22-06-1435


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

35/06/22

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع:-  المبيت بمنى
وقد أشار المحقق(قده) في الشرائع إلى الحكمين الأوّلين حيث قال ما نصّه:- ( والنفر الثاني وهو اليوم الثالث عشر فمن نفر في الأوّل لم يجز إلا بعد الزوال وفي الثاني يجوز قبله )، وعلّق صاحب المدارك بما نصّه:- ( هذان الحكمان اجماعيان منصوصان في عدّة روايات )[1] و، مقصوده من الحكمين يعني الأوّلين من الأحكام الثلاثة التي أشار إليها صاحب الشرائع . ثم أشار صاحب المدارك(قده) إلى الحكم الثالث فقال:- ( ولو غربت الشمس على الحاج يوم النفر الأوّل وهو بمنى وجب عيله المبيت بها ) ، وهكذا ذكر في الحدائق[2] وفي الجواهر[3] . هذا من حيث الفتوى.
وأمّا من حيث الروايات:- فتوجد أكثر من رواية تشير إلى الأحكام الثلاثة ولو بشكلٍ متفرق، فمثلاً جاء في صحيحة معاوية عن أبي عبد الله عليه السلام :- ( إذا أردت أن تنفر في يومين فليس لك أن تنفر حتى تزول الشمس وإن تأخرت إلى آخر أيّام التشريق وهو يوم النفر الأخير فلا عليك أيّ ساعةٍ نفرت قبل الزوال أو بعده )[4]، وهي قد أشارت إلى الحكمين الأوّلين.
ومن جملة الروايات صحيحة الحلبي عن ابي عبد الله عليه السلام قال:- ( من تعجّل في يومين فلا ينفر حتى تزول الشمس فإن أدركه المساء بات ولم ينفر )[5]، وهي قد أشارت إلى الحكم الأول والثالث، إلى غير ذلك من الروايات.
هذا وتوجد رواية واحدة وهي رواية زرارة يظهر منها أنه في النفر الأوّل يجوز قبل الزوال ، وربما يظهر من العلامة في التذكرة الميل إلى ذلك.
أمّا الرواية:- فهي ما وراه الشيخ بإسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى عن العباس عن منصور عن علي أسباط عن سليمان بن أبي زينبة عن حريز عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال:- ( لا بأس أن ينفر الرجل في النفر الأوّل قبل الزوال )[6]، ودلالتها على جواز النفر قبل الزوال واضحةٌ حيث قال ( لا بأس أن ينفر الرجل في النفر الأوّل قبل الزوال ).
ولو كنا  مع هذه الرواية وبقيّة الروايات لكان المناسب أن هذه أظهر في الدلالة على الجواز من تلك المانعة، فالمانعة قالت:- ( فليس لك أن تنفر حتى تزول الشمس )  وهذا التعبير وإن كان ظاهراً في عدم جواز النفر قبل الزوال لكن ليس بشكلٍ يمتنع حمله على الرجحان وأن المقصود هو أن الأرجح لك ذلك بقرينة هذه المصرِّحة بالجواز وأنّه لا بأس بأن تنفر قبل الزوال.
وحملها الشيخ الطوسي(قده) على ما نقل صاحب الوسائل(قده) في ذيل الحديث على حالة الاضطرار.
وهذا كما ترى:- فإنه جمعٌ لا يوجد ما يساعد عليه.
وأمّا أن العلامة(قده) فيلوح منه أنه يجوز النفر قبل الزوال فقد قال في التذكرة ما نصّه:- ( فإذا نفر في الأوّل نفر بعد الزوال ولا ينفر قبله إلا لضرورة أو حاجة لقول الصادق عليه السلام في الصحيح " إذا أردت أن تنفر في يومين فليس لك أن تنفر حتى تزول الشمس وإن تأخرت إلى آخر أيام التشريق وهو يوم النفر الأخير فلا عليك أيّ ساعةٍ نفرت ورميت قبل الزوال أو بعده " والأقرب أنه على الاستحباب )[7].
إنّه لم تنقل المخالفة إلا من العلامة في التذكرة في هذه العبارة.
وقد يوجّه ذلك:- بأن الهدف من البقاء في منى والمبيت فيها أمران وكلاهما قد تحقّقا الأوّل هو المبيت في منى ليلتي الحادي عشر والثاني عشر  قد تحقّق، والثاني هو الرمي في نهار اليوم الحادي عشر والثاني عشر - غير يوم العاشر - وهذا قد تحقق أيضاً فما الموجب حينئذٍ لوجوب البقاء إلى ما بعد الزوال ؟!
