22-11-1434


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

34/11/22

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضـوع:- مصرف الهدي/ حج التمتع / مناسك الحج للسيد الخوئي(قد).
 وبالجملة إن الاحتمالات في المسألة أربعة:-
 والاحتمال الأول - أي التقسيم الثلاثي - قد صار إليه الشهيد في الدروس والشهيد الثاني والمحقق الكركي بل نسبه صاحب الجواهر الى الأكثر على ما تقدم ، والاحتمال الثاني - أي التقسيم الثنائي - قد صار اليه ابن ادريس فإنه ذكر ما نصّه:- ( فإما هدي المتمتع والقارن فالواجب أن يأكل منه ولو قليلاً ويتصدق على القانع والمعتر ولو قليلاً للآية وهو قوله تعالى " وكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر " والأمر عندنا يقتضي الوجوب والفور دون التراخي ) [1] ، والاحتمال الثالث - أعني الاكتفاء بالأكل فقط بلا حاجة الى تصدق ولا اهداء - ربما يظهر من المحقق في الشرائع فإنه في عبارته المتقدمة قال:- ( ويستحب أن يقسّمه أثلاثاً يأكل ثلثه ويتصدّق بثلثه ويهدي ثلثه . وقيل يجب الأكل منه وهو الأظهر ) إن حكمه بكون وجوب الأكل هو الأظهر قد يشعر أو يدلّ على أن الواجب هو هذا المقدار - أعني الأكل - حيث اقتصر على بيان وجوبه واستظهار ذلك من دون أن يذكر وجوب غيره . والاحتمال الرابع - يعني الاكتفاء بالتصدّق - لم نجد من يمكن نسبته إليه ولكنه احتمال وجيه في حدّ نفسه باعتبار أن الأمر بالأكل يمكن أن يدّعى أنه واردٌ مورد توهّم الحظر فلا يكون الاكل واجباً وأما التصدق على البائس الفقير والقانع والمعتر فلا موجب لرفع اليد عن ظهور الأمر بالوجوب فيه فيعود الواجب هو التصدّق فقط.
 وعلى أي حال المهم هو القولان الأوّلان أعني التقسيم الثلاثي والتقسيم الثنائي:-
 أما القول الاول:- فقد صار إليه جمعٌ من الأصحاب وقد تبنّاه السيد الماتن(قده) أيضاً ، وقد يستدل عليه بالآيتين الكريمتين بقطع النظر عن الروايات وأخرى يستدل عليه بملاحظة الروايات الخاصّة:-
 أما اذا لاحظنا الآيتين الكريمتين فقط فقد يقال:- هما تدلّان على ذلك ولكن بمجموعهما - أي بضمّ واحدةٍ الى الأخرى - وليس على سبيل الانفراد ، وممن صار الى ذلك الفاضل الهندي(قده) في كشف اللثام حيث قال ما نصّه:- ( ودلَّ مجموع الآيتين على التثليث المشهور ) [2] ووافقه على ذلك صاحب الجواهر(قده) حيث ذكر ما نصّه:- ( وعلى كل حال فقد يستفاد من مجموع دلالة الآيتين على التثليث أيضاً وإن كان فيه من التكلّف ما لا يخفى ) [3] .
 وعلى أي حال يمكن أن يقال في تقريب الدلالة ما حاصله:- إن كلتا الآيتين تشتركان في شيءٍ وتختلفان في شيءٍ آخر ، فهما تشتركان في الدلالة على وجوب الأكل إذ قد ورد في كلتا الآيتين الأمر بالأكل فيكون ذلك واجباً بمقتضى كل واحدةٍ باستقلالها ، وأما بالنسبة الى التصدّق على الفقير فيمكن أن يستفاد من قوله تعالى:- ( فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ) والبائس هو صاحب الشدّة والضيق فتكون دالّة على وجوب التصدّق على الفقير ، وأما بالنسبة الى الإهداء فيمكن أن يستفاد من الآية الأخرى - أعني ( وأطعموا القانع والمعتر ) - فإن القانع هو من يقنع بما قُدّم إليه والمعتر هو الذي يعترض الطريق ويتوقع أن يُدْفَع إليه شيء من دون أن يسأل وحيث أنه لم يؤخذ في القانع والمعتر خصوصيّة الفقر وهما مطلقان من هذه الناحية فيمكن أن يثبت بذلك وجوب الإهداء . اذن وجوب الإهداء نستفيده من فقرة ( وأطعموا القانع والمعتر ) ووجوب التصدّق نستفيده من قوله تعالى ( وأطعموا البائس الفقير ) ووجوب الاكل نستفيده من كل واحدة باستقلالها ، هكذا يقال في تقريب الآيتين الكريمتين على الوجوب.
