33/03/29


تحمیل
  (بحث يوم الأربعاء 29 ربيع الأول 1433 هـ 81)
 كان الكلام في ذكر الأدلة التي استُدلّ بها على قول المشهور من عدم وجوب التكسب على المدين وعدم جواز إلزامه به وتقدّم ذكر دليلين أحدهما هو التمسّك بالأصل والآخر قوله تعالى : " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " ، وقد تقدّمت المناقشة في كل منهما ولمزيد التوضيح أقول :
 أما بالنسبة إلى الأصل [1] فمن المعلوم أن النوبة لا تصل إليه إلا بعد الالتزام بأمرين :
 أولهما : القول بعدم وجود إطلاق لأدلة وجوب الوفاء بالدين يقتضي [2] عدم تقيّد الوجوب بالتمكّن المالي [3] على غرار تقيّد وجوب الحج بالاستطاعة .
 ثانيهما : القول بأن ليس مقتضى الأصل عند الشكّ في كون الواجب مطلقاً أو مشروطاً هو كونه مطلقاً [4] ، وهذا الأمر في الحقيقة يدخل في كبرى دوران الأمر بين رجوع القيد إلى المادة فيكون قيداً للواجب فيكون الواجب مطلقاً أو رجوعه إلى الهيأة فيكون قيداً للوجوب فيكون الواجب مشروطاً [5]
  [7] .
 هذا .. ولكن لا يبعد القول بوجود إطلاق لبعض أدلة وجوب الوفاء بمعنى أن وجوب الأداء ليس مشروطاً بالقدرة المالية ولو تمّ هذا لأوجب تحصيل مقدمة الأداء الواجب كالتكسّب [8] ، وهذه هي الثمرة بين القول بالإطلاق والقول بالاشتراط [9] .
 والحاصل أن التمسّك بالبراءة لا يُصار إليه إلا بعد القول بعدم وجود أصل لفظي أو أصل عملي مقدّم على أصالة البراءة .
 وأما بالنسبة إلى الآية الشريفة فقد تقدّم أنه قد اعتُرض عليها بأمرين كان أوّلهما أن غاية ما تدل عليه هو الإنظار حال العُسر بمعنى عدم مطالبته بالدين في هذا الحال (فضلاً عن عدم جواز سجنه) ولزوم إمهاله إلى حين اليسر وهذا لا ينافي وجوب التكسب عليه (بل وإلزامه به من جهة كونه مقدمة للوفاء بالدين الواجب عليه) إذ ليس في الآية الشريفة ما يشير إلى عدم وجوب التكسب لتكون دليلاً للمشهور .
 وكان ثانيهما أن القادر على التكسب خارج موضوعاً عن الآية الشريفة لأنه متمكن وواجد للمال ولا يُشترط في واجدية المال أن يكون موجوداً نقداً بل إذا كان قادراً على التكسب يُعدّ متمكناً ولا ينطبق عليه عنوان المعسر ولذا لم يُعدّ في سائر الموارد التي يُشترط فيها الفقر كالزكاة والخمس مستحقّاً بل عُدّ فيها غنياً وليس فقيراً .
 هذه تتمةٌ وتذكير بما سبق .
 الدليل الثالث :

رواية الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه :
 " قضى (عليه السلام) في الدين أنه يحبس صاحبه فإن تبيّن إفلاسه والحاجة فيُخلّى سبيله حتى يستفيد مالاً [10] " [11] .
 الدليل الرابع :

معتبرة غياث بن إبراهيم عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام) :
 " أن علياً (عليه السلام) كان يحبس في الدين فان تبيّن له إفلاس وحاجة خلّى سبيله حتى يستفيد مالاً " [12] .
 وتقريب الاستدلال بهما من جهة البناء على ظهور (حتى) فيهما بمعنى (إلى) الغائية فالمقصود هو أن المدين يُخلّى سبيله إلى أن يستفيد مالاً فيكون الظاهر منه عدم وجوب التكسّب .
 وأجيب عنه :
 أولاً :

