلا ) انه لا يوجد مفهوم يمكن التمسك بإطلاقه ، نعم السائل قد عبر بلفظ التغطي وقال ( أيتغطى ) ومن الواضح أن الإطلاق الحجة هو ما كان وارداً في كلام الإمام عليه السلام لا ما كان وارداً في كلام السائل ، ولا يبقى لك إلا أن تدافع وتقول ؛ نتمسك بفكرة ترك الاستفصال في مقام الجواب ، فصحيح أن التمسك في الإطلاق يشتمل على مسامحة ولا يجوز ذلك فنياً ، ولكن بالتالي يصح أن نتمسك بترك الاستفصال فيقال ؛ أن السائل سأل عن التغطي فلو كان هناك فرق بين تغطية الرأس وبين التظليل لكان من المناسب أن يفصل الإمام عليه السلام في مقام الجواب ، وحيث أنه عليه السلام ترك التفصيل في مقام الجواب فيثبت أن التغطي من الحر والبرد بكلا مورديه - يعني سواء في تغطية الرأس أو بالتظليل - هو محرم وبذلك يثبت المطلوب .

والجواب :- انه يمكن أن يقال أنه عليه السلام لم يستفصل لأنه فهم من لفظ التغطية عندما سأل السائل هو إرادة تغطية الرأس ، فصحيح أن التغطية قد تستعمل في التظليل باعتبار أن من يظلل قد غطى الهودج ، ولكن المنصرف من اللفظ المذكور عند استعماله هو إرادة تغطية الرأس ، أن هذا احتمال وجيه ، والإمام عليه السلام لم يستفصل من هذه الناحية - أي لأجل وجود الانصراف في سؤال السائل - وعليه لا يمكن أن نستفيد العموم من جواب الإمام عليه السلام.

 وهذا من أحد ثمرات الفرق بين التمسك بالإطلاق وفكرة ترك الاستفصال ، فان ما ذكرناه من احتمال الانصراف في سؤال السائل وأن الإمام فهم من سؤال السائل أن السؤال عن تغطية الرأس ، أن مثل هذا يضر في فكرة ترك الاستفصال ولا يأتي على تقدير التمسك بفكرة الإطلاق ، أن هذه ثمرة ظريفة بين هاتين الفكرتين

أن قلت :- أن بالإمكان التمسك بشيء آخر وذلك بان يقال ؛ انه يحصل علم إجمالي بأن مراد السائل من التغطية إما التغطية بذاك المعنى - أي تغطية الرأس - أو التغطية بهذا المعنى - أي التظليل - ومع ثبوت هذا العلم الإجمالي يثبت لزوم الاحتياط وذلك بترك تغطية الرأس من الحر والبرد وبترك التظليل من الحر والبرد أيضاً ، فبالتالي وصلنا إلى التعميم من خلال فكرة العلم الإجمالي .

قلت:- أن هذا وجيه إذ لم نقل بانصراف لفظ التغطي إلى تغطية الرأس ، انه إذا أنكرنا هذا الانصراف فيمكن آنذاك دعوى تشكيل العلم الإجمالي ، أما إذا سلمنا بالانصراف فلا يتحقق العلم الإجمالي ، ويمكن حتى لو أنكرنا الانصراف فالعلم الإجمالي المذكور ليس حجة - أي ليس منجزاً - باعتبار أن تغطية الرأس من الحر والبرد إذا لم يصل الأمر إلى حد الضرورة كما هو المنظور في الروايات إذ لو وصل إلى حد الضرورة جاز جزماً هو محرم جزماً وبالعلم التفصيلي لدلالة الروايات على حرمة ذلك مثل صحيحة عبد الله بن ميمون المتقدمة ( لا تتنقب المرأة المحرمة لأن إحرام المرأة في وجهها وإحرام الرجل في رأسه ) أن تغطية الرأس من الحر والبرد من دون ضرورة هو محرم للرجل جزماً ، وإنما الشك هو في حرمة التظليل من الحر والبرد ، فالطرف الأول مشكوك بدواً والطرف الثاني يكون معلوم جزماً فيكون العلم الإجمالي ساقط عن التنجيز.

 ومن خلال كل هذا اتضح أن لا دليل فنِّي يمكن الاستناد إليه لإثبات التعميم ، ومعه يتمسك بأصل البراءة عن حرمة التظليل في الليل ، نعم إذا نزل مطر فالأحوط ترك التظليل ، وإنما قلنا الأحوط لأن ثبوت الكفارة عندنا لا يلازم عرفاً التحريم ، انه من هذه الناحية لم نجزم بنحو الفتوى وإنما احتطنا في نزول المطر.

[1] مستند الشيعة 12 - 33

[2] الوسائل 12 519 64 تروك الإحرام ح14