33/06/27


تحمیل
  (بحث يوم السبت 27 جمادى الثانية 1433 هـ 136)
 الموضوع :- المسألة العشرون / الموارد التي وقع الكلام في نفوذ الحكم فيها وعدم نفوذه / المورد الخامس : ما إذا تبيّن للغير خطأ الحاكم في اجتهاده / كتاب القضاء للسيد الخوئي (قده) .
 
 كان الكلام في المورد الخامس وهو ما إذا تبيّن لغير الحاكم خطؤه في اجتهاده - الذي هو من مقدّمات حكمه - وذكرنا أن لهذا التبيُّن نحوين :
 الأول : أن يتبيّن خطأ المجتهد في مقدّمات حكمه على وجه القطع واليقين .
 ومرّ الكلام في هذا النحو وقلنا إن له صورتين :
 الصورة الأولى : ما إذا تبيّن الخطأ في نفس الميزان .
 الصورة الثانية : ما إذا تبيّن الخطأ في تطبيق الميزان .
 وقد تقدّم الكلام على هاتين الصورتين وذكرنا أنهما سواء في عدم نفوذ حكم الحاكم وجواز نقضه لعدم كونهما مشمولتين لما استُدلّ به على النفوذ وحرمة النقض إذ أنه حكم بغير الميزان الشرعي فلا يصدق أنه حكم بحكمهم (عليهم السلام) فالأدلة الدالة على النفوذ لا تشمل هاتين الصورتين .
 هذا ما تقدّم .. ولكن بقي شيء يختصّ بالصورة الثانية وهو أن عدم نفوذ الحكم فيها إنما هو في ما إذا كان تبيُّن الخطأ في التطبيق أمراً واضحاً بحيث يكون مقنعاً حتى للحاكم الأول في ما لو قُدّمت له مدارك الخطأ في التطبيق فيتبيّن له حينئذ أنه أخطأ واشتبه ويلتفت إلى أن حكمه لم يكن مستنداً إلى البيّنة العادلة ولا إلى الحلف بالله تعالى ، والحكم في هذه الحالة لا يكون نافذاً ويجوز نقضه ولا يكون مشمولاً لأدلة النفوذ ، وأما إذا فرضنا أن الخطأ في التطبيق إنما كان واضحاً عند المحكوم عليه فقط دون الحاكم بمعنى أن الحاكم لا يزال مقتنعاً بأن حكمه كان مستنداً إلى تطبيق صحيح للموازين فهو لا يزال يرى أن البيّنة التي استند إليها كانت حين الحكم بينة عادلة وأن الحلف وقت الحكم كان حلفاً بالله سبحانه وتعالى حتى بعد اطّلاعه على مدرك المحكوم عليه في اعتقاده وجزمه بحصول الخطأ في التطبيق ففي هذه الحالة يمكن القول بنفوذ الحكم فيها ودخولها ولو حكماً في النحو الآتي .
 النحو الثاني : أن يتبيّن الخطأ في الاجتهاد على نحو الظن المعتبر .. وهو ما يُعبّر عنه بمسألة الاختلاف في الاجتهاد فالحاكم يحكم بحكم وفق اجتهاده بينما يرى المحكوم عليه - اجتهاداً أو تقليداً - أن الحكم شيء آخر فيختلفان في الاجتهاد فيتبيّن له خطأ الحاكم في حدود الاجتهاد نفسه .
 وهذا النحو يشترك مع النحو الأول في أنه قد افتُرض فيهما عدم حصول القطع بمخالفة الحكم للواقع غاية الفرق بينهما أن تبيّن الخطأ تارة يكون بدليل قطعي وأخرى يكون بدليل ظني معتبر .
 ويدخل في هذا النحو جميع موارد الاختلاف في الرأي والنظر من قبيل الاختلاف في معنى العدالة المعتبرة في الشهود - مثلاً كما لو كان الحاكم الأول يفسّر العدالة المعتبرة بأنها عبارة عن ترك الكبائر في حين أن الحاكم الثاني كان يرى أنه لا بد من أن ينضم إليها ترك الصغائر أيضاً فحكم الحاكم الأول بحكم استند فيه إلى شهادة شهود ثبت أنهم اجتنبوا الكبائر دون الصغائر وهو يرى كفاية ذلك في اعتبار عدالتهم فيكون حكمه على طبق الموازين التي يراها هو وفق اجتهاده ولكن الحاكم الآخر كان لا يرى ذلك بل يرى أن هذا الاجتهاد ليس صحيحاً وإنما الدليل المعتبر لديه دلّ على عدم كفاية ترك الكبائر في صيرورة الإنسان عادلاً فهذا اختلاف اجتهادي بحت وتبيُّن الخطأ في الاجتهاد كان على أساس الدليل المعتبر لا على نحو القطع واليقين .
 وكذا لو اختلفا في مسألة الحكم بمجرد النكول وقد تقدّمت هذه المسألة الخلافية وهي أنه هل يُحكم على المدّعى عليه بمجرد نكوله أم يحتاج الحاكم إلى أن يُرجِع اليمين على المدّعي بعد ذلك - فيمكن افتراض أن الحاكم الأول كان يرى الاكتفاء في الحكم بمجرد نكول المدّعى عليه فيحكم للمدّعي طبقاً لذلك في حين أن حاكماً آخر كان يرى عدم صحة هذا بل لا بد من إرجاع اليمين بعد ذلك إلى المدّعي [1] فإذا حلف حُكم له وإذا نكل حُكم لصالح المُدّعى عليه .
 وكذا لو كان الاختلاف بينهما في مسألة الاستناد إلى العلم الشخصي للقاضي حيث يُفرض هنا أن الحاكم الأول حكم في قضية استناداً إلى علمه الخاص في حين أن الحاكم الثاني كان يرى عدم صحة ذلك وإنما ينحصر الاستناد عنده في باب القضاء بالبيّنات والأيمان .
 ففي هذه الأمثلة وغيرها مما يدخل في هذا العنوان يقع الكلام في أنه هل يجوز نقض الحكم بمجرد الاختلاف في الاجتهاد أم لا يجوز ذلك ؟ وبعبارة أخرى : هل أن الاختلاف في الاجتهاد يُسوّغ نقض الحكم وإصدار حكم آخر ؟
 الذي يظهر من عبارة بعض الفقهاء جواز النقض فقد صرّح المحقق صاحب الشرايع (قده) بتعميم الحكم بجواز الإبطال والنقض في ما إذا تبيّن الخطأ لما إذا كان المُستنَد اجتهادياً فقال : (سواء كان مستند الحكم الثاني قطعياً أو كان اجتهادياً) في إشارة إلى النحو الأول المتقدّم [2] وهذا النحو الثاني .
 ويظهر من الشيخ الأنصاري (قده) في قضائه أنه لم يُعرف قبل العلامة (قده) : " من يفصّل في مسألة النقض بين الحكم الثابت بالدليل القطعي والثابت بالدليل الظني " قائلاً أنّا : " لم نجد أحداً يدّعي الاجماع على عدم النقض في الدليل الظني ، نعم .. هو [3] مشهور في ألسنة المعاصرين ومن يقرب منهم " [4] .
 وجرى مجرى المشهور بين المتأخرين في التفصيل بين النحوين من يُعدّ في طبقة صاحب الكفاية وصاحب المستند وصاحب الجواهر ومن تأخر عنهم (قدهم) فذهب إلى عدم جواز النقض في النحو الثاني وجوازه في الأول .
 هذا .. واستُدلّ على عدم جواز النقض [5] ونفوذ الحكم المستنِد إلى اجتهاد الحاكم الأول وإن تبيّن خطؤه عند مجتهد آخر بأدلة أهمّها المقبولة المتقدّمة بأن يقال إن المفروض في محل الكلام أن الحكم الأول كان على طبق الموازين لأنه صدر باجتهاد صحيح من مجتهد جامع للشرائط وليس ثمة خلل في مقدماته عند صدوره بل ليس ثمة خلل بنظر الحاكم به حتى بعد صدوره غاية الأمر أن هناك حاكماً آخر يرى خلاف ذلك وهذه المخالفة لا تعني أن الحكم الأول لم يكن على طبق الموازين المعتبرة في باب الاجتهاد وفي باب القضاء فيكون مشمولاً لقوله (عليه السلام) في المقبولة : (فإذا حكم بحكمنا فلم يُقبل منه فقد استخف بحكم الله والراد عليه كالراد علينا ..) إلى آخر العبارة التي يُفهم منها النفوذ وعدم جواز النقض .
 ولكن الشيخ الأنصاري (قده) اعترض على هذا الكلام - وإن كان هو قد انتهى إلى نفس النتيجة من حرمة النقض - نافياً صحة الاستدلال على المدّعى بالمقبولة معلّلاً ذلك بقوله : " لأن المفروض أن الحكم الثاني هو حكمهم (عليهم السلام) لا الحكم الأول ولذا لا يجوز أن يحكم به في الزمان الثاني بل يجب ردّه وعدم قبوله " [6] .
 وحاصله : المنع من أن يكون حكم الحاكم الأول هو حكمهم (عليهم السلام) حتى يكون مشمولاً لقوله (عليه السلام) في المقبولة : (فإذا حكم بحكمنا ..) ليترتب عليه النفوذ وحرمة النقض وإنما الذي يكون حكمهم (عليهم السلام) هو حكم الحاكم الثاني الناقض لحكم الحاكم الأول وذلك لوضوح أنه لا يجوز أن يُحكَم بالحكم الأول في الزمان الثاني لأنه [7] قد جاء اجتهاد في قباله فأبطله حيث تبيّن خطؤه بحسب نظر المجتهد الثاني فلا يجوز أن يُحكم به في الزمان الذي أصدر الحاكم الثاني حكمه وفق نظره الخاص .
