33/10/23


تحمیل
  (بحث يوم الثلاثاء 23 شوال 1433 هـ 162)
 الموضوع :- المسألتان السابعة والثلاثون والثامنة والثلاثون / ذكر التعارض بين صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج وروايات الطائفة الثانية وذكر اتّجاهات من الأجوبة لرفع غائلة هذا التعارض / الأمر الثاني : اشتراط تقدّم شهادة الشاهد على يمين المدّعي في جواز القضاء بشاهد ويمين / كتاب القضاء للسيد الخوئي (قده) .
 
 كان الكلام في الاستدلال على قول المشهور من كفاية شاهد ويمين في مطلق المال وكنّا قد ذكرنا له تقريبين يعتمدان على افتراض أن أخبار الطائفة الثانية فيها دلالة على الاختصاص وكان أوّلهما يبتني على إلغاء خصوصية الدين في روايات هذه الطائفة فيُراد منه فيها الدين بما هو مال ، وكان ثانيهما يبتني على التعدّي من مورد أخبار هذه الطائفة - الذي هو الدين - إلى العين إما لعدم القائل بالفرق وإما للجزم عرفاً بعدم الفرق .. وقد تقدّم الكلام في كلا هذين الأمرين وذكرنا بأن التقريب الأول منهما يُستعان في توجيهه بصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج بأن يقال إن دلالتها تامة على جواز القضاء بشاهد واحد ويمين في موردها [1] الذي ليس هو بدين والرواية ظاهرة ظهوراً واضحاً في جواز القضاء بشاهد واحد ويمين فيها [2] وهذا يُشكّل قرينة على أن المراد بالدين في أخبار الطائفة الثانية الدين بما هو مال فيثبت الحكم للمال مطلقاً وهو ما يرومه المشهور .
 ولكن قد يقال [3] : الظاهر أن صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج معارَضة بروايات الطائفة الثانية لدلالتها [4] على الاختصاص بالدين وقد سلّمنا هذه الدلالة - في حين أن صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج دالة بوضوح على جواز القضاء بشاهد ويمين في العين إذ أن موردها درع طلحة التي هي عين وليست بدين كما هو واضح ، واختصاص الجواز بالدين في روايات تلك الطائفة وثبوته في غير الدين بمقتضى الصحيحة أمران متنافيان كالتنافي الحاصل بين روايات الطائفة الثانية التي تدل على اختصاص الحكم بالجواز بالدين وروايات الطائفة الثالثة التي تُثبته في مطلق حقوق الناس - كما سيأتي الكلام حوله .
 والحاصل أن روايات الطائفة الثانية التي تدل بحسب الفرض على الاختصاص بالدين ينافيها كل دليل يُثبت الجواز في غير الدين سواء أثبته في العين كما في صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج أم أثبته في مطلق حقوق الناس كروايات الطائفة الثالثة الآتية فالنتيجة أننا نمنع من أن تكون صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج قرينة على ما ذُكر من الاختصاص بالدين .
 فإنه يقال : بأن هناك ما يصلح أن يكون منبّهاً أو شاهداً على صحة جعل الصحيحة قرينة وهو أن الإمام (عليه السلام) كان قد ذكر في مقام تخطئة شريح القاضي أنه أتاه بالحسن (عليه السلام) فشهد فقال شريح لا اقضي بشهادة واحد ما لم ينضم إليه آخر فقال له الإمام (عليه السلام) إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد قضى بشهادة واحد ويمين ، ومن الواضح أن الإمام (عليه السلام) في مقام تطبيق قضاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) على مورد النزاع [5] الذي امتنع شريح من القضاء فيه وقد تظافرت الروايات مصرّحةً على أن قضاءه (صلى الله عليه وآله) إنما هو في الدين فما فعله الإمام (عليه السلام) من هذا التطبيق ليس له تفسير إلا أن يكون المراد بالدين الدين بما هو مال على نحو ينطبق في محلّ النزاع الذي هو وإن كان ليس بدين إلا أنه لا ريب في كونه من الأموال .. مضافاً إلى أن نقل الإمام (عليه السلام) قضاء الرسول (صلى الله عليه وآله) لو كان مختصاً بالدين بما هو دين فلا يكون فيه تخطئة لشريح بل كان لشريح أن يعترض على الإمام (عليه السلام) بأن لا علاقة له بمحلّ النزاع فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قضى بشاهد ويمين في الدين في حين أن محلّ النزاع ليس من الدين بل هو عين ثم يقول بأن امتناعي عن الحكم بشاهد ويمين في محلّ النزاع واشتراطي أن يكون هناك شاهدان عادلان ليس مخالفاً لقضاء الرسول (صلى الله عليه وآله) بشاهد ويمين في الدين لاختلاف الحال بين الموردين .
