39/08/06


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

39/08/06

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- السيرة عقلائية ومتشرعة - مبحث الظن.

هذا ويمكن أن يقال:- لو أرنا أن نأخذ بالراي الأول[1] فسوف تلزم نتائج يصعب الالتزام بها:-

أحدها:- هو أنَّ الفقهاء ذكروا أنَّ من جملة أدلة جواز التقليد هو أنَّ مطلوب منّا امتثال أحكام الشريعة وهذا شيء وجداني ، ولكن كيف نعرف أحكام لشرعية ؟ نحن نعرفها إما من خلال الاجتهاد أو الاحتياط أو التقليد ولا طريق رابع ، والاجتهاد غير ممكن لكل شخص وهذا شيء وجداني ، وأما الاحتياط فيلزم منه العسر والحرج ، فيتعيّن التقليد ، وهذه قضية أوضح من أن تحتاج إلى دليل ، كما لو مرض الشخص فيلزم أن يذهب إلى الطبيب ولا طريق آخر كذلك في التقليد ، فإذن من أحد أدلة جواز التقليد هو أنَّ القضية أوضح من أن تحتاج إلى دليل[2] ، ومن جملة الأدلة على ذلك قوله عليه السلام:- ( وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله ) وهذا يحتاج إلى بيان من حيث السند ومن حيث الدلالة وهي قضية صعبة وليست سهلة ، ومن جملة الأدلة على جواز التقليد بعض الآيات الكريمة التي قد يستفاد منها ذلك ، ومن جملة ذلك بعض الروايات حيث كان الامام عليه السلام يرجع الناس إلى بعض الرواة ويقول له إذا عرضت عليك مسألة فارجع إلى فلان وفلان.

ومن جملة الأدلة على جواز التقليد ما تمسّك به السيد الخوئي(قده) ، وهو الرجوع إلى ذوي الخبرة وصاحب كلّ ذي فنّ في فنّه ، حيث جرت سيرة العقلاء غير المردوع عنها على ذلك ، وبما أنَّ الفقيه صاحب خبرة وفنّ فنرجع إليه من باب الرجوع إلى أصحاب الفنّ والخبرة.ونحن نقول للسيد الخوئي(قده):- أنت حينما تستدل بهذا فهل تفترض وجود سيرة على هذا العمل في زمن المعصوم عليه السلام أو لا ؟ إنك قد افترضت أنه لا توجد سيرة ، لأنه لو كانت هناك سيرة فهي تغنينا عن كلّ شيء ، فإذن لابد وأن نفترض أنه لا توجد سيرة إذ لو كانت هناك سيرة متشرعة على الرجوع إلى الفقهاء في المسائل الشرعية في زمن المعصوم كفانا هذا ولا نحتاج إلى سيرة ذوي الخبرة ، فإذن لابد أن نفترض أنَّ هذه السيرة ليست موجودة ، فكيف تتمسّك بهذه السيرة بمعنى الرجوع إلى ذوي الخبرة ؟ إنَّ هذا لابد وأن يكون من باب الارتكاز وأنَّ الارتكاز قائم على الرجوع إلى كل صاحب فنّ في فنّه وكلّ صاحب خبرة في خبرته ، فالارتكاز وسيع ، وحيث لم يردع عنه الامام عليه السلام فيكون حجة ، فإذن بهذا البيان قد تمسّكت بالارتكاز الوسيع.

ثانيها:- قالوا إنَّ قول صاحب اليد حجة ، فإذا ذهبنا إلى دار شخص وقال صاحب الدار إنَّ هذا المكان نجس فقوله يكون حجة لأنه صاحب يد ، وإذا قال هو طاهر فنحكم أيضاً بطهارته ، فكلّ ما يقوله صاحب الدار يكون مقبولاً ، وما هو الدليل على أنَّ قول ذي اليد حجة ؟ قالوا هو السيرة حيث جرت على أنَّ الأمر يكون هكذا ، لأنه في زمان المعصوم ألم يكن زرارة يزور محمد بن مسلم مثلاً فلو جاء له بماء وقال له إنَّ هذا طاهر الماء فسيوف يشربه ، وإذا قال له إني قد اشتبهت وجئت لك بإناء نجس فسوف لا يشربه ، وما ذاك إلا أنَّ قول صاحب حجة ، وهذه من الأشياء المسلّمة ، وحتماً هذه السيرة مسلّمة في تلك الفترة ، وهذا تام لحدّ الآن.

وقال السيد الخوئي(قده) وغيره من الفقهاء:- إنَّ من جملة الموارد التي يكون فيها قول صاحب اليد حجة هو ما إذا شهد بالكّرية ، فلو قال إنَّ هذا الماء بمقدار كرّ فهنا قوله يكون حجة لأنه صاحب يد ، وهذا من أحد الأدلة التي يذكرونها لإثبات الكرّية .

وحينئذٍ نقول:- هل كانت توجد سيرة في قول صاحب اليد في مسألة الكرّية ؟ كلا فإنه لم تكن عندهم خزانات ماء أو أحواض كرّ وإنما كانوا يسافرون وقد يجدون في طريقهم مقداراً من الماء في المستنقعات فيسألون أنها كرّ أو لا ، فإذن السيرة على قبول قول صاحب اليد في مسألة الكرّية لم تكن موجودة أو لا أقل هي مشكوكة - ويكفينا الشك - ، فكيف تقول إذن قول صاحب اليد في اثبات الكرية حجة ؟ إنه لابد وأنك رجعت إلى الارتكاز ، يعني أنَّ الارتكاز لا يفرّق في قول صاحب اليد بين أن يكون في مسألة طهارة ونجاسة أو يكون في الكرّية ، بل بكلّ شيء الذي يرتبط به ، فإذن هذا أخذٌ وتمسّك بالارتكاز من حيث لا ندري ، وإلا إذا لم نتمسّك بارتكاز فسيرة على قبول قول صاحب اليد في عصر المعصوم عليه السلام على الأخذ بقوله في مسألة الكريّة لم تكن موجودة لأنه لم تكن هناك خزانات ماء هي كرّ ولا أقل نشك في ذلك ، فإذن السيرة لا نحرزها فلابد أن يكون تمسّكاً بالارتكاز.

ثالثها:- وهو باب حيازة النفط ، فلو وجهنا سؤالاً إلى لأصحاب الرأي الأوّل وقلنا لهم لو حفر الشخص في صحراء وعثر على نفطٍ بمقدار قليل كبرميل مثلاً فهل يملكه أو لا ؟ أنهم يجيبون بأنه ملك للذي حفر وحصل عليه بلا إشكال ، ولكن كيف يثبتون ذلك فإنه في ذلك الزمان لم تكن حيازة للنفط ولا توجد سيرة على حيازته ولا توجد سيرة على أنَّ الحيازة مملكة في النفط ، فإنَّ هذه السيرة ليست موجودة جزماً ، فإذن لابد وأن تتمسّك بالارتكاز ، وهذا يدل على أنَّ الصحيح هو الأخذ بالارتكاز على سعته.

رابعها:- حيازة الأسماك ، فقد كانت وسيلتهم لحيازتها وسيلة معينة أما الآن فالوسيلة للحيازة للأسماك مختلفة وجديدة فهل هذه الحيازة مملّكة أو لا ؟ نعم هي مملّكة بلا إشكال.

أو أنه الآن توجد أسماك جديدة كالسمك غير الاسماك القديمة فكيف نتعدى إلى هذه الأنواع الجديدة ؟ لابد وأن تقول: إنَّ الارتكاز لا يفرّق بين أنواع السمك.ولو غضضنا النظر عن هذا لكن السيرة قد جرت بلحاظ تلك الأسماك الموجودة في ذلك الزمان أما السمك الموجود عندنا فهذا السمك غير ذلك السمك فكيف تتعدّى إلى هذا السمك الثاني - الذي هو بنّي - ولكنه سمك جديد غير ذلك السمك السابق فإنَّ السيرة قد جرت على تلك الاسماك السابقة أما على أسماك البنّي هذه كيف تعمّم إليها ؟ إنه لابد أنَّ الارتكاز يلغي الخصوصية من هذه الناحية وهلم جرا ، يعني إذا سددنا مسألة الارتكاز ولم نأخذ به سوف لا نتعدّى حتى إلى نفس جنس الأسماك الموجودة في ذلك الزمان لكنه لا نتعدى لأنَّ تلك السمكة غير هذه السمكة وإن كانت النوعية واحد والسيرة قد جرت على تلك فكيف نتعدّى إلى هذه ؟!!فإذن إذا سددنا باب الارتكاز فلازمه عدم إمكان الاستفادة من السيرة بأي شكلٍ من الأشكال.

[1] يعني أنَّ المدار على مقدار المساحة الموجودة بالفعل أي بمقدار السيرة وليس المدار على الارتكاز.
[2] وقد ذكرنا هذا الدليل في دروس تمهيدية في الفقه الاستدلالي في مبحث جواز التقليد.