33/03/06


تحمیل
  (بحث يوم الاثنين 6 ربيع الأول 1433 ه 65)
 التنبيه الرابع

[1] :

: تقدّم ذكر الدليل الأول من أدلة النفوذ وهو الآيات الشريفة الآمرة بالحكم بالحقّ والعدل والقسط نحو قوله تعالى : (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) الذي استُدلّ بها على حجية العلم واعتباره في باب الحكم والقضاء .
 وهذا الدليل لو تمّت دلالته فيكون مطلقاً بلحاظ العلم الحسّي والعلم الحدسي إذ لا فرق بينهما في أن كلّاً منهما يكون طريقاً لإحراز موضوع الحكم فإذا علم القاضي بأن هذا عدل فيجوز له الحكم به وعلمه بأن هذا عدل لا يفرق فيه بين أن يكون حسياً أو حدسياً فالدليل الأول على تقدير تماميته مطلق من ناحية العلم الحسّي والعلم الحدسي ، وهذا الإطلاق يمكن تقييده بما دلّ على عدم نفوذ العلم الحدسي فإن النسبة بينهما هي نسبة العموم والخصوص المطلق فإن الآيات الشريفة تدلّ على نفوذ العلم مطلقاً وما دلّ على عدم النفوذ فإنما يدلّ عليه في خصوص العلم الحدسي فتقيّد هذه الأدلة ذلك الإطلاق وتُخرج موردها من تحته فيختصّ حينئذ بخصوص العلم الحسّي ليدلّ على اعتباره ونفوذه وهذه النتيجة لا تنافي ما انتهينا إليه من التفصيل بين العلم الحسّي والعلم الحدسي كما لا يخفى .
 وكان من جملة الأدلة التي تدلّ على عدم نفوذ العلم الحدسي بل أهمّها هو الدليل الخامس الذي كان حاصله أن العلم لو كان مثل البيّنة واليمين من طرق الإثبات لكان المناسب بل المتعيّن أن يرد دليل واحد على الأقلّ يُتعرّض فيه إلى ذلك كما ورد في شأن البيّنة واليمين الكثير من الروايات التي تبيّن ما يتعلّق بهما من الشروط والأحكام فيكشف عدم الورود عن عدم كونه من طرق الإثبات فيدلّ بالتالي على عدم نفوذ علم القاضي في باب القضاء .
 وقد ذكرنا أن هذا الدليل لو تمّ فإنما يتم في العلم الحدسي فيدلّ على عدم كونه من تلك الطرق ولا يتم في العلم الحسّي وذلك لما تقدّم بيانه من ارتكازية الاعتماد عليه في أذهان العقلاء والمتشرعة وقيام سيرتهم العملية على الاستناد إليه فبضميمة عدم الردع عن هذه السيرة من جهة الشرع وتعويل الشارع المقدّس على هذا الارتكاز المتشرّعي والعقلائي في ترك بيان الاعتماد عليه إثباتاً يثبت كونه مُمضىً شرعاً فلا يحتاج حينئذ إلى ورود دليل على اعتباره بالخصوص ، ومثل هذه الارتكازية والسيرة الجارية غير متوفّرة في العلم الحدسي وذلك لكثرة وقوع الخطأ فيه .
 فإذاً يمكن تفسير عدم بيان الشارع المقدّس لكون العلم الحسّي من طرق الإثبات القضائي من جهة الارتكازية المذكورة ولذلك ينسحب هذا الدليل عن أن يطال العلم الحسّي في الدلالة على عدم نفوذه وإنما تكون دلالته في عدم النفوذ مقتصرة على العلم الحدسي .. وعلى ذلك فيقيّد به إطلاق تلك الآيات الشريفة لأن نسبته إليها نسبة الخاص إلى العام والمقيّد إلى المطلق وحينئذ تكون النتيجة هي دلالة تلك الآيات على نفوذ خصوص العلم الحسّي فنصل إلى النتيجة نفسها التي تقدّم ذكرها من التفصيل في الاعتبار بين العلم الحسّي والعلم الحدسي .
 هذا إذا أُذعِن بوجود تلك الارتكازية في شأن العلم الحسّي بل قد يقال بأنها مسلّمة في ما لو كان العلم طريقياً حتى بالنسبة إلى العلم الحدسي ، وأما إذا استُشكل في ذلك ومُنع من أصل وجودها حتى بالنسبة إلى العلم الحسّي في ما لو كان العلم موضوعياً - كما هو محلّ الكلام باعتبار كون العلم بمثابة الموضوع لجواز القضاء ومشروعيته - فحينئذ يتم الإطلاق في هذا الدليل [2] فيدلّ على عدم نفوذ العلم مطلقاً حسّياً كان أو حدسياً .
 ولكن مع ذلك فهو لا يؤثّر على النتيجة المتقدّمة من التفصيل بين العلمين .. بيان ذلك :
 إن معتبرة سليمان بن خالد - الدالة على اعتبار العلم الحسّي ونفوذه في باب القضاء لأجل كونها أخصّ مطلقاً من هذا الدليل تكون مقيّدة لإطلاقه بعد فرض تماميته فتُخرج موردها من أن يكون مشمولاً له فيختصّ حينئذ بخصوص العلم الحدسي ليدلّ على عدم اعتباره ونفوذه وهذه النتيجة لا تنافي ما انتهينا إليه من التفصيل بين العلم الحسّي والعلم الحدسي كما لا يخفى .