 فالنتيجة أن التخطئة في المقام لا تصح إلا بافتراض أن المراد من الدين الذي قضى فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) بشاهد ويمين هو الدين بما هو مال فتكون هذه قرينة داخلية تدعم هذا التقريب وتُثبت تماميته فينهض دليلاً على قول المشهور بقطع النظر عن اعتماد المشهور عليه وعدمه .
 وقد أُشير إلى هذا الجواب في كلمات علمائنا (رض) كما عن العلامة في المختلف حيث ذكر أنه : (لا خلاف في ما ذهب إليه المشهور) مع أن الشيخ الطوسي (قده) وأتباعه يصرّون على اختصاصه بالدين ولا توجيه لما ذكره (قده) إلا بحمل ما ذكره الشيخ (قده) من الاختصاص بالدين على أن المراد به مطلق المال لا خصوص الدين بما هو دين ، وهذا ما سلكه جماعة ممن تأخر عن العلامة أيضاً في رفع التعارض البدوي بين صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج وروايات الطائفة الثانية .
 وبهذا يكون قد ثبت الأمر الأول مما تضمّنه قول المشهور وهو تعميم جواز القضاء بشاهد ويمين إلى غير الدين من الاموال ويبقى الأمر الثاني وهو تخصيص ذلك بالمال والحكم بعدم جواز القضاء بهما في غير الأموال من حقوق الناس وهذا لا يتم إلا إذا تمّ رفع التعارض بين أخبار الطائفة الثانية وأخبار الطائفة الثالثة فإن الطائفة الثانية تدل على الاختصاص بالمال كما تقدّم تقريب دلالتها على ذلك دون ما هو أعمّ منه من حقوق الناس ، وأما الطائفة الثالثة التي عمدتها صحيحة محمد بن مسلم فإنها تفرّق بين حقوق الناس وحقوق الله تعالى فتُثبت جواز القضاء بشاهد ويمين في الأول دون الثاني ، ومن الواضح أن حقوق الناس أعمّ من الحقوق المالية فالقصاص والوكالة والوصاية هي من حقوق الناس وإن لم تكن من الأموال .. لاسيما بعد المقابلة بين حقوق الناس وحقوق الله سبحانه وتعالى فإن مقتضاها أن يكون المراد بحقوق الناس ما لا يكون من قبيل حقوق الله كالحدود والتعزيرات فتكون حقوق الناس حينئذ شاملة للحقوق المالية وغير المالية كحقّ القصاص والوكالة وسواهما .
 وفي المقام اتّجاهات لرفع غائلة هذا التعارض :
 الأول : ما عن الشيخ الطوسي (قده) في الاستبصار من حمل روايات الطائفة الثالثة التي تفرّق بين حقوق الناس وحقوق الله تعالى على ما حمل عليه المطلقات وهو الدين فقال تعليقاً على صحيحة محمد بن مسلم - التي هي عمدة روايات الطائفة الثالثة - : (فهذا الخبر أيضاً نحمله على أن يُحكم بذلك في حقوق الناس الذي هو الدين دون ما عداه من الحقوق لما بُيّن في الأخبار المتقدّمة) ويعني بها أخبار الطائفة الثانية التي موردها الدين فجمع بين الطائفتين بحمل حقوق الناس على الدين ، وهذا الجمع وإن رفع غائلة التعارض في البين إلا أنه لا يكون دليلاً على قول المشهور بل على القول الأول وهو الاختصاص بالدين .
 الثاني : دعوى أن المتبادر من حقوق الناس عند الإطلاق هو الحق المالي .
 الثالث : الجمع بين الطائفتين بحمل المطلق على المقيّد وذلك بتقييد ما دلّ على جواز القضاء بشاهد ويمين في مطلق حقوق الناس (تقييده) إما بالدين كما هو مسلك الشيخ الطوسي (قده) وأتباعه أو بالحق المالي كما هو مسلك المشهور .
 وهذه الاتجاهات الثلاثة تشترك جميعاً في تقديم الطائفة الثانية على الطائفة الثالثة أي أنها تقدّم أخبار الدين على صحيحة محمد بن مسلم فتحمل هذه الصحيحة عليها إما بالجمود على مورد تلك الطائفة [6] وهو الدين أو بعد تعميمه لمطلق المال .
