1440/06/10


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

40/06/10

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- هل حديث الرفع يعم الشبهات الحكمية ؟ - أصل البراءة- مبحث الأصول العملية.

النقطة الخامسة:- هل الحديث يعم الشبهات الحكمية ؟

إذا رجعنا إلى الحديث وجدنا أن غير واحدة من فقراته خاصة بالشبهة الموضوعية ولا تشمل الشبهة الحكمية ، مثل ( رفع ما استكرهوا عليه ) ، فإن الإكراه يكون على الموضوع الخارجي وليس عل الحكم الشرعي ، وهكذا ( رفعوا ما اضطروا إليه ) فالذي يضطر إليه الاسنان هو الموضوع الخارجي دون الحكم الشرعي ، وهكذا ( رفع ما لا يطيقون ) ، فالذي لا يطيقه ليس هو الحكم الشرعي وإنما هو الأمر الخارجي ولعله في فقرات اخرى من هذا القبيل مثل ( رفع النسيان ) وهكذا ( رفع الخطأ ) فإنهما يكونان في الموضوع الخارجي.

فالمهم أنَّ غير واحدٍ من فقرات الحديث ناظر إلى الشبهة الموضوعية ويثبت البراءة في الشبهة الموضوعية ، وكلام الأصولي هو في فقرة ( رفع ما لا يعلمون ) ، وإذا أردنا أن نتساير مع السياق فلا بد أن نفسّر ( ما لا يعلمون ) بالموضوع الخارجي ، يعني إذا لم تعلم بان هذا ماء أو خمر فقد رفع عنك ما لا يعلمون فيجوز لك شربه ، ولكن الأصولي يهمه البراءة في الشبهة الحكمية يعني نثبت أن التدخين ليس بحرام والدعاء عند رؤية الهلال ليس بواجب ، فالفقيه يريد أن يستفيد من حديث الرفع في الشبهات الحكمية حتى يصير الاستنباط من خلاله ، وأما في الشبهة الموضوعية فهذه قضية ليست مهمة ، بل المهم هو في الشبهات الحكمية ، فالفقيه يريد أن يستعين بحديث الرفع لإثبات أنَّ كل شيء لا نعلم بحرمته من الأشياء الكلية كالتدخين والقهوة وغير ذلك فهي مرفوعة ، فالمهم اثبات البراءة والرفع في الشبهة الحكمية فإنَّ هذا هو هدف الصولي وهو النافع له ، وبناءً على ما ذكرناه من اختصاص غير واحدةٍ من الفقرات بالشبهة الموضوعية حينئذٍ لا يمكن أن نثبت أن فقرة ( ما لا يعلمون ) يراد منها الشبهة الحكمية فإنَّ قرينة السياق مثلاً تأبى عن اثبات كون المراد في فقرة ( ما لا يعلمون ) هو رفع الحكم الكلّي غير المعلوم ، وهذه مشكلة حقيقية تواجه الأصولي فكيف نتغلب عليها ؟

لا مجال للتغلب عليها إلا بشيء واحد:- وهو التمسّك بالإطلاق ذلك بأن نقول: إنَّ مقتضى الاطلاق الشمول للاثنين معاً غايته اتفاقاً في ( ما استكرهوا عليه ) و ( ما لا يطيقون ) اتفاقاً لأجل أنَّ الاكراه لا يتصور في الأحكام بل في خصوص الموضوعات هناك قلنا إنَّ المرفوع هو الموضوع ، وأما في ( ما لا يعلمون ) فحيث إنه يُتصوّر الرفع بلحاظ الشبهة الموضوعية والحكيمة فنتمسّك بالإطلاق ، فيصير المعنى أنه رفع عن أمتي ما لا يعلمون مطلقاً يعني في باب الأحكام وفي باب الموضوعات.

وفي مقابل هذا الاطلاق تبرز عدّة تقريبات تنافي هذا الاطلاق:-

التقريب الأول:- أن نقول: إنَّ قرينة السياق تقف أمام الاطلاق ، ببيان: إنَّ هذه الفقرات واردة في سياق واحد ، وحيث إنَّ المراد في فقرة ( ما لا يطيقون ) و ( ما استكرهوا عليه ) وغيرهما الموضوع الخارجي - يعني الشبهة الموضوعية - يصير ذلك هو المراد في رفع ما لا يعلمون أيضاً ، يعني المقصود هو اثبات البراءة والرفع في الشبهة الموضوعية فقط بقرينة السياق ، نعم الاطلاق وجيه إذا اؤت فقرة ( ما لا يعلمون وحدها ) بأن قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( أيها الناس رفع عن أمتي ما لا يعلمون ) وحدها فهنا نتمسّك بالإطلاق ، أما بعد أن جاءت إلى جنب تلك الفقرات والمراد من تلك الفقرات هو الشبهة الموضوعية فهذا يصير قرينة على أن المراد كذلك في ( ما لا يعلمون ) ، أو لا أقل هو صالح للقرينية فيمنع من انعقاد الاطلاق لأنه قد اتصل به ما يصلح للقرينية لإرادة خصوص الشبهة الموضوعية ، فلا يمكن التمسك بالإطلاق.

