32/06/04


تحمیل

 ثم انه قد ذكرنا في بداية هذه المسألة أن السيد الماتن قيد عبارته في المتن بأن المرأة المحرمة لها أن تتحجب من الأجنبي ( بأن تسدل ثوبها من على رأسها...... )،ونحن علقنا وقلنا أن الروايات لا تشتمل على هذا القيد - يعني قيد وجود الأجنبي - بل هي مطلقة،وقد دلت بإطلاقها على أن لها الحق في ذلك،أي في إنزال ما على رأسها،والتقييد بما إذا كان ذلك لأجل الأجنبي لا وجود له في الروايات،فالمناسب هو العمل بإطلاقها.هكذا ذكرنا فيما سبق .

وقد يشكل ويقال:- انه توجد رواية تدل على القيد المذكور،ألا وهي موثقة سماعة حيث جاء فيها ما نصه ( سأله عن المحرمة،فقال: إن مر بها رجل استترت منه بثوبها ) وهي واضحة في تقييد جواز الاستتار بما إذا مر بها أجنبي،فتكون هذه الرواية مقيدة لسائر الروايات.

 إذن سائر الروايات وان كانت مطلقة إلا انه لا بد من تقييدها بهذه الرواية كما هو واضح.وقد صار إلى ذلك الشيخ التبريزي (قده) في تنقيحه[1] .

هذا ولكن يرد على ما ذكر :-

أولا:- إن هذه الرواية لو كان لها مفهوم فتصير بسبب مفهومها مقيدة لإطلاق سائر الروايات،أما إذا كانت مسوقة لبيان تحقق الموضوع فحينئذ لا ينعقد لها مفهوم حتى تقيد سائر الروايات،ولماذا هي مسوقة لبيان الموضوع وليس لها مفهوم ؟ ذلك باعتبار أن كلمة ( منه ) لو لم تكن موجودة أمكن أن يقال بانعقاد المفهوم لها،بان فرض أن الوارد هكذا ( إن مر بها رجل استترت... ) فيصير مفهومها ( إن لم يمر بها رجل فلا تستتر ) فينعقد لها مفهوم،فيصير هذا المفهوم مقيداً لإطلاق سائر الروايات،ولكن المفروض أن كلمة ( منه ) موجودة،فهي تقول ( إن مر بها رجل استترت منه ) أي من الرجل المار بها ، ومفهومه لا يكون إلا بنحو السالبة بانتفاء الموضوع،لأن المفهوم يكون هكذا ( إن لم يمر بها رجل فلا تستتر من الرجل ) ومن الواضح أن هذا مفهوم بنحو السالبة بانتفاء الموضوع فان الاستتار من الرجل المار بها فرع مروره عليها فإذا لم يمر عليها فلا معنى لاستتارها منه.

 إذن ما دام الجار والمجرور موجودا، فالرواية ليس لها مفهوم،ومعه يبقى إطلاق سائر الروايات على حاله إذ لا مقيد له فان المقيد هو المفهوم وحيث لا مفهوم لا تقييد.وهذه نكتة ظريفة يجدر الالتفات إليها.

وثانيا:- مع التنزل وتسليم أن لها مفهوماً فنقول أن الرواية ناظرة إلى الاستتار لا إلى الإسدال،فهي لم تقل ( أن مر بها رجل أسدلت ما على رأسها ) بل قالت ( استترت منه بثوبها ) والاستتار ليس نفس الإسدال،فعلى هذا الأساس يمكن أن يقال أن هذه الرواية تصير مقيدة لروايات حرمة ستر الوجه،فتلك الروايات التي دلت على أن المرأة تحرم يوجهها ويلزمها أن تكشف عن وجهها تصير مقيدة بهذه،وتصير النتيجة هكذا: انه أن مر بها رجل استترت بثوبها،يعني ولم تكشف عن وجهها،وأما إذا لم يمر بها رجل فلابد وان تكشف عن وجهها،أن المناسب كون هذه الرواية مخصصة لروايات لزوم كشف المحرمة عن وجهها لا أنها مقيدة لروايات الإسدال.

