38/12/05


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

38/12/05

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- مسألة ( 38 ) لو دفع شخص مالاً إلى غيره ليوزّعه على الناس وكان هو واحداً منهم – المكاسب المحرّمة.

كان كلامنا في مسألة أنه لو دفع شخص مالاً إلى غيره ليوزعه على طائفة من الناس وكان هو واحداً منهم كما لو قال له أعطه للفقراء وكان هو فقيراً فهل يجوز له ان يأخذ من هذا المال ؟ فصّل السيد الماتن بين ما إذا فرض أن هذا المال كان له مصرف مقرر شرعاً كمال الزكاة فإن مصرفه الفقراء فهنا يجوز أن يأخذ ولو لم يحرز رضا الدافع ولكن يخذ كأحدهم لا أنه يأخذ أكثر ، وأما إذا لم يكن له ذلك كما إذا فرضنا أنه يريد أن يعطي مساعدة إلى الفقراء والمحتاجين فها لا يجوز له أن يأخذ إلا إذا أحرز رضا الدافع وهكذا في تحديد المقدار زيادة ونقيصة يدور مدار احراز الرضا فأصل جواز الأخذ وايضاً تحديد المقدار يتوقف على احراز رضا الدافع ، هكذا فصّل (قده) وقد ذكرنا أنَّ المسألة تشتمل على روايات متعددة وقد وقع اختلاف ما بين الروايات كما سنلاحظ الأمر الذي صار سبباً للاختلاف بين الفقهاء حتى قال صاحب الحدائق(قده):- ( وقد اختلف كلامهم بل كلام الواحد منهم في ذلك )[1] ، يعني في هذه المسألة.

ونؤكد من جديد وهو أنه ينبغي أن نضيق دائرة البحث والنزاع فإنَّ محل النزاع كما قلنا سابقاً هو أن لا نحرز رضا الدافع أما إذا كنا نحرز رضاه فهذا خارج عن محل الكلام فمحل الكلام هو في حالة عدم احراز رضا الدافع حينئذٍ هل يجوز أن آخذ كأحدهم أو لا ، فالخلاف والنزاع هنا.

وتوجد هنا خمس روايات:-

الرواية الأولى:- محمد بن يعقوب عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن علي بن الحكم عن أبان بن عثمان عن سعيد بن يسار قال:- ( قلت لأبي عبد الله عليه السلام:- الرجل يعطى الزكاة فيقسمها على أصحابه أيأخذ منها شيئاً ؟ قال:- نعم )[2] .

والسند معتبر ، فإن أحمد بن محمد هو ابن عيسى وعلي بن الحكم لا مشكلة فيه ، وأبان بن عثمان هو أحد أفراد الاجماع ، وسعيد بن يسار من ثقات أصحابنا ، فلا مشكلة في السند ، وموردها خاص بمن يعطى الزكا والامام عليه السلام قال يجوز له أن يأخذ منها ولم يقل ( إذا أحرز رضا الدافع او ما شاكل ذلك ).

الرواية الثانية:- علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن الحسين بن عثمان عن أبي إبراهيم عليه السلام:- ( في رجل أعطي مالاً يفرّقه فيمن يحلّ له أله أن يأخذ منه شيئاً لنفسه وإن لم يسمِّ له ؟ قال:- يأخذ منه لنفسه مثل ما يعطي غيره )[3] وسندها لا مشكلة فيه.

الرواية الثالثة:- علي بن إبراهيم عن محمد بن عيسى[4] عن يونس عن عبد الرحمن بن الحجّاج[5] قال:- ( سألت أبا الحسن عليه السلام عن الرجل يعطي الرجل الدراهم يقسّمها ويضعها في مواضعها وهو ممن تحلّ له الصدقة ، قال:- لا بأس أن يأخذ لنفسه كما يعطي غيره ، قال:- ولا يجوز له أن يأخذ إذا امره أن يضعها في مواضع مسمّاة إلا بإذنه )[6] ، وما أفاده عليه السلام في الذيل ناظر إلى أنه لو خص له وقال أعط فلاة هكذا مقدار وأعط فلان هكذا مقدار فهنا لا يجوز له الأخذ إلا بإذنه ، ولكن هذا المقدار لا يضرّنا.

الرواية الرابعة:- محمد بن الحسن بإسناده عن الحسين بن سعيد عن ابن أبي عمير عن عبد الرحمن يعني ابن الحجاج[7] عن أبي عبد الله عليه السلام:- ( في رجل أعطاه رجل مالاً ليقسمه في المساكين وله عيال محتاجون أيعطيهم منه من غير أن يستأذن صاحبه ؟ قال:- نعم )[8] ، وهذه الرواية أيضاً لا توجد فيها مخالفة لما سبق.