 وفيه:-
 أولاً:- إن الأمر بالأكل يمكن أن يقال هو لا يدل على الوجوب لأنه وارد مورد توهم الحظر وقد عرفنا أن الأمر أذا كان كذلك فلا يستفاد منه الوجوب بل يكون مجملاً أو ظاهراً في الإباحة والرخصة لا أكثر ، ومعه فالآيتان لا تدلان على وجوب التقسيم الثلاثي إذ المفروض أن الأكل ليس بواجبٍ بل أقصى ما يستفاد منهما وجوب التقسيم الثنائي دون الثلاثي.
 أما لماذا يقال إنّ الأمر المذكور وارد مورد توهّم الحظر ؟
 إن هذه الدعوى قد ذكرها غير واحدٍ من الأعلام كصاحب الرياض [4] والشيخ النراقي [5] وصاحب الجواهر [6] . إذن هي ليست من مختصّات صاحب الجواهر وإنما هو رأيٌ موجودٌ ومطروحٌ على الساحة أما كيف يوجّه هذا الاحتمال ؟
 قد يقرب ذلك بالاستعانة بما ذكره الزمخشري في كشّافه حيث نقل عنه أنه قال:- إن العرب في الجاهلية كانوا يحرّمون الأكل من الهدي والذبائح التي يقدّمونها إما لأنها للفقراء - مثلاً -وهم يمتنعون من مشاركتهم بالأكل مما يأكلون منه أو لنكتةٍ أخرى والمهم أنهم كانوا يحرّمون ذلك على أنفسهم ويمتنعون عن الأكل فالآية قد جاءت في هذه الأجواء - أي أجواء المنع وتوهمه - فلا تكون دالّة على الوجوب.
 وأشكل السيد الخوئي(قده) على ذلك بإشكالين:-
 الاشكال الأول:- إن ما ذكره الزمخشري هو نقلٌ لم تثبت صحته فمن أين لك هذا ؟! ومعه يعود ظاهر الآية بالوجوب بلا مزاحم ولا معارض فيكون الأخذ به بلا مانع.
 والاشكال الثاني:- لو سلمنا أن العرب كانوا يصنعون ذلك ولكن شريعة الاسلام كما نعرف هي ناسخة لكل ما سبقها ومعه فالأعراف السابقة تكون ملغيّة فيعود ظاهر الآية بلا مانع من الأخذ به.
 وفيه:-
 أما بلحاظ ما أفاده(قده) أوّلاً:- فهو كلام صحيح ولكن بالتالي هو شيءٌ محتمل بدرجة وجيهة ومادام الاحتمال احتمالاً وجيهاً فبالتالي سوف يعود الأمر الوارد في الآيتين الكريمتين وارد في مورد احتمال الحظر والورود مورد احتمال الحظر يكفي لزلزلة الظهور في الوجوب فبالتالي الاحتمال الوجيه لا يزول . نعم إذا فرض أن شخصاً قال إن الاحتمال الوجيه ليس بموجودٍ وكلام الزمخشري ليس بثابتٍ فهنا نقول نحن معك ولكن بالتالي هو شيءٌ وجيه ومعه يتزلزل الظهور.