 ولكن هذا الكلام إنما يرد على نقض الحاكم لحكم نفسه بتبدّل اجتهاده أي عندما يتبيّن له خطأ حكمه نتيجة تجدّد نظره في المسألة فحينئذ يمكن أن يقال إنه لا يمكنه أن يحكم بالحكم الأول في الزمان الثاني لأنه تبيّن له خطؤه في اجتهاده فكيف يحكم بالحكم نفسه مرة أخرى في زمان آخر ، وأما في محلّ الكلام وهو ما لو تبيّن الخطأ عند حاكم آخر من غير مُلْزِم لافتراض تبدّل رأي الحاكم الأول فما هو الموجب بأن الحكم الثاني بالخصوص هو حكمهم (عليهم السلام) دون الحكم الأول بل كل منهما حكمان اجتهاديان صدرا من مجتهدين جامعين للشرائط وكل منهما بذل وسعه في تحصيل الحكم الشرعي وعليه فلمَ لا يجوز أن يُحكَم بالحكم الأول في الزمان الثاني لاسيما وأن المفترض أن الحاكم الأول لم يتبدّل رأيه الذي بنى عليه حكمه وحينئذ فلا موجب للقول بأن المقبولة لا تشمل الحكم الأول لأنه ليس حكمهم (عليهم السلام) وإنما تشمل الحكم الثاني لأنه حكمهم بل الصحيح أنه لا فرق بين الحكمين في أن كلاً منهما حكم اجتهادي صدر على طبق الموازين .
 والحاصل أن ما أشكل به الشيخ الأنصاري (قده) لا يرد في محلّ الكلام وإنما يرد في مسألة تبدّل رأي المجتهد نفسه [8] .
 نعم .. قد يُشكل بعدم صحة الاستدلال بالمقبولة من جهة عدم إحراز أن الحكم الأول هو حكمهم (عليهم السلام) لعدم إحراز انطباق العنوان الوارد في المقبولة عليه أعني قوله (عليه السلام) : (إذا حكم بحكمنا) - ، ولا يمكن الالتزام بشمول المقبولة لحكمٍ - حتى تدل على نفوذه وحرمة نقضه - إلا بعد إحراز انطباق العنوان الوارد فيها عليه وهو غير محرز في المقام ولا يجوز التمسّك بالدليل مع الشك في تحقق موضوعه لأن التمسّك بالدليل في الشبهة الموضوعية للدليل نفسه غير جائز .
 والفرق بين هذا الإشكال وسابقه أن الإشكال السابق كان يفترض إحراز أن الحكم الأول ليس حكمهم (عليهم السلام) ، وأما هذا الإشكال فيفترض عدم إحراز أنه ليس حكمهم (عليهم السلام) .
 هذا ويقع الكلام في البحث اللاحق إن شاء الله تعالى في جواز أن ينقض الحاكم حكم نفسه في ما لو تبيّن له خطؤه في اجتهاده لاحقاً كما لو كان يرى كفاية نكول المدّعى عليه في الحكم وإنهاء الدعوى ثم بعد ذلك تغيّر رأيه إلى عدم كفاية ذلك ولزوم أن يُضمّ إليه يمين المدّعي .


[1] وهذا ما رجّحه (دامت بركاته) في محلّه .
[2] وهو تبيّن الخطأ على نحو القطع واليقين .
[3] أي التفصيل بين النحوين (الأول والثاني) فإذا كان تبيّن الخطأ على نحو القطع واليقين فيجوز نقضه وإذا كان على نحو الظن المعتبر فلا يجوز .
[4] القضاء والشهادات للشيخ الأنصاري (قده) ص149 .
[5] أي في النحو الثاني .
[6] القضاء والشهادات للشيخ الأنصاري (قده) ص150 .
[7] أي الحكم الأول .
[8] أقول : بالمراجعة إلى عبارة الشيخ (قده) يتبيّن بوضوح أنه (قده) ساق هذا الإشكال في مسألة تبدّل رأي المجتهد نفسه فلا مسوّغ لافتراض كون مورده مسألة اختلاف الحاكمين في الاجتهاد ومن ثم الإيراد عليه بأنه هذا ليس محلّه بل محلّه مسألة تبدّل رأي المجتهد نفسه فإن كلامه (قده) صريح في كونه إشكالاً على هذا المورد الأخير حيث قال: " بقي الكلام في حكم النقض بالاجتهاد بناء على ثبوت الخلاف في المسألة ، فنقول : الأقوى حرمة نقض الحكم الأول بالاجتهاد .. لما تقرر في محلّه من أن كل عمل أتى به بحسب الاجتهاد الأول فلا يجب إعادته لو ظهر فساده بالاجتهاد الثاني .. وهذا الكلام يجري في كل واجب أُتِيَ به أولاً بظنّ اجتهادي ثم تغير الظنّ " [[يُلاحظ القضاء والشهادات للشيخ الأنصاري (قده) ص150]] فراجع تمام عبارته في محلّها وتدبّرها جيداً .