 قد يقال : بأن مجمل ما ذُكر هو أن الدليل الخامس لو تمّ الإشكال المتقدّم [3] فيه فكان دالاً على عدم اعتبار العلم مطلقاً يُقيّد بمعتبرة سليمان بن خالد فيختصّ حينئذ بالعلم الحدسي ثم يكون هو بدوره مقيّداً لإطلاق الآيات الشريفة الدالة على اعتبار العلم مطلقاً لتختصّ بالنتيجة بالعلم الحسّي فتدلّ على اعتباره .. وهذا هو التفصيل المزبور .
 ولكن هذا الكلام مبني على الالتزام بكبرى انقلاب النسبة لأن النسبة بين الآيات الشريفة (بناءً على افتراض تمامية دلالتها فتدلّ على نفوذ العلم مطلقاً) والدليل الخامس (بعد فرض تسليم الإشكال المتقدّم فيدلّ على عدم نفوذ العلم مطلقاً) هي التعارض ولكن بعد تقييد الدليل الخامس بالمعتبرة تنقلب تلك النسبة فتصبح نسبة الدليل الخامس إلى الآيات الشريفة هي نسبة الخاص إلى العام والمقيّد إلى المطلق فيُقيد الآيات الشريفة فيكون هذا تطبيقاً لكبرى انقلاب النسبة بعد البناء عليها مع أن المحقّق في محلّه بطلانها .
 أقول : إن النتيجة المذكورة من التفصيل في الاعتبار بين العلم الحسّي [4] والعلم الحدسي [5] لا يمرّ في الحقيقة بهذه القضية أعني كبرى انقلاب النسبة ليُستشكل ببطلانها وذلك ببيان أن معتبرة سليمان بن خالد ليست في الحقيقة مقيّدة للدليل الخامس بل هي في الواقع حاكمة عليه ومفسّرة له لأن هذا الدليل مبتنٍ على افتراض الإهمال وعدم البيان [6] فتأتّى أن يقال إن هذا لا بد أن يكون من جهة عدم اعتباره وإلا فلو كان معتبراً وكان من طرق الإثبات لتكفّلت الأدلة ببيانه كما تكفّلت ببيان اعتبار البينة واليمين طرقاً للإثبات القضائي .. ولكن حيث كانت معتبرة سليمان بن خالد دالة على أن العلم الحسّي مما يصحّ القضاء به والتعويل عليه فتكون حينئذ بياناً فتكون حاكمة على هذا الدليل.
 وبعبارة أخرى : إن هذا الدليل لا يتم أساساً إلا في العلم الحدسي [7] لأن لسانه يقول إن (العلم لم يرد بيان على جواز التعويل عليه) والحال أن العلم الحسّي ورد بيان فيه دلّ على جواز التعويل عليه [8] فهذا يوجب اختصاص الدليل الخامس من الأول بخصوص العلم الحدسي ، فالعلم الحدسي في الحقيقة خارج موضوعاً عن هذا الدليل لأن موضوعه الإهمال وعدم البيان في حين أن العلم الحسّي ورد في شأنه البيان .
 إذاً بعدما تبيّن أن الدليل الخامس مقيّد من الأول فنسبته مع الآيات الشريفة هي نسبة المقيّد إلى المطلق فيقيّد إطلاق الآيات الشريفة لتكون مختصّة بالعلم الحسّي فننتهي إلى النتيجة المزبورة نفسها بطريق لم يمرّ بانقلاب النسبة .
 ولكن هذا كله على تقدير تمامية الدليل الأول من أدلة النفوذ وهي الآيات الشريفة التي تدلّ على اعتبار العلم مطلقاً - حسّياً كان أو حدسياً - بما تقدّم تقريبه من أن هذه الآيات لها موضوع وهو كون الشيء حقّاً وعدلاً وحكم وهو جواز القضاء بالحقّ والعدل فإذا قطع القاضي بالموضوع وعلم أن هذا حقّ وعدل فيجوز له أن يحكم به لأن القطع بالموضوع يلزمه القطع بالحكم سواء كان منشأ القطع هو الحسّ أو الحدس فإن هذا قطع طريقي بموضوع الحكم وليس قطعاً موضوعياً لأن الحكم لم يُعلّق على الشيء بما هو معلوم بل عُلّق على الشيء بما هو في الواقع ولا يفرق في القطع الطريقي بين مناشئه من الحسّ والحدس .
 ولكن هذا الإطلاق في الآيات الشريفة على تقدير تمامية دلالتها - لا يمنع من الوصول إلى النتيجة المزبورة وهي التفصيل بين نحوي العلم لأن هذا الإطلاق مقيّد بالدليل الخامس من أدلة عدم النفوذ لما عرفت من اختصاصه بالعلم الحدسي .
 وهذا كله أيضاً على تقدير تمامية الدليل الخامس من أن عدم ورود دليل يشير إلى جواز التعويل على العلم في باب القضاء دليل على عدم اعتبار العلم وكونه من طرق الإثبات .
 ولكن حيث قد تقدّمت المناقشة فيه فيلتحق ببقية أدلة عدم النفوذ التي تبيّن بطلانها بما تقدّم فلا يكون في المقام حينئذ أيّ دليل يدلّ على عدم اعتبار العلم مطلقاً فتخلو ساحة الاستدلال لأدلة النفوذ التي هي على قسمين :
 الأول :