المنع من ظهور (حتى) في الغاية بل هي ظاهرة في كونها تعليلية بمعنى (لكي) أو (لأجل) فالمعنى هو أن المدين يُخلّى سبيله لأجل أن يستفيد مالاً فيكون الظاهر منه هو وجوب التكسّب ، وإن مُنع من هذا الظهور فلا أقلّ من كون محتملاً احتمالاً معتدّاً به على نحو يمنع من الاستدلال بالروايتين على ما ذُكر من عدم وجوب التكسب .
 والحاصل أن (حتى) إن لم تكن ظاهرة في كونها تعليلية فيكون الظاهر منها وجوب التكسب فلا أقلّ من عدم ظهورها في كونها غائية ليُدّعى كون الظاهر منها عدم وجوب التكسب .
 وثانياً :

لو سُلّم كون (حتى) غائية وأن الظاهر من الروايتين أن المدين يُخلّى سبيله إلى أن يستفيد مالاً إلا أن هذا المعنى لا ينافي وجوب التكسب إذ ليس فيه ظهور في عدم وجوب التكسب بل غايته أنه لا يدلّ على وجوب التكسب وهذا لا ينافي وجوب التكسب لو دلّ عليه دليل فلا مانع من الالتزام بأن المدين يُخلّى سبيله إلى أن يستفيد مالاً وفي الوقت نفسه يؤمر في فترة الإنظار وتخلية السبيل بالتكسب .
 الدليل الخامس :

موثّقة السكوني عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام) عن علي (عليه السلام) : " أن امرأة استعدت على زوجها أنه لا ينفق عليها وكان زوجها مُعسراً فأبى أن يحبسه وقال : إن مع العسر يسراً " [13] .
 وهذه الرواية أُلحق بآخرها فقرةٌ ذُكرت في ملحقات العروة [14] وهي : (ولم يأمره بالتكسب) ولا ريب أنه على تقدير وجود هذه الفقرة في الرواية فعلاً تكون دالّة على عدم وجوب التكسب إذ لو كان واجباً عليه لأمره به الإمام (عليه السلام) .
 ولكن الظاهر أن هذه الفقرة غير موجودة في المصدر أصلاً إذ يخلو منها التهذيب حتى المطبوع منه كما لا توجد أيضاً في شرحه (ملاذ الأخيار للعلامة المجلسي) ولا في الوسائل ولا في الكتب الفقهية التي نقلت هذه الرواية من قبيل مفتاح الكرامة وكشف اللثام والجواهر فيبدو - والله العالم - أن هذه الفقرة إنما هي تعليقة من السيد اليزدي (قده) ذيّل بها هذه الرواية غاية الأمر أنه وقع خطأ في النَسْخ أو حصل اشتباه من الناسخ .
 والرواية تامة سنداً .. ولكن قد يُخدش فيها من جهة محمد بن قولويه - الذي هو أبو صاحب كامل الزيارات (جعفر بن محمد بن قولويه) ، أو من جهة محمد بن عيسى - الذي هو أبو أحمد بن محمد بن عيسى ، أو من جهة السكوني فإن الأوّلين لم يوثّقا والأخير عامي .
 ولكنها في الجميع مدفوعة :
 أما بالنسبة إلى محمد بن قولويه فإن ابنه صاحب كامل الزيارات قد روى عنه مباشرة فيه ورجالُ كامل الزيارات وإن لم يكن في عبارة المصنّف في بداية كتابه دلالة على توثيقهم جميعاً إلا ان فيها دلالة على توثيق من يروي عنهم مباشرة وهم من يُعبّر عنهم بالمشايخ وأبوه واحد منهم .
 وأما بالنسبة إلى محمد بن عيسى فإنه قد عُبّر عنه في المصادر الموثوقة كالنجاشي وغيره بأنه كان شيخ القمّيين ووجه الأشاعرة وظاهر هذا التعبير أنه ينافي كونه شخصاً غير معتمد عليه في ما يُحدث به فهو إن لم يدلّ على توثيقه فلا أقلّ من دلالته على حسنه وإمكان الاعتماد عليه .
 وأما بالنسبة إلى السكوني فلا يضرّ كونه عامياً بعد كونه ثقة بحسب نصّ الشيخ (قده) .
 وعلى ذلك فالظاهر تمامية الرواية سنداً .
 وأما تقريب الاستدلال بها على قول المشهور فبالتمسّك بالإطلاق المقامي من جهة سكوت الإمام (عليه السلام) عن إلزام الزوج المعسر بالتكسب بعد تصريحه بعدم حبسه ولو كان التكسب واجباً لألزمه الإمام (عليه السلام) به .
 هذا غاية ما يقال في تقريب الاستدلال بهذه الرواية وستأتي المناقشة فيه إن شاء الله تعالى .


[1] وهو جريان البراءة عن وجوب التكسّب .
[2] أي هذا الإطلاق .
[3] وإلا فلو وُجد هذا الإطلاق لتعيّن التمسّك به لإثبات المطلوب من عدم وجوب التكسّب ولم تصل النوبة إلى التمسّك بالأصل العملي للطولية بين الدليل اللفظي والأصل العملي .
[4] وإلا فلو قلنا بأن مقتضى الأصل عند الشكّ في كون الواجب مطلقاً أو مشروطاً هو كونه مطلقاً لكان هذا الأصل مقدّماً على أصالة البراءة لحكومته عليها إذ هو في الحقيقة رافع لموضوعها وهو الشك فإنه إذا تمسّكنا بذلك الأصل وقلنا بكون الواجب مطلقاً فلا يكون حينئذ ثمة شك أصلاً ليكون هناك مجال لجريان أصالة البراءة .
[5] لا يخفى أن وصف الإطلاق والاشتراط وإن وُصف بهما الواجب إلا أن وصفه بهما إنما هو على نحو العناية والمجاز بحذف المضاف (أي وجوب الواجب) والوصف في الحقيقة إنما هو للوجوب ، ومن هنا تعلم بأن لا تهافت في ما ذُكر من أن : (القيد إذا رجع إلى المادة يكون قيداً للواجب فيكون الواجب مطلقاً) فإن الإطلاق وصف للوجوب فلا ينافي كون الواجب مقيّداً فتدبّر!
[6] هذا .. وقد ذكر الأستاذ (دامت بركاته) ما مفاده - بتصرّف - :
[7] " لا يخفى أن تقييد المادة حاصل على كل تقدير : أما على رجوع القيد إلى المادة فواضح وأما على رجوع القيد إلى الهيأة فلأن تقييد الهيأة يستلزم تقييد المادة بلا عكس ، ومن هنا يكون تقييد المادة معلوماً على كل حال فالدوران المزبور هو في الحقيقة بين رجوع القيد إلى المادة فقط أو رجوعه إلى الهيأة والمادة معاً فعلى الأول يكون قيداً للواجب فيكون الواجب (أي وجوب الواجب - كما عرفت -) مطلقاً ، وعلى الثاني يكون قيداً للوجوب فيكون الواجب (أي وجوب الواجب) مشروطاً " .
[8] مثال لما يكون من مقدمات تحصيل الأداء الواجب .
[9] فعلى الإطلاق يلزم تحصيل المقدمات التي يتوقف عليها الأداء كالتكسب وعلى الاشتراط لا يلزم ذلك .
[10] أي يُحبس استظهاراً ، وهو يتأتّى حيث لا يُعلم حال المدين من حيث واجديته للمال فإن تبيّن أنه معسر يُطلق سراحه .
[11] التهذيب مج6 ص232 ، الفقيه مج3 ص28 ، الوسائل مج27 ص247 .
[12] التهذيب مج6 ص299 ، الوسائل مج18 ص418 ، ولا يخفى أن الأنسب جعلهما دليلاً واحداً لأن فقرة الاستدلال فيهما واحدة لا اختلاف فيها فلا موجب للتعدّد .
[13] التهذيب مج6 ص300 ، ومج7 ص454 ، الوسائل مج18 ص418 .
[14] العروة الوثقى مج6 ص495 .