والجواب:- إنَّ السياق لم يختل ، فنحن نفسّر تلك الفقرات بالشبهة الموضوعية والموضوع الخارجي ، ونفسّر ( ما لا يعلمون ) بالشبهة الحكمية - يعني بالحكم والموضوع - من دون أن يختل السياق ، فنحن نسلّم أنه في تلك الفقرات قصد من كلمة ( ما ) اثبات البراءة في الشبهة الموضوعية ، ولكن في فقرة (ما لا يعلمون ) قصد الشبهة الأعم من الحكمية والموضوعية ، وندّعي أنَّ السياق يبقى كما هو من دون أن يتزلزل ، وذلك بأن نقول: إنَّ كلمة ( ما ) يراد منها الشيء غايته أنَّ مصداق الشيء يختلف باختلاف الموارد ، فكلمة ( ما ) الموصولة في جميع هذه الفقرات أريد منها الشيء فـ( رفع ما اضطروا إليه ) يعني رفع الشيء الذي اضطروا إليه ، وكذلك ( رفع ما لا يطيقون ) يعني رفع الشيء الذي لا يطيقونه ، ولا يوجد تفسير ثانٍ ، فإن ما ( ما ) قصد منها الشيء وهذا من بديهيات اللغة العربية ولا يتوقف فيه ، وحينما نصل إلى فقرة ( ما لا يعلمون ) أيضاً نفسّر كلمة ( ما ) بالشيء ، أي رفع الشيء الذي لا يعلمونه ، فإذاً كلمة ( ما ) في الجميع هي مستعملة في معنى الشيء ولكن مصداق الشيء يختلف ، فمصداق الشيء في ( رفع ما اضطروا إليه ) حيث لا يكون الاضطرار إلا بلحاظ الموضوع الخارجي فمصداق الشيء يصير هو الموضوع الخارجي ، وهكذا في فقرة ( ما استكرهوا عليه ) وغيرهما ، وهذا بخلافه في ( ما لا يعلمون ) فإنَّ مصداق الشيء يمكن أن يكون هو الموضوع ويمكن أن يكون هو الحكم فيبقى شامل للحكم والموضوع ، فكلمة ( ما ) في فقرة ( رفع ما لا يعلمون ) استعملت في الشيء لا في غير ذلك ولكن مصداق الشيء شامل للحكم وللموضوع ، وكلمة ( ما ) في ( ما اضطروا إليه ) وأخواتها استعملت أيضاً في الشيء أيضاً ولكن مصداق الشيء منحصر بالموضوع الخارجي ، وعلى هذا الأساس استعملت كلمة ( ما ) في جميع الفقرات في مفهوم الشيء ، فالسياق حينئذٍ لم يختل ، نعم مصداق الشيء مختلف واختلاف مصداق الشيء لا يعني اختلاف المعنى المستعمل فيه ، بل المعنى المستعمل فيه في كلمة ( ما ) واحد في جميع الفقرات وهو الشيء ، فإذاً قرينة السياق لا تستدعي تضييق معنى كلمة ( ما ) في فقرة ( ما لا يعلمون ) ، وإنما قرينة السياق تقتضي أن يكون المقصود من كلمة ( ما ) في الجميع واحداً وهو الشيء وقد استعملت في ذلك ولا تقتضي أن يكون مصداق أن يكون واحداً ، لأنَّ مصداق الشيء ليس هو المعنى المستعمل فيه ، فليكن مصداق الشيء مختلفاً فإنه لا يؤثر.

بيد أنَّ السيد الروحاني(قده)[1] له كلامان في هذا المجال:-

الأول:- إنه قال: إنَّ المعنى المستعمل فيه مختلف ، والوجه في ذلك: هو أنَّ الحديث يقول ( رفع ما استكرهوا ) فالمستكره الذي هو ( ما ) رفع وحيث إن المستكره نفس ( ما ) وهو الموضوع ، لأنَّ المستكره دائماً هو الموضوع ، فتصير كلمة ( ما ) ر مستعملة في الموضوع ، فالذي رفع هو الموضوع ، بينما في ( رفع ما لا يعلمون ) رفع الشيء الذي لا يعلم ، والذي لا يعلم هو الحكم ، فصار معنى الموضوع هو الحكم ، فتغير آنذاك المعنى المستعمل فيه بعد كون الرفع منسوباً إلى ( ما ) ولكن (ما ) ( ما استكره ) لا على اطلاقه بل هذه الحصّة وهي ما استكره والذي استكره هو الموضوع ، فتصير ( ما ) هي الموضوع ، بينما في ( رفع ما لا يعلمون ) الذي لا يعلم حيث إنه الحكم وقد رفع فنفس ( ما ) بالحكم ، وبالتالي سوف يلزم تفكيك السياق لأنه قد تغيّر المعنى المستعمل فيه.