الرواية الخامسة:- وبهذا الاسناد عن عبد الرحمن بن الحجاج عن قال:- ( سألته عن رجل أعطاه رجل مالاً ليقسمه بين محاويج أو في مساكين وهو محتاج أيأخذ منه لنفسه ولا يعلمه ؟ قال:- لا يأخذ منه شيئاً حتى يأذن له صاحبه )[9] .

إنَّ هذا الحديث دلّ على أنه لابد من احراز رضا المالك بينما الأحاديث الأربعة السابقة لم تدل على ذلك ، فعلى هذا الأساس تقع المعارضة فماذا نصنع ؟

وفي هذا المجال نقول:- إنَّ الرواية الأولى هي واضحة في باب الزكاة لأنها صرحت بذلك وقالت: ( الرجل يعطى الزكاة فيقسمها ... أيأخذ منها شيئاً ؟ قال:- نعم ) ، إذن هي واردة في باب الزكاة الذي هو مصرف شرعي والامام عليه السلام لم يقيد بلابدّية احراز إذن الدافع.

وأما الرواية الثانية فهي قالت: ( في رجل أعطي مالاً فيمن يحل له أله أن يأخذ منه شيئاً لنفسه وإن لم يسمِّ له ؟ قال يأخذ منه لنفسه مثل ما يعطي غيره ) ، وهذه لا تأبى على حملها على باب الزكاة بل هي قابلة لذلك ، ولكنها اشترطت أن يأخذ مثل ما يدفع للغير أما السابقة لم تشترط هذا ولكن لا توجد بينهما منافاة سواء أن لثانية تقيد الأولى بأن يأخذ بالمقدار الذي يساوي ما يدفعه إلى الغير ، فإذن كلا الروايتين يمكن أن نقول نظرهما معاً إلى باب الزكاة.

الرواية الثالثة قالت: ( سألت أبا الحسن عن رجل يعطي الرجل الدراهم يقسمها ويضعها في مواضعها وهو تحل له الصدقة ) فمن تعبير ( تحل له الصدقة ) ليس من البعيد أنها ناظرة إلى الزكاة ، فعلى أي حال هي لا تأبى الحمل على ذلك والامام عليه السلام ( لا بأس أن يأخذ لنفسه كما يعطي غيره ) ، فلو خيلّنا نحن وهذه الروايات الثلاث أمكن أن نقول إنه في باب الزكاة لا يلزم احراز رضا الدافع غايته يأخذ كما يدفع إلى الغير ، فإذن هذه الروايات الثلاث انتجت هذه النتيجة.

إنما المشكلة في الروايتين الرابعة والخامسة:- وكلتاهما عن ابن الحجاج وواحدة تقول يشترط احراز إذن الدافع والأخرى نتقول لا يشترط إذنه ، فماذا نصنع لهاتين الروايتين ؟

والجواب:- إذا قلنا هما رواية واحدة ومن البعيد أن ابن الحجاج يسأل مرتين فإذن المشكلة تزول لأنَّ هذه الرواية الواحدة لا ندري كيف نقلت فإن النقل مختلف ولعلّها بالشكل الذي يناسب تلك الروايات فتعود تلك الروايات الثلاث بلا معارض ، فإذن تسقط كلا الروايتين ودليل الحجة لا يشملهما فلا نعلم الصادر فتبقى تلك الروايات بلا معارض وسوف تصير النتيجة كما أراد السيد الخوئي(قده) .

ونلفت النظر إلى أنَّ السيد الخوئي(قده) لا يوجد عنده تقرير لهذه لأنها ليست مذكورة في المكاسب فهو لم يبحثها وإنما هي موجودة في المنهاج فقط فلذلك تخريجها الفني ليس معلوماً ولكن هذا الذي نذكره يصلح أن يكون تخريجاً فنّياً وقد قلنا إن الروايات الثلاث ورادة في باب الزكاة فإن واحدة منها تصرف في باب الزكاة وأما الاثنين الأخريين لا يأبين عن الحمل على ذلك فتصير النتيجة في باب الزكاة أنه يأخذ كما يدفع إلى الغير كما أراد السيد الخوئي(قده) والروايتان الاخيرتان بناءً على الوحدة تسقطان ولكن تبقى مشكلة إذا تم حلّها فهذا أمر جيد فإنَّ السيد الخوئي قال إذا كان لها مصرف معيّن فيأخذ بمقدار أحدهم بلا حاجة إلى كسب الإذن وهذا الجزء من الدعوى قد اثبتناه.

ولكن الجزء الثاني من دعواه وهو أنه إذا لم يكن لها مصرف معيّن فلابد من احراز رضا الدافع فهذا كيف نثبته ؟

والجواب:- هذا نثبته بمقتضى القاعدة بلا حاجة إلى رواية فإن القاعدة تقتضي أنه مال الغير فلا يجوز لك أن تتصرف فيه في أصل الأخذ إلا برضاه وفي مقدار الأخذ إلا برضاه فإذن على القاعدة ، فإذن إذا كان هناك مصرف مقرّر شرعاً نثبته بالرواية ، وإما إذا كان لا يوجد مصرف مقرّر شرعاً نثبته بمقتضى القاعدة ، وبذلك يتم مدرك ما أفاده السيد الخوئي(قده) ويكون كلاماً تاماً وما انتهى إليه يكون وجيهاً ، ولكن هذا مبنيّ على أنَّ الروايتين الأخيرتين هما رواية واحدة.

وأما إذا بنينا على تعددهما:- ففي مثل هذه الحالة نقول هما متعارضتان ولا تأبيان عن الحمل على غير باب الزكاة فالثلاث الأُوَل نقول هي ناظرة إلى باب الزكة وهاتان لا مثبت فيهما في النظر إلى باب الزكاة فلاحظهما فهما تقولان ( في رجل اعطاه رجل مالاً ليقسمه في المساكين وله عيال محتاجون أيعطيهم منه من غير أن يتأذن صاحبه قال نعم ) نعم هي تلتئم مع باب الزكاة ولكن لا توجد فيها دلالة على باب الزكاة ، والرواية الخامسة قالت ( سألته عن رجل عطاه رجل مالاً ليقمه رجل في محاويج أو في مساكين وهو محتاج أيأخذ منه لنفسه ) فهذه أيضاً لا توجد فيها دلالة على النظر إلى باب الزكاة ، فالثلاثة الأوائل فيها قرينة على النظر إلى باب الزكاة أما هاتان الأخيرتان لا قرينة على نظرهما إلى باب الزكاة ، نعم هما لا تأبيان عن ذلك ولكن لا توجد قينة على نظرهما إلى باب الزكاة فحينئذٍ يحصل التعارض بينهما وتتساقطان فتبقى تلك الروايات الثلاث الواردة في باب الزكاة بلا معارض فننتهي إلى نفس النتيجة فنأخذ بمضمون الروايات الثلاث ونقول إنّه في باب الزكاة إذا كان هناك مصرف شرعي يجوز له أن يأخذ بلا حاجة إلى كسب الاذن ولكنه يأخذ بمقدار ما يعطي للآخرين ، وأما في غير باب الزكاة فقد قلنا توجد روايتنا ساقطتان فنرجع إلى القاعدة وهي تقتضي عدم جواز التصرف في ملك الغير إلا بإذنه ، فعلى كلا التقديرين انتهينا إلى نفس النتيجة التي أرادها السيد الخوئي(قده) سواء بنينا على وحدة الروايتين الأخيرتين أو تعددهما ولكن تمام النكتة التي اعتمدنا عليها أنَّ الثلاث الأُوَل الأولى منها صريحة في باب الزكاة والثانية والثالثة تتلاءم مع باب الزكاة فنقول إذن هذه الثلاث روايات ناظرة إلى باب الزكاة ، أما الرابعة والخامسة اللتان بينهما تعارض ولا مثبت لنظرهما إلى باب الزكاة فنحملهما على غير باب الزكاة وتتساقطان فنرجع إلى مقتضى القاعدة وهي كما ذكرنا.

هذا توجيه لما انتهى إليه السيد الخوئي(قده) ، وبالتالي هو شيء وجيه ولا بأس به.

ولكن نطرح سؤالاً:- هو أنه قد يقول قائل عندنا طريق للوصول إلى النتيجة ليت أرادها السيد الخوئي بلا حاجة إلى هذا لتطويل وذلك بأن يقال:- إذا فرض أنه كان هناك مصرف معيّن شرعاً فعادةً الانسان يريد التوزيع حسب ما يجزئ ويكفي شرعاً ، فهو شعاً يكفي أن أعطي أصحابي كل واحد أعطيه درهما وأنا آخذ عشر دراهم ، ولو قل هذا خلاف الوجدان وخلاف الانصاف لكن هذه قضية جائزة على مقتضى القاعدة ، وأما إذا لمي يكن لها مصرف شرعي فلا مثبت لكيفية ما يريده الدافع فنرجع إلى القاعدة وهي تقتضي لابدّية احراز رضاه ، وهذا طريق مختصر فهل يمكن أن نسلكه أو يواجه بعض التعثّرات ؟


[4] يعني ابن عبيد وهو ثقة.
[5] وهو من ثقاة اصحابنا.
[7] ليس من البعيد أن عبارة ( يعني ابن الحجاج ) قد اضافها الشيخ الطوسي أو غيره.