38/06/06


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

38/06/06

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: مسألة ( 32 ) حكم الرشوة – المكاسب المحرمة.

صور الخلاف بين الدافع والقابض:-

قبل أن ننهي بحث الرشوة لا بأس بالتعرض إلى صور الخلاف بين الدافع والقابض ، والمقصود من القابض هو القاضي ، والمقصود من الدافع هو صاحب القضية الذي يأتي عند القاضي ليحكم له ، فقد يدفع الشخص إلى القاضي مقداراً من المال وبعد ذلك يقع الخلاف بينهما في أنَّ هذه الهدية من القسم المضمون أو هي من القسم غير المضمون .

وقد تعرض الشيخ الأعظم(قده) إلى ذلك في المكاسب ، وصور الخلاف وإن كانت متعددة لكن المهم منها ثلاث ، فنتعرض إلى هذه الصور الثلاث والهدف من التعرض إليها ليس إلا النكات العلمية الفنية التي تشتمل عليها وهي:-

الصورة الأولى:- أن يتّفق الطرفان على أنَّ المدفوع هدية - أو بعبارة أخرى هبة - جزماً ولكن اختلفا بعد ذلك فقال الدافع ( أني دفعت هذه الهدية بقصد الرشوة وكان الداعي هو الرشوة ليلين قلبك لي وتحكم لي وبهذا تقع فاسدة وحينئذٍ يجوز لي المطالبة بها واسترجاعها إن كانت موجودة والضمان إن كانت قد تلفت ) ، فالدافع ينتفع من هذه الدعوى أنه سوف يحصل على ضمان القيمة إن تلفت أو استرجاعها إذا كانت موجودة ، بينما القاضي يقول ( إنك قد دفعتها لي هبة لازمة - يعني قصدت بها القربة مثلاً لأنه إذا قصد بها القربة فسوف تصير لازمة حينئذٍ - فعلى هذا الأساس لا حقّ لك في الرجوع إذا كانت موجودة كما لا حق لك في الضمان إن تلفت ).

فإذن اختلف الطرفان في أنها هبة صحيحة لازمة لأنه إذا لم نفترض أنَّ الهبة لازمة فالنزاع يكون بلا معنى ، إذ نفس النزاع فيه دلالة على الرجوع أو يقول له رجعت بالهبة وعليه فلا توجد ثمرة لهذا الخلاف ، فإذن من اللازم أن نفترض أنَّ هذا النزاع في كونها هبة لازمة ، والشيخ الأعظم(قده)في المكاسب لم يعبّر بأنها ( لازمة ) وإنما عبّر وقال ( قصد بها القربة ) ولو كان يقيّد بكونها ( لازمة ) لكان أوضح.

فالمقصود أنه وقع الخلاف بينهما بأنها هبة صحيحة لازمة أو أنها فاسدة - قصد بها الرشوة - فيثبت الضمان ، وقد ذكر الشيخ إنَّ في المسألة احتمالين:-

الاحتمال الأوّل:- تقديم قول الدافع ، وذلك لوجهين:-

الأوّل:- إنَّ الدافع أعرف بنيّته ، فإنَّ هذا لا يعرف إلا من قبله فإنه هو الأعرف بنيّته وأنه قصد بذلك الرشوة أو القربة ، فإذا قال أنا قصدت الرشوة فيقدّم قوله من باب أنه أعرف بنيّته ، إذ لا يعرف النوايا إلا الله تعالى في المرتبة الأولى ونفس الشخص في المرتبة الثانية ، فيقدّم قوله.

الثاني:- تطبيق أصالة الضمان في اليد إذا كانت الدعوى بعد التلف ، هذا هو بتعبير الشيخ ، ولكن بتعبيري أقول:- ( تطبيق عموم على اليد ) ، فهنا توجد يد وكل يدٍ بمقتضى قاعدة على اليد ضامنة فيثبت الضمان.

ولماذا قيّد الشيخ بقيد ( إذا كانت الدعوى بعد التلف ) فما هي النكتة في ذلك ؟ إنه لم يبين النكتة ؟ ولا يبعد أن تكون النكتة هي أنَّ الضمان يثبت بعد تحقق التلف ، أما إذا فرض أن التلف لم يتحقق فالضمان لا معنى له وإنما عليه الارجاع ، فالضمان هو في حالة التلف فلذلك قيّد بما إذا كان بعد التلف.

الاحتمال الثاني:- تقديم قول القابض - يعني القاضي - لأنه يدّعي الصحة ومدّعي الصحة قوله مقدّم على مدّعي الفساد.

والأقوى هو الثاني - أي تقديم قول القاضي -، ولكنه لم يبيّن ذلك.

وفيه:-

أوّلاً:- إنه لابد وأن يضاف قيد إلى هذه الصورة حتى يكون هذا النزاع وجيهاً ، وذلك القيد هو أنَّ العين بَعدُ موجودة لا أنها تالفة ، إذ لو كانت تالفة فسواء كانت الهبة صحيحة أم كانت فاسدة فعلى كلا التقديرين لا ضمان فالنزاع يكون نزاعاً بلا ثمرة ، فإذن لابد وأن نفترض أنَّ العين موجودة ، ولماذا إذا كانت العين تالفة فالنزاع يكون بلا جدوى ؟ لأنَّ العين إذا كانت تالفة والهبة كانت صحيحة فلا موجب للضمان ، وإذا كانت الهبة فاسدة وقد تلفت العين فالمناسب أيضاً عدم الضمان كما أفاد الشيخ الأعظم(قده) نفسه فيما سبق ، ووجه ذلك هو أنَّ قاعدة ( على اليد ) لا تشمل هذا المورد فإنها مختصّة بما إذا لم يكن التسليط تسليطاً مجانياً والمفروض في المقام أنَّ التسليط مجانيٌّ لأنَّ الحكم له كان داعياً ولم يكن المال عوضاً عن الحكم وإنما هذه هبة مجانية وتسليط مجاني للقاضي فقاعدة ( على اليد ) لا تكون سارية المفعول ، فإذا تلفت العين فلا حق له بالمطالبة.

فعلى هذا الأساس إذا كانت العين تالفة فعلى كلا التقديرين لا ضمان ، فالنزاع يكون بلا معنى ، فعلى الشيخ الأعظم(قده) أن يقيّد بما إذا كانت العين موجودة ، فإذا كانت العين موجودة فسوف تظهر الثمرة لأجل أنه إذا فرض أنها صحيحة لازمة - يعني قصد بها القربة - فلا رجوع فإنَّ ما كان لله لا حقّ به للرجوع ، وإذا فرض أنها كانت هبة فاسدة والعين موجودة فحينئذٍ له حقّ الرجوع ، فالثمرة تظهر هنا ، أما إذا كانت تالفة فلا تظهر ثمرة ، فكان من المناسب للشيخ الأعظم(قده) أن يقيّد كلامه بحالة وجود العين والحال أنَّ عبارته قد توحي بأنه ناظر إلى حالة تلف العين بقرينة قوله ( إنَّ في ذلك تقديم قول هذا أو ذاك احتمالين فيحتمل تقديم قول الدافع لأنه أعرف بنيّته ويحتمل شمول أصالة الضمان له إذا كانت العين تالفة ) ، فقوله هذا يفهم منه أنه ناظر إلى حالة تلف العين فحينئذٍ يزداد الاشكال عليه ، فمن المناسب له لو كان يريد أن يتخلّص من الاشكال أن يحذف الوجه الثاني - وهو أصالة الضمان في اليد إذا كانت الدعوى بعد التلف -أو من البداية يقول ( إنَّ هذه الثمرة تظهر في حالة وجود العين ، وأما في حالة تلفها فلا تأتي وإن كانت بعض الوجوه المرجّحة خاصّة بحالة تلف العين ) ، فلابد له من حلّ هذه المشكلة ولا يدع الاشكال يرد عليه ، وهذه قضيّة جديرة بالالتفات.