الآيات الشريفة - على تقدير تمامية دلالتها الإطلاقية على نفوذ كلا نحوي العلم (الحسّي والحدسي) - .
 الثاني :

معتبرة سليمان بن خالد [9] وهي تدلّ على نفوذ العلم الحسّي من غير أن يكون لها مفهوم .
 ولكن هذه المعتبرة لا تقيّد إطلاق الآيات الشريفة لأن مضمونها ومضمون الآيات حكمان متماثلان مُثبتان فلا يحصل تقييد في البين إذ لا منافاة بينهما فإن المعتبرة تدلّ على النفوذ في خصوص العلم الحسّي والآيات تدل على النفوذ في العلم مطلقاً ولا تنافي بينهما حتى يُصار إلى حمل المطلق على المقيّد .. ولكن حينئذ نصل إلى نتيجة مخالفة لما سبق من التفصيل وهي اعتبار العلم مطلقاً في باب القضاء ، ولا طريق للوصول إلى النتيجة السابقة إلا بارتكاب أحد أمرين :
 الأول : المناقشة في دلالة الآيات الشريفة على اعتبار العلم مطلقاً .
 الثاني : تتميم دلالة الدليل الخامس بدفع الإشكال المتقدّم عنه لينتج اختصاص دلالته بالعلم الحدسي فيدلّ على عدم نفوذه فيكون مقيداً لإطلاق الآيات لينتج اختصاص دلالتها بالعلم الحسّي فتدلّ على نفوذه .
 ولكن قد عرفت سابقاً الخدش في دلالة الآيات وهذا وحده يكفي للوصول إلى نتيجة التفصيل السابق حتى إذا قبلنا بورود الإشكال في الدليل الخامس [10] لأنه بمجرد منع الإطلاق في الآيات لا يبقى في البين إلا معتبرة سليمان بن خالد الدالة على اعتبار العلم الحسّي ولا نحتاج في نفي اعتبار العلم الحدسي إلى دليل عليه بالخصوص بعدما كان مقتضى القاعدة عدم اعتبار العلم مطلقاً في باب القضاء خرج منه العلم الحسّي لقيام الدليل عليه بالخصوص وبقي الباقي وهو العلم الحدسي مشمولاً له [11] وحينئذ ننتهي إلى التفصيل المزبور نفسه وهو اعتبار العلم الحسّي بموجب المعتبرة وعدم اعتبار العلم الحدسي بموجب مقتضى القاعدة .
 وبهذا يتم الكلام على التنبيهات المرتبطة بالبحث السابق .. وسيأتي الكلام لاحقاً في المسألة التاسعة التي تتعرّض إلى اعتبار الجزم في الدعوى وأن الدعوى إذا كانت ظنية أو احتمالية لا تكون مسموعة.


[1] من التنبيهات التي ترتبