39/02/25


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

39/02/25

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- حكم مجهول المالك - مسألة ( 39 ) حكم جوائز الظالم – المكاسب المحرّمة.

الرواية الثالثة:- محمد بن يعقوب عن عدة من أصحابنا عن أحمد بن أبي عبد الله عن علي بن حديد عن علي بن ميمون الصائغ:- ( قال سألت أبا عبد الله عليه السلام عمّا يُكنس من التراب فأبيعه فما أصنع به ؟ قال:- تصدق به فإما لك وإما لأهله ، قال: فقلت إن فيه ذهباً وفضة وحديداً فبأي شيء أبيعه ؟ قال: بعه بطعام ، قلت: فإن كان لي قرابة محتاج أعطيه منه ؟ قال: نعم )[1] .

وقبل أن نقرب دلالتها لابد من استيضاح بعض مفرداتها أو مدلولاتها فإنَّ عليَّ بن ميمون كان صائغاً سأل الامام عليه السلام عمّا يُكنس من التراب عن تراب الذهب والفضة والحديد لا التراب العادي ، والقرينة على ذلك هي أنه صائغ فالقرينة إذن موجودة باعتبار عمله وهو الصياغة ، فسأله الامام عمّا يُكنس عن التراب فقال أبيعه ولكن ماذا أصنع بثمنه والامام عليه السلام أمره بالتصدّق ، ثم قال له ( إمّا لك وإما لأهله ) ومعنى ذلك أنه إما أن يكون هذا التراب لك واقعاً فالتصدّق يقع لك وثواب التصدّق يقع لك أو يفترض أن هذا التراب لناسٍ آخرين فالتصدّق سوف يقع عنهم وبالتالي يكون الثواب لهم فالتعبير مختصر ، ( قال: فقلت: إنَّ فيه ذهباً وفضة وحيدياً فبأي شيء ابيعه ؟ فقال بعه بطعام ) يعني أني إذا أردت أبيع هذا الذهب والفضة فسوف تصير مشكلة صرف ومشكلة ربا فالامام عليه السلام قال له بعه بجنسٍ آخر كالطعام ، ولابد من حمل الطعام أيضاً على المثالية.

إذن صار مدلول الرواية واضحاً .

يبقى موضع الشاهد:- وهو أنه قال إنَّ هذا التراب لا أعلم أنه لي أو لغيري والامام عليه السلام أمره بالتصدّق بالثمن إذا باعه ويقع لأهله ، وهذا يدلّ على أن حكم مجهول المالك هو التصدق بثمنه - أو بثمنه أو التصدّق به وإلا قلنا إنَّ الثمن مأخوذ بنحو الطريقية وإلا فليست له خصوصية - ، فإذن دلالة الرواية واضحة من هذه الناحية.

وقد روى هذه الرواية صاحب الوسائل عن الشيخ الكليني[2] ، ورواها الشيخ الطوسي أيضاً[3] .

وهناك رواية أخرى لنفس هذا الصائغ وهي من القريب جداً أن تكون متحدة مع هذه الرواية ولكن عنونها صاحب الوسائل برقم خاص[4] ، وهي:- الشيخ بإسناده:- ( عن محمد بن أحمد بن يحيى عن عمران عن أيوب عن صفوان عن علي الصائغ:- قال سألته عن تراب الصواغين وإنا نبيعه ، قال: أما تستطيع أن تستحله من صاحبه ؟ قال قلت: لا إذا أخبرته اتهمني ، قال: بعه ، قلت: بأي شيء نبيعه ؟ قال: بطعام ، قلت فأي شيء اصنع به ؟ قال: تصدق به إما لك وإما لأهله قلت، إن كان ذا قرابة محتاجاً اصله ؟ قال: نعم )[5] ، هذا الحديث موجود في التهذيب[6] ، يعيني أنَّ الطوسي نقل هذا الحديث في موردٍ ونقل ذاك الحديث في موردٍ آخر ، والظاهر أن من يقرأ الحديثين يحصل له الاطمئنان بالوحدة.

ولكن توجد فيه بعض الألفاظ نوضحها:- ( قال سألته عن تراب الصواغين وإنا نبيعه ؟ قال: أما تستطيع أن تستحله من صاحبه ) فهنا ماذا يقصد من الاستحلال من أصحابه فهل الاستحلال قبل العمل أو بعده ؟ فقبلاً يعني حينما يأتي الشخص كما كان متعارفاً كسوار المرأة أو غير ذلك ـاتي به إلى الصائغ وتقول له أريد أن تصوغه شيئاً آخر كسوارين صغيرين مثلاً فأثناء العمل هذا يحتاج إلى حكٍّ وبالتالي يخرج منه تراب فالصائغ إذا كان متديناً فسوف يقول لها من البداية إنَّ هذا سوار سوف ينزل منه تراب وأنا في حلّ منه ، لأنَّ التراب يختلط ويصعب حفظه لصاحبه ، فهذا سوف يصير استحلالاً قبلياً ، وتارةً بعدما انتهى الصائغ من العمل يقول لها أبرئي ذمتي من التراب ، فهل المقصود هو الأوّل أو الثاني ؟ المناسب أن يكون هو الأوّل ، وعلى كلا التقديرين الاتهام موجودٌ ، فإذا كان في البداية فالاتهام موجود لأنَّ المرأة سوف تقول له أنت سوف تحاول أن تجمع تراباً أكثر من قطعة الذهب هذه وتستفيد منه وتطلب مني براءة الذمّة ، وإذا كان بعد ذلك فسوف يأتي إلى ذهنها في هذا المعنى أيضاً ، فإذن هذا الاتهام ممكن في البداية وممكن في النهاية ، ولكن الأوجه أن نحمل الرواية على الاستحلال القبلي دون الاستحلال البعدي ، لأنه إذا كان في الاستحلال البعدي فلو فرضنا أنَّ المرأة جاءت بعد أن صاغ وانتهى من العمل وقالت له لا أرضى فكيف يجوز له أن يتصدّق فإن التصدّق لا معنى له حينئذٍ ومجرّد رفضها لا يبرّر التصدّق !!

ومن هنا توقّف صاحب الجواهر(قده) من هذه الناحية[7] ، حيث ذكر أنَّ ظاهر الرواية هو جواز التصدّق عند تعذّر الاستحلال ، ومن المعلوم أنَّ تعذّر الاستحلال لا يوجب جواز التصدّق بل يلزم منه الامتناع من التصرف مع المصالحة بشكل آخر أو بغير ذلك ، فالمهم هو أنَّ التصدق تصرّف في أموال الغير وهو لا يجوز.

فإذن نحن نواجه هذا الاشكال لو فسّرنا الاستحلال بالاستحلال البعدي.

ولكن نقول لصاحب الجواهر(قده):- فلنحمله على الاستحلال القبلي ، فهو من البداية يطلب منها براءة الذمّة وبعد ذلك إذا فرض أنه لم تُبرِئ ذمته فحينئذٍ لا يؤثر ذلك ، إذ بالتالي يحصل علم إجمالي له بأنَّ هذا التراب إما له الصائغ أو لها وهذا لا يكون منجّزاً ، فهو إما له أو لها أو لغيرها من المشترين ومثل هذا لعلم الاجمالي لا يكون منجّزاً لاحتمال كونه له وإذا كان له فإذن لا مانع من التصرّف فيه ، فلا يوجد جزم بوجود علمٍ بالمنع من التصرّف فيجوز له حينئذٍ أن يتصدّق مادام قد طلب منها البراءة القبلية وإن لم تُبرِئ هي الذمّة ، ما إذا كان بعد العمل فإنه إذا كان بعد العمل وهو أراد أن تحصل له الحلّية فإذا لم تبرئه المرأة الذمّة والمفروض أنَّ هذا التراب لناسٍ شتى فحينئذٍ لا يجوز التصدّق لتحصيل براءة الذمّة ، فالأنسب إذن حمله على طلب البراءة القبليّة ، وهذه قضية جانبية ليست مهمة.

والمهم في هذه الرواية هي أنها دلت على أنَّ حكم مال الغير عند عدم إمكان تحصيل البراءة منه هو التصدّق ، وحينئذٍ تدل على أنَّ حكم مجهول المالك هو التصدّق ، فدلالتها إلى الآن لا بأس بها.

اللهم إلا أن يقال:- إنَّ موردها هو احتمال أن يكون المال مال الغير لا الجزم بأنه مال الغير ، والذي ينفعنا هو أن يكون التصدّق في مورد الجزم بكون الشيء مالاً للغير وهنا يحتمل الصائغ أنَّ هذا التراب له وليس للطرف الآخر ، فإذن الرواية لا تنفعنا ، يعني بتعبير آخر هي مغايرة للمدّعى ، فإنَّ محل كلامنا في المال الذي هو للغير جزماً هل حكمه التصدّق أو لا وهذه الرواية لا تدل على أنه في هذا المورد يكون الأمر كذلك بل هو محتمل ولعلَّه في المحتمل يتساهل ما لا يتساهل في حالة الجزم بكونه مال الغير.

ولكن ربما يقال:- إنَّ العرف يغلي الخصوصية من هذه الناحية ويفهم أنَّ المال المجهول مالكه طريق التخلص منه هو التصدّق مادام تعذّر سواء كان ذلك على سبيل الاحتمال - أي يحتمل أنه مال الغير - أو يجزم بأنه مال الغير فالعرف يلغي الخصوصية من هذه الناحية ، والأمر إليك ، وأنا أرى أنَّ هذا شيئاً قريباً فلا بأس أن نلغي الخصوصية من هذه الناحية.

فإذن هذه الرواية لا بأس بالتمسّك بها من حيث الدلالة.

يبقى أنه قد يقال:- إنَّ موردها تراب الصياغة ونحن كلامنا أوسع من ذلك.

والجواب:- إن هذا الاحتمال ملغي جزماً وإن كانت هناك وجاهة فالوجهة ثابتة في الاحتمال الذي أبرزناه وهو أن التصدق ثابت للمال الذي يحتمل أنه مال الغير أما هذا الاحتمال ضعيف.

وعلىّ أي حال كلا الاحتمالين ملغيان عرفاً فلا بأس بالتمسك بدلالتها.

إنما الاشكال في سندها:- فإنَّ عليّ بن ميمون قد ترجمه النجاشي والشيخ الطوسي ولكن لم يذكراه بتوثيق ، فعلى هذا الأساس يتوقف في الرواية.

إلا أن يقال:- هناك رواية ذكرها الكشي في رجاله تدل على مدح الامام عليه السلام له ، حيث ورد فيها:- ( عن محمد بن مسعود[8] قال: حدثني محمد بن نصير ، قال: حدثني محمد بن الحسن عن جعفر بن بشير عن علي بن ميمون الصائغ قال: دخلت عليه يعني أبا عبد الله عليه السلام فقلت: إني أدين الله بولايتك وبولاية آباءك وأجدادك فادع الله أن يثبتني ، قال: رحمك الله رحمك الله )[9] .

بيد أنه يرد على التمسّك بها:-

أوّلاً:- إنَّ تعبير ( رحمك الله ) هو دعاء بالرحمة والرحمة لا تلازم التوثيق.

وأتذكر من مجلس السيد الخوئي(قده) إنه كان يقول:- إنَّ الترحّم لا يدل على الوثاقة ويتمسّك بدعاء الامام الصادق عليه السلام لزوار لحسين عليه السلام:- ( اللهم ارحكم تلك الوجوه التي تقلبت على قبر ابي عبد الله الحسين ) وتلك الوجوه فيها الغثّ والسمين.

ولكن نقول للسيد الخوئي(قده):- إنَّ ذاك في الترحّم العام ، أما الترحّم الخاص فربما يستفاد منه التوثيق.

ثانياً:- إنَّ الذي ينقل الرواية هو علي بن ميمون نفسه فلا يمكن اثبات وثاقته بالرواية التي يرويها نفسه فإن هذا دور .

فإذن المشكلة هي من حيث السند.

اللهم إلا أن يقول قائل:- إنَّ هذه رواية مرتّبة في فقراتها في السؤال والجواب فيحصل الاطمئنان بأنها صادرة من الامام عليه السلام.

ولكن نقول:- إنه يظنُّ ذلك لا أنه يحصل اطمئنان بذلك ، وهذه قضية متروكة إليك.

فإذن اتضح أنه لا بأس بالتمسّك بها من يحث الدلالة إنما الكلام من يحث السند ولكن على الأقل تصلح كمؤيد.

 


[4] يعني في الباب الذي ذكره رقم الحديث الأوّل هذه الرواية التي ذكرناها والحديث الثاني هي الرواية التي سنقرأها ولكن ليست عن الكافي بل عن التهذيب في مورد آخر يعني الشيخ الطوسي إذن نقل الرواية مرتين.
[8] أي العياشي.
[9] اختبار معرفة الرجال، الطوسي، ج2، ص661، رقم الرتجمة681.