 وأما بالنسبة الى ما ذكره(قده) ثانياً ففيه:- إننا نسلّم أن شريعة الاسلام ناسخة ولكن ماذا يعني النسخ ؟ هل يعني أن احتمال ورودها مورد توهم الحظر لا يكون موجوداً ؟! وبكلمة أخرى:- كون الاسلام ناسخاً لا يسلب احتمال ورودها مورد توهّم الحظر فتوهم الحظر يبقى على حاله رغم أن الاسلام ناسخٌ لجميع ما سبق ، على أن النسخ بماذا تحقق ؟ إنه قد تحقق بهذه الآية الكريمة فبالتالي صارت الآية واردة في مورد توهم الحظر فحينئذٍ لا يثبت لها ظهور في الوجوب مادام النسخ قد تحقق بها ، وأيضاً حينما يقال الاسلام ناسخٌ ليس المقصود من ذلك أنه ناسخ لكلّ مفردةٍ مفردة يعني بنحو عموم السلب - إن صح التعبير - يعني لم يُبقِ مفردة إلا ونسخها وإنما بمعنى أنه لم يُمضِ المجموع وحينئذٍ هذه الحالة لا نجزم بأنهما من جملة الأمور المنسوخة.
 وعلى أي حال نحن لا ندّعي أن احتمال كونها واردة مورد توهم الحظر جاء من هذه الناحية التي أشار إليها الزمخشري حتى يرد ما أورده السيد الخوئي(قده) كما لا نقول بأن المنشأ للورود مورد توهم الحظر ما أشار اليه الشيخ التبريزي(قده) في تهذيبه [7] فإنه ذكر أن أمر الانسان بأن يأكل من طعامه وماله هو بنفسه ظاهر في الرخصة دون الوجوب كلا ليس هذا المستند أيضا فإن هذا الظهور لا نعرف مدى صحته إلّا أن يرجع الى ما سوف نذكره.
 والمناسب في توجيه ذلك أن يقال:- إن أكل الانسان من ماله وزاده الذي صنعه للغير يتوهم منه العرف أحياناً أنه لا يجوز الأكل منه ، أي هو لا يجوز له أن يأكل باعتبار أنه هو الذي صنعه فمن طبخ طعاماً لزوار الحسين عليه السلام قد يتوهم ويقول أنا نذرت أن أطبخ فهل يجوز لي أن آكل ؟! إن هذا التوهم يأتي باعتبار أنه هو الذي صنعه فيقال له ( كُل ) ، وهكذا الحال في الآية الكريمة فإن الحاج قد ذبح حيواناً للغير فيأتي احتمال أنه لا يجوز له أن يأكل منه فجاءت الآيتان الكريمتان لتقولا إنه لا بأس بالأكل منها فالورود مورد توهم الحظر لا يحتاج الى ما نقل عن الزمخشري ولا الى ما ذكره الشيخ التبريزي(قده) إلا أن يقصد ما ذكرناه بل ما أشرنا إليه هو كافٍ لذلك . ويؤكد ما ذكرنا غير واحدةٍ من الروايات من قبيل صحيحة الحلبي:- ( سألت أبا عبد الله عليه السلام عن فداء الصيد يأكل صاحبه من لحمه ؟ فقال:- يأكل من أضحيته ويتصدّق بالفداء ) [8] ، وعلى منوالها موثقة عبد الرحمن عن أبي عبد الله عليه السلام:- ( سالته عن الهدي ما يؤكل منه ؟ قال:- كلّ هديٍ من نقصان الحج فلا تأكل منه وكلّ هديٍ من تمام الحج فَكُلْ ) [9] الى غير ذلك من الروايات ، إنه يفهم من هذه الروايات أن الناقل للرواية يختلج في ذهنه أنه لا يجوز الأكل فيسأل الإمام وهو عليه السلام يرخّص له في ذلك.
 والخلاصة:- إن الآيتين الكريمتين لا يمكن أن يستفاد منهما التقسيم الثلاثي بعد فرض أن الأمر بالأكل وارد مورد توهم الحظر بل غاية ما يستفاد منهما هو التقسيم الثنائي.


[1] السرائر، ابن ادريس، ج1 ،ص598.
[2] كشف اللثام، الفاضل الهندي، ج6، ص171.
[3] جواهر الكلام، النجفي الجواهري، ج19، ص158.
[4] رياض المسائل، الطباطبائي، ج6، ص431.
[5] مستند الشيعة، النراقي، ج12، ص331، 332.
[6] جواهر الكلام، النجفي الجواهري، 19، ص161.
[7] التهذيب، التبريزي، ج3، ص256.
[8] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج14، ص164، ب40 من أبواب الذبح، ح15، آل البيت.
[9] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج14، ص160، ب40 من أبواب الذبح،ح4، آل البيت.