 وفي مقابل هذا ذهب جماعة إلى العكس من ذلك فتصرّفوا في أخبار الطائفة الثانية [7] وحملوها على مورد الصحيحة فالتزموا في ضوء ذلك بجواز القضاء بشاهد ويمين في مطلق حقوق الناس لا في خصوص الدين أو الحقوق المالية وهو ما ذهب إليه السيد الماتن (قده) ويُفهم من كلماته الاستدلال له بأن صحيحة محمد بن مسلم صريحة في التعميم لمطلق حقوق الناس في حين أن أخبار الطائفة الثانية الواردة في الدين ليست بتلك الصراحة من جهة ما طُرح فيها من احتمال كونها إشارة إلى واقعة خارجية أي أن قضاءه (صلى الله عليه وآله) كان مورده الدين اتّفاقاً لا أن الحكم يختص بالدين وعلى هذا فلا تكون تلك الروايات صريحة في الاختصاص بالدين حتى تكون منافية للصحيحة فحينئذ يُتصرَّف في أخبار الدين بحملها على الإشارة إلى القضية الخارجية وان القضاء وقع في الدين من باب الاتفاق ويُعمل بصحيحة محمد بن مسلم فيُلتزم بتعميم الحكم بجواز القضاء بشاهد ويمين لمطلق حقوق الناس .
 وفي مقابل هذين المذهبين القول باستقرار التعارض بين الطائفتين وحينئذ يكون العمل بمقتضى القاعدة وهي تقتضي الاقتصار على القدر المتيقَّن والقدر المتيقن الذي يجوز القضاء فيه بشاهد ويمين هو الدين أو المال - بناءً على التوسّع - فتثبت بذلك نتيجة قول المشهور أو نتيجة قول الشيخ الطوسي (قده) .
 هذا .. ولكن يمكن أن يقال إن صحيحة محمد بن مسلم تارة يُفترض كونها ظاهرة في التعميم ظهوراً غير إطلاقي أي ليس مستنداً إلى عدم ذكر القيد وإنما هو ظهور مستند إلى قرينة خاصة في المورد تقتضي التعميم لمطلق حقوق الناس وهي المقابلة بين حقوق الله وحقوق الناس في الرواية نفسها - ، وأخرى يُفترض أن الظهور فيها ظهور إطلاقي - أي مستند إلى عدم ذكر القيد - :
 أما على الفرض الثاني فيتعيّن الالتزام بالتقييد إذ هما دليلان أحدهما مطلق وهو ظاهر ظهوراً إطلاقياً في التعميم والآخر أخصّ منه مطلقاً ومقتضى الصناعة أن يُقيّد الأول بالثاني والنتيجة حمل حقوق الناس التي حكمت الرواية بجواز القضاء فيها بشاهد ويمين على خصوص الدين أو مطلق المال .
 وأما على الفرض الأول فيتعيّن الالتزام بثبوت الحكم لمطلق حقوق الناس سواء كانت من الحقوق المالية أو من غيرها كحقّ القصاص والوكالة وسواهما لا خصوص الحق المالي أو الدين وذلك بقرينة المقابلة بين حقوق الناس وحقوق الله تعالى فإن مقتضى هذه المقابلة أن يكون المراد من أحد الشقّين ما لا يكون داخلاً في مقابله ولا ريب أن مطلق حقوق الناس سواء كانت من الحقوق المالية أو من غيرها ليس داخلاً في حقوق الله تعالى فما لا يصدق عليه أنه من حقوق الله تعالى يكون مشمولاً لحقوق الناس فيثبت التعميم داخل حقوق الناس لمطلق الحق المالي ديناً كان أو عيناً كما يثبت لغير الحق المالي أيضاً كحقّ القصاص والوكالة وسواهما .
 هكذا يمكن أن يقال وعليه فإن سُلّم بهذه القرينة ومقتضاها ثبت تعميم الحكم لمطلق حقوق الناس واتّجه ما بنى عليه السيد الماتن (قده) في المقام من أن صحيحة محمد بن مسلم صريحة أو لا أقلّ من كونها أظهر في التعميم من ظهور تلك الروايات في الاختصاص فيُلتزم بالتعميم وتُحمل تلك الروايات على أنها تشير إلى الواقعة الخارجية .
 ولكن يمكن أن يقال إن ظهور أخبار الطائفة الثانية في الاختصاص بالدين لا يقل عن ظهور صحيحة محمد بن مسلم في التعميم لمطلق حقوق الناس لا أن الصحيحة صريحة أو أظهر لاسيما مع كثرة الروايات وإطباقها كلها على الإشارة إلى الدين بعد استبعاد أن تكون مشيرة إلى القضية الخارجية كما تقدّم بل ذُكر سابقاً عند التعرّض لمعتبرة داود بن الحصين أن هذه الرواية لا يرد فيها هذا الاحتمال أصلاً [8] لما ذُكر من أن الإمام (عليه السلام) كان فيها بصدد تفسير الآية الشريفة والإشارة إلى الحكم الشرعي ومثل هذا لا يمكن حمله على القضية الخارجية فضلاً عن دعوى ذلك في سائر الروايات فليس في البين ما هو أصرح دلالة حتى يتأتى التصرف في هذه الروايات تقديماً للأصرح أو الأظهر على الظاهر فالصحيح أن كلاً منهما ظاهر في معناه ومدلوله .
 هذا إذا سلّمنا أن صحيحة محمد بن مسلم فيها ظهور غير مستند إلى عدم ذكر القيد ، وأما إذا قيل بأن ظهورها ظهور إطلاقي فالمسألة تكون أوضح في تقييدها بروايات الطائفة الثانية .
 والحاصل أنه على كلا التقديرين : من القول بأن الظهور في الصحيحة ظهور إطلاقي فيُقيّد بروايات الطائفة الثانية فيكون المصير حينئذ إلى نتيجة قول المشهور من التمسّك بالتعميم لمطلق الحقّ المالي والحكم بثبوت جواز القضاء فيه بشاهد ويمين ، أو القول بأن الظهور في الصحيحة ظهور ليس إطلاقياً فيكون معارَضاً بروايات الطائفة الثانية وبعد التعارض والتساقط يُلتزم بالقدر المتيقّن والقدر المتيقّن هو الحق المالي .
 فالنتيجة أنه على كل تقدير نصل إلى نتيجة ما ذهب إليه المشهور ، وأما الالتزام بالقول الثالث أي تعميم الجواز إلى مطلق حقوق الناس فإثباته بحسب الصناعة مشكل .
 هذا تمام الكلام في الأمر الأول الذي تعرّضت له المسألتان .
 الأمر الثاني : أنه يظهر من كلمات الفقهاء قاطبة والمتون الفقهية الواصلة إلينا أنه يُشترط في جواز القضاء بشاهد ويمين وإثبات الحق المالي بناءً على ثبوته بهما تقدّم شهادة الشاهد على يمين المدّعي بحيث إذا انعكس الأمر وتقدم يمين المدّعي فلا يكون له أثر بل يكون لاغياً بل ذُكر في الشرايع وغيرها أنه يُشترط أيضاً تقدّم تزكية الشاهد وتعديله على يمين المدّعي ، نعم .. لا ترتب بين الشهادة والتعديل وإنما الترتب بين اليمين وكلّ من الشهادة والتعديل فاليمين يجب أن يتأخّر عن كل منهما بحيث لو شهد الشاهد وحلف المدّعي ثم زُكّي الشاهد أو تقدّم اليمين على شهادة الشاهد لا يكون كافياً ولا يثبت به الحق .
 وهذا المعنى موضع اتّفاق بينهم وصرّح بعدم الخلاف فيه صاحب الجواهر (قده) ونسبه [9] في كشف اللثام إلى قطع الأصحاب .
 وهذا الأمر لا يخلو من حيرة إذ كيف يمكن أن يصل إلى هذه الدرجة من الوضوح عندهم مع أنه لا دليل عليه واضحاً إلا ما ذُكر - من باب ضيق الخناق - من بعض الوجوه التي لا تخرج عن كونها وجوهاً استحسانية ليست ناهضة لإثبات هذا كحكم شرعي .
 وسيأتي التعرّض إلى هذه الوجوه ومناقشتها إن شاء الله تعالى .


[1] وهو درع طلحة .
[2] أي في درع طلحة التي هي عين من الأعيان وليست ديناً .
[3] كما أشير إليه في البحث السابق .
[4] أي روايات الطائفة الثانية .
[5] وهو درع طلحة .
[6] أي الثانية .
[7] وهي أخبار الدين .
[8] أي الإشارة إلى القضية الخارجية .
[9] أي الترتيب المتقدّم .