 نعم يمكن أن يقال أن هذه الرواية لو كانت وحدها في الميدان من دون معارضة صلح أن تكون مقيدة لروايات لزوم كشف المحرمة عن وجهها،ولكنها معارضة بمثل صحيحة الحلبي ( مر أبو جعفر عليه السلام بامرأة متنقبة وهي محرمة فقال: أحرمي وأسفري وأرخ ثوبك من فوق رأسك فانك أن تنقبت .......) انه في هذه الرواية يوجد الأجنبي حسب مفروض الرواية -يعني عند المحرمة - وهو الإمام عليه السلام لأنه هو قد مر بمحرمة وقال لها ( أسفري وأرخ ثوبك من فوق راسك ) أن ذلك يدل على أن المحرمة لا يجوز لها أن تستر وجهها عند وجود الأجنبي وإلا فلماذا أمرها الإمام عليه السلام بالإسفار عن وجهها مع إرخاء ثوبها من أعلى.

والخلاصة:- أن موثقة سماعة لا تصلح لتقييد روايات الإسدال بما إذا كان الأجنبي موجوداً، نعم ذلك أحوط كما هو واضح.هذا كله بالنسبة إلى السؤال الأول.

وأما السؤال الثاني:- أعني إلى أين ترخي المحرمة الثوب الذي على رأسها ؟

 أن الروايات قد اختلفت في ذلك،فبعضها حدد إلى طرف الأنف الأعلى يعني عند الحاجبين، وبعضها الآخر إلى الفم،وثالث إلى الذقن، ورابع إلى النحر، وخامس إلى النحر أن كانت راكبة. فكيف نجمع بين هذه الروايات ؟

 وفي هذا المجال ذكر السيد الخوئي (قده)[2] أن هذه الروايات متعارضة تعارضاً مستقراً وطبيعي هو لم يستعن بهذه التعابير ولا بهذا التوضيح بمعنى أنه لا يمكن الجمع العرفي بينها،ولماذا ؟ أجاب (قده) عن ذلك بأن الرواية التي حددت إلى طرف الأنف الأعلى تلك صريحة في أنه لا يجوز الإسدال إلى أزيد من ذلك،ونؤكد أنها صريحةٌ ونصٌ،وما دامت نصٌ في ذلك - أي في عدم جواز الإسدال إلى الأزيد - فالروايات الباقية الدالة على جواز الإسدال إلى الأكثر سوف تصير معارضة بنحو مستقر لهذه الرواية،إذ لا يمكن الجمع العرفي بعد صراحتها في عدم جواز الإسدال إلى أكثر من ذلك،فان الروايات الأخرى هي نصٌ وصريحٌ أيضا في جواز الإسدال إلى أكثر من ذلك فتتعارضان،فواحدة صريحة في عدم جواز الإسدال إلى أكثر من طرف الأنف الأعلى،والبقية صريحة في جواز الإسدال إلى الأكثر،فكلاهما صريح،فواحد صريح بعدم الجواز والآخر صريح بالجواز فيتعارضان تعارضاً مستقراً.

 ولكن هو (قده) لم يوضح ولم يبين أن الأولى لماذا هي صريحة بعدم الجواز وأما البقية صريحة بالجواز. ولكن نحن نوضح ذلك:-

ووجه كون الأولى صريحة في عدم جواز الإسدال إلى الأكثر:- هو أنها واردة مورد التحديد،فلاحظ تلك الرواية وهي صحيحة العيص ( قال أبو عبد الله عليه السلام في حديث: كره النقاب ....... وقال تسدل الثوب على وجهها،قلت: حد ذلك إلى أين ؟ قال: إلى طرف الأنف قدر ما تبصر) إذن الراوي سأل عن التحديد والإمام عليه السلام حدد إلى طرف الأنف الأعلى،انه لأجل كونها واردة مورد التحديد وكان الجواب بعد السؤال عن التحديد تكون صريحة بأنه لا يجوز الإسدال إلى أكثر من ذلك ، وأما أن بقية الروايات صريحة في جواز الإسدال إلى الأكثر فواضح ولا يحتاج إلى بيان ، فمثلا صحيحة الحلبي جاء في آخرها ( فقال رجل: إلى أين ترخيه ؟ قال: تغطي عينيها ، قلت: تبلغ فمها ؟ قال: نعم ) أنها صريحة في جواز الإسدال إلى الفم فانه عليه السلام قال ( نعم ) يعني نعم يجوز الإسدال إلى الفم،فهي صريحة في ذلك،وتلك صريحة في عدم الجواز فالتعارض يصير مستقراً ، ولذا لو فرض أنهما جاءا في رواية واحدة وكلام واحد عدهما العرف من المتناقضين والمتهافتين،وهذا آية التعارض المستقر،فان الضابط لمعرفة أن التعارض مستقر أو لا أن نجمع بين اللسانين في كلام واحد وسياق واحد فإذا عد العرف ذلك تناقضاً كان ذلك من التعارض المستقر وإلا كان من غير المستقر،وهنا يعده كذلك.

 وعليه فالنتيجة انه روايات الإسدال متعارضة بنحو لا يمكن الجمع العرفي بينها فتتساقط ونرجع آنذاك إلى إطلاق رواية ابن ميمون التي قالت ( إحرام المرأة في وجهها ) ومقتضاه انه لا يجوز لها الإسدال بأي شكل من الإشكال ونحو من الأنحاء،ولكن بالنسبة إلى مقدار طرف الأنف الأعلى يوجد اتفاق بين روايات الإسدال على جوازه فنخرج عن إطلاق صحيحة ابن ميمون بهذا المقدار دون ما زاد.

 ثم قال (قده) انه توجد رواية تقول إذا كانت المحرمة راكبة فيجوز لها الإسدال إلى النحر وهي صحيحة معاوية بن عمار التي رواها الشيخ الصدوق (قده) وهذه الرواية لها ميزة وهي أنها لا يعارضها بقية الروايات لأنه ورد فيها قيد وهو قيد ( إذا كانت راكبة ) فهي ناظرة إلى حالة معينة وهي حالة الركوب فتصير مقيدة إلى بقية الروايات،ففي حالة الركوب يجوز الإسدال إلى النحر دون غير حالة الركوب.

 ثم قال بما أن حالة الركوب هي حالة تتعرض فيها المرأة إلى نظر الأجنبي عادة فلذا حكم الإمام بجواز الإسدال إلى النحر،فغالبية معرضية رؤية الأجنبي هي النكتة في جواز الإسدال إلى النحر حالة الركوب ، ثم رتب على هذا أنه قال: وعلى هذا الأساس نفصل هكذا؛إن كانت المرأة في عرضة الأجنبي جاز أن تسدل إلى النحر حتى إذا لم تكن راكبة،وأما إذا لم تكن في معرض الأجنبي فالإسدال يجوز لها أيضا ولكن إلى طرف الأنف الأعلى،ومن هنا قال (قده) في عبارة المتن أنه ( يجوز لها أن تتحجب من الأجنبي إلى الفم بل والى الذقن ) بل كان من المناسب أن يضيف ويقول ( بل والى النحر)،ووجه ذلك ما اشرنا إليه،وهو أن صحيحة معاوية التي جوزت الإسدال إلى النحر حالة الركوب هي ناظرة إلى حالة المعرضية،فمتى ما تحققت المعرضية جاز الإسدال إلى أزيد من طرف الأنف الأعلى وإذا لم تتحقق فلا تجوز إلا إلى طرف الأنف الأعلى .

[1] التنقيح 2 - 342

[2] المعتمد 4 - 230