ثانياً:- إنه ذكر أنه يوجد احتمالان في تقديم هذا أو ذاك ، الاحتمال الأوّل أن يقدّم قول الدافع لأنه أعرف بنيّته ، ونحن نقول:- إنَّ هذا لا نسلّم به ، فهو قال إنَّ هذا لا يعرف إلا من قبله ، فمثلاً المرأة الحائض إذا ادّعت أنها حاضت فانتهت عدتها أو كانت حاملاً فالقول قولها بلا خلاف لأنَّ هذا لا يعرف إلا من قبلها ، وكأن الشيخ الأعظم(قده) يريد أن يطبّق هذه القاعدة ، فهو يريد أن يقول يقدّم قول الدافع لأنه لا يعرف الغرض والقصد إلا من قبله فحينئذٍ يقدّم قوله ، والحال أنه لا توجد عندنا رواية بهذا المضمون أو بهذه الألفاظ أو بهذه الروح - وهو أنَّ الشيء إذا لم يعرف إلا من قبل الشخص نفسه فدعواه تكون مقدّمة ومثبتة لما يدّعيه لأنه لا يُعرَف إلا من قبله أو هو أعرف بقصده - وبيني وبينك السبر والتقسيم ، نعم لعل ذلك ورد في موارد ثلاثة وهي الحيض والحمل وأنها خليّة من البعل ، فهذه الموارد الثلاثة وردت فيها روايات بأن القول فيها قول المرأة ، فالقول قول المرأة في حيضها وفي انتهاء عدّتها ، ولم يعلّل الامام عليه السلام ويقول إنَّ ذلك لا يعرف إلا من قِبَلِها حتى نخرج بقاعدة عامّة نطبقها في كلّ مورد ، ومن تلك الروايات:-

الأولى:- صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السلام:- ( العدّة والحيض للنساء إذا ادّعت صدّقت )[1] .

الثانية:- صحيحة ميسر - بناءً على أن ميسر ثقة ولا يبعد أن يكون كذلك أما بقية رجال السند لا مشكلة فيهم -:- ( قلت لأبي عبد الله عليه السلام:- ألقى المرأة في الفلاة التي ليس فيها أحد فأقول لها لك زوج ؟ فتقول:- لا ، فأتزوجها ؟ قال:- نعم هي المصدّقة على نفسها )[2] ، وهذه الصحيحة أيضاً لم تعطِ هذا العنوان العام حتى نستفيد منه العمومية.

الثالثة:- وجاء في مجمع البيان عن الامام الصادق عليه السلام بشكلٍ مرسل:- ( في قوله تعال " ولا يحلّ لهنَّ أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهنَّ " قال:- قد فوّض الله إلى النساء ثلاثة أشياء الحيض والطهر والحمل )[3] ، وهناك روايات أخرى ولعلّ أهمها هي هذه الروايات.

فإذن هذه الروايات لا نفعهم منها هذه القاعدة وهي أنه إذا كان الشيء لا يُعرَف إلا من قبل الشخص فإذا ادّعاه يقبل منه ذلك.

هذا مضافاً إلى أنه لو سلّمنا بهذه الكبرى فمن قال إنَّ مقامنا هذا القبيل ؟ ومقامنا هو حينما قدّم الشخص هديةً للقاضي فهو حينما قدمها يدّعي أنه قصد بذلك القربة الخالصة ، يعني هل هو أعرف بذلك ولا توجد قرائن على الخلاف ؟!! فنحن نوقل له أنت لماذا تهدي إلى القاضي ولا تهدي إلى غيره ؟ أليس هذه القضية قرينتها معها ؟!! فقاعدة ( لا يعرف إلا من قبله ) لعله يصعب تطبيقها في هذا المورد إذ القرائن يمكن أن تساعد على فهم داعيه وأنَّ الداعي له باطل ، بخلاف المرأة فإنها حاضت أم لم تحِض فإنه لا توجد قرنية على ذلك حتى يفهم ذلك منها ، أو أنها حملت ، أو كونها خلّية من الزوج فإنَّ هذه الأشياء لا توجد قرينة عليها فصحيحٌ أنها لا تعرف إلا من قِبَلِها ، فهذه القاعدة حتى لو جاءت بهذه الألفاظ فهي تتم في مثل هذه الموارد ، أما في مثل موردنا فيشكل تطبيقها فإنَّ القرينة ليس من البعيد أنها تساعد على أنَّ الهدف فاسد وليس بصحيح.