وفي مقام التعليق نقول:- إنه إمّا أنه يوجد لدينا دليلٌ يدلّ على وجوب البقاء إلى ما بعد الزوال أو لا يوجد عندنا دليل، فإن لم يكن عندنا دليل كفانا عدم الدليل حيث نطبّق آنذاك أصل البراءة فلا دليل على وجوب النفر بعد الزوال وهذا شكٌّ في التقيّد الزائد وشكٌّ في شغل الذمّة بمقدارٍ زائدٍ فننفيه بالبراءة بلا حاجة إلى هذا الكلام فإن هذا الكلام يليق فيما إذا كانت الأحكام بأيدينا ونحن نريد أن نشرّع فنقول حصل هذا وحصل ذاك فلا حاجة إذن إلى البقاء إلى ما بعد الزوال، وأمّا إذا فرض أن الدليل قام على ذلك فحينئذٍ يثبت أن البقاء إلى ما بعد الزوال هو بنفسه واجب من الواجبات، فالواجبات ثلاثة أذن لا اثنان هي المبيت والرمي والبقاء إلى ما بعد الزوال، وهذا يكون اجتهاداً في مقابل النصّ بل هو أكثر منه ولا مجال له . إذن هذا الكلام لا ينفع شيئاً.
والمهمّ أن ننظر نحن في واقع الأمر ونقول إن رواية زرارة هي وإن كانت تامّة من حيث الدلالة إلّا أنها قابلة للمناقشة من حيث السند فإن سليمان بن أبي زينبة شخصٌ مجهولٌ فلا يمكن الاعتماد آنذاك على عليها بلا حاجة إلى أن نجمع بحمل هذه على الضرورة كما صنع الشيخ الطوسي(قده)، أو نقول نحمل تلك على الرجحان بقرينة هذه، فكلّ هذا الكلام لا مجال له بعدما فرض أن الرواية ضعيفة السند.
هذا مضافاً إلى أنه ربما يقال:- إنه حتى لو كانت الرواية صحيحة السند فلابد من توجيهها بشكلٍ وآخر باعتبار أنّا قد نقلنا عن صاحب المدارك(قده) أن لزوم البقاء إلى ما بعد الزوال والنفر ما بعد الزوال قضيّة اجماعية ومادامت قضيّة اجماعية فهي مهجورةٌ فتطرح من جهة الهجران والهجران كما ذكرنا مسقطٌ للرواية عن الحجيّة لوجهين إمّا من جهة قصور دليل الحجيّة في حدّ نفسه الذي هو السيرة فإنه يدلّ إذا لم يفترض وجود هجران أهل الفن للخبر، فالسياسيون إذا تركوا خبراً معيّنا ألقته بعض الفضائيات ولم يعيروا له أهمية فهذا لا يعملون به، فالسيرة جارية على ذلك . أو مضافاً إلى الاطمئنان، فنحن نطمئن ببطلانه وإلا فلماذا لم يعملوا به ؟!!، وعلى  أيّ حال يمكن أن يدّعى الهجران.
مضافاً إلى أنه يمكن أن يقال:- إن هذه قضيّة ابتلائية فلو كان حقّاً يجوز الخروج قبل الزوال لكان ظاهرةً بارزةً لأنها ابتلائيّة والحاجة إلى الخروج قبل الزوال موجودة ولكان يصنعه الأصحاب وبالتالي لتلقّاه كلّ جيلٍ من الجيل السابق لأنّ كلّ جيلٍ يرى الجيل السابق أنه كانت شريحة منهم يخرجون قبل الزوال وينتقل هذا إلى زماننا والحال أن جميع المسلمين في زماننا لا يخرجون إلّا بعد الزوال وهذا معناه أنّهم جيل عن جيل تلقّوا هذا تلقّي التسليم، فلو كان أيّ مجال للمخالفة والجواز قبل الزوال لصنعته شريحة منهم، فإذا قبلت بهذا الكلام وحصل لك الاطمئنان فيكون هو أحد موجبات ردّ الرواية.
وعلى أيّ حال يكفينا أنها ضعيفة السند، فعلى هذا الأساس يتعيّن أن يكون النفر في اليوم الثاني عشر قبل الزوال لا بعده، نعم في  اليوم الثالث عشر يجوز النفر قبل الزوال مضافاً إلى الرواية أنه يجوز لأجل أنه مقتضى الأصل فإن لزوم النفر بعد الزوال هو الذي يحتاج إلى دليل فإن هذا تقيّد زائد واشغالٌ للذمّة بمقدارٍ زائدٍ وحيث لا مثبت له فالأصل البراءة . فإذن في اليوم الثالث عشر يجوز النفر قبل الزوال لأجل أن ذلك هو مقتضى الأصل ولدلالة الرواية، وأمّا في اليوم الثاني عشر فيلزم أن يكون النفر بعد الزوال لأجل الروايات مضافاً إلى أن المسلمين قد تلقّوا ذلك الشكل تلقّي القبول من دون وجود مخالفةٍ في البين.
فرع في المقام:-
الفرع الأوّل:- بعد أن ثبت أن النفر في اليوم الثاني عشر يلزم أن يكون بعد الزوال، فلو فرض أن الشخص كان شيخاً أو مريضاً أو غير ذلك بحيث يصعب عليه النفر بعد الزوال فهل يجوز له أن يقدّمه قبل الزوال ؟
والجواب:- نعم بشرطين:-
الأوّل:- أن يكون النفر بعد الزوال حرجيّاً عليه أو ضرريّاً - يعني فيه مشقّة زائدة -، والثاني أن يكون المبيت في منى حرجيّاً عليه أيضاً، إنه إذا اجتمع هذان الشرطان فيجوز له آنذاك النفر قبل الزوال، أمّا إذا فرض أن النفر بعد الزوال لم يكن حرجيّاً عليه نعم هو قد يكون فيه شيء من الصعوبة والأسهل له النفر قبل الزوال ولكن لا يولّد له حرجاً كما في حق الكثير منّا فنجن يصعب علينا النفر بعد الزوال ولكن لا يبلغ درجة الحرج فاعتبار هذا لازم.
 والثاني:- أن يكون المبيت حرجيّاً وإلّا فنقول له ابقَ في الليل وفي صباح اليوم التالي ارم ثم اخرج، فلابد وأن نفترض أن البقاء في المساء حرجيٌّ عليه  أيضاً، فإذا فرضنا أن هذا حرجٌ عليه فآنذاك يمكن تطبيق قاعدة الحرج:- ( ما جعل عليكم في الدين من حرج ) فنقول لا يلزمك أن تنفر بعد الزوال، فنرفع هذا الوجوب عنه بقاعدة نفي الحرج كسائر الوجوبات التي نرفعها لأجل قاعدة نفي الحرج، كما لو قال شخصٌ إن صلة الرحم تولّد لي حرجاً، فصلة الرحم واجبة ولكن إذا ولّدت الحرج فيرتفع وجوبها، وكذلك إذا أردت أن أذهب إلى الحجّ وأصرف أموال الاستطاعة في الحجّ ولكنّي أحتاج إلى الزواج ولو لم أتزوج فسوف أقع في الحرج فهنا يرتفع وجوب الحج، فإذن نطبق قاعدة الحرج كما نطبقها في الموارد الأخرى.
نعم توجد بعض الموارد لعلّه من الخارج عرفنا أنها واجبة رغم كونها حرجيّة ولكنها تصير هذه مخصّصٌ لقاعدة نفي الحرج، أمّا في المورد الذي لا يوجد فيه مخصّص فنعمل بالقاعدة.
الفرع الثاني:- ماذا يراد من النفر بعد الزوال ؟ يعني لو فرض أن شخصاً في صباح اليوم الثاني عشر بعد أن طلعت الشمس رمى وبعد أن رمى أراد أن يخرج من منى إلى مكّة - إلى شقة السكن مثلاً - ثم يرجع إلى منى قبل الظهر بساعة فهل يجوز له ذلك أو لا ؟
الجواب:- لا بأس بذلك مادام يقصد العود، باعتبار أنّ الذي نهي عنه هو النفر قبل الزوال، والنفر ليس مطلق الخروج بل هو الخروج بإضافة قيدٍ وهو أن يكون بداعي الترك - أي ترك منى بأن لا يعود إليها -، أمّا أنه يخرج منها لساعة أو لساعتين ثم يعود فهذا ليس نفراً فلا محذور فيه، فحينئذ يجوز ذلك.
وهل يلزم أن يكون قد بقي شيء من وسائله وأمتعته في منى ؟ إنه لو كانت باقية فعدم تحقّق النفر يكون آنذاك أوضح وأجلى، ولكنّه لا يلزم ذلك باعتبار أنه حتى إذا لم يكن عنده ذلك فهو بالتالي لم ينفر فإن النفر هو الخروج بقصد عدم العودة، فعلى هذا الأساس لا مشكلة من هذه الناحية.