الثاني:- صحيح إنَّ المعنى المستعمل فيه متعدد ولكن هذا التعدد لا يمنع من الأخذ به ، فنأخذ به وإن كان على خلاف وحدة السياق ، لقيام القرينة الخارجية عليه ، فنفسّر ( ما ) في فقرة ( ما استكرهوا ) أو ( ما اضطروا إليه ) بالموضوع لما تقدّم ، ونفسّر ( ما ) في فقرة ( ما لا يعلمون ) بالحكم وإن لزم تفكيك السياق ولكن لا بأس به هنا ، والوجه في ذلك: هو أنه في ( رفع ما لا يعلمون ) لا يمكن أن يُرفع الموضوع ، بل الذي يُرفع هو الحكم ، فإنَّ الشارع بما هو شارع لا يمكنه أن يرفع الموضوع وإنما يرفع الحكم الذي هو تحت اختياره وسلطنته ، فإذاً هذه قرينة خارجية على حتمية التفكيك في السياق الواحد.

وفيه:- إنه في كلامه الأوّل قال إنَّ التفكيك في السياق الواحد قضية لا مناص منها لأنَّ الذي رفع هو نفس ما اضطروا إليه والمضطر إليه ليس إلا الموضوع ، فإذاً نقول إنَّ المقصود من كلمة ما هو الموضوع ، ونحن نقول:- صيح إنَّ المقصود من كلمة ( ما ) هو الموضوع ولكن بطريق تعدد الدال والمدلول ، لا أنَّ كلمة ( ما ) قد استعملت مباشرة في الموضوع ، وإنما استعملت بطريقة تعدد الدال والمدلول ، يعني أنَّ ( ما ) معناها الشيء ، و ( استكرهوا ) يصير قرينة على أنَّ المقصود هو الموضوع ، فبالتالي يصير المقصود من الموضوع هو الشيء الذي هو الموضوع ولكن هذا ليس معناه أن كملة ( ما ) قد استعملت ابتداءً في الموضوع ، بل هي قد استعملت في الشيء ولكن بنحو طريقة تعدد الدال والمدلول وصار المقصود النهائي هو الموضوع ، من قبيل أن أقول ( جاء الذي أكل والذي ضرب ) فالذي أكل هو زيد والذي ضرب هو عمرو ، وهل هذا يلزم التفكيك بين السياق ؟ كلا ، بل هذه طريقة تعدد الدال والمدلول ، فالذي أكل بقرينة ( أكل ) ونحن نعلم من الخارج أنَّ الذي أكل هو زيد ، فحينما يجتمع الشيء في ( جاء الذي أكل ) تصير النتيجة هو زيد ، وهذه تسمّى طريقة تعدد الدال والمدلول ، وكذلك الحال في ( وجاء الذي ضرب ) بطريقة الدال والمدلول نعلم أنَّ الضارب هو عمرو ، ولكن هذه طريقة تعدد الدال والدلول لا أنَّ ( ما ) الأولى استعملت ابتداءً في زيد و ( ما ) الثانية استعملت ابتداءً في عمرو ، كلا وإنما هذه طريقة تعدد الدال والمدلول.

فإذاً لا يلزم استعمال كلمة ( ما ) في نفس الموضوع أو نفس الحكم ، بل الذي أريد بالتالي هو إما الحكم أو الموضوع ولكن بطريقة تعدد الدال والمدلول ، فلا يلزم التفكيك في السياق الواحد.

وأما أما أفاده في كلامه الثاني - من أن القرينة قائمة على التفكيك وهو أن الرفع فيما ما لا يعلمون لا يصلح إلا للحكم - فنحن نقول له:- إنَّ هذا نفسه يأتي في ( رفع ما اضطروا إليه ) و ( ما لا يطقون ) ، فهل الله تعالى يرفع الموضوع ؟ كلا بل يرفع الحكم ولكن الحكم للشيء الجزئي لا الحكم للشيء الكلي ، فالحكم على هذا الأساس قد رفع ولكن في الشبهة الموضوعية ، لأنَّ الاضطرار لا يكون إلا في الموضوع الخارجي الجزئي ، ولكن بالتالي الرفع يكون للحكم لا للموضوع ، ونفس الشيء نقوله في أنَّ الرفع في ( ما لا يعلمون ) هو للحكم ، فالرفع في الجميع هو للحكم ولكن في فقرة ( رفع ما استكرهوا ) هو رفعٌ للحكم الجزئي ، وفي الثاني هو رفع للحكم الأعم من الكلي والجزئي ، فالرفع في الجميع هو للحكم ، لا أنه في البعض رفع للموضوع وفي البعض الآخر رفعٌ للحكم حتى يقول إنَّ التفكيك في السياق قضية حتمية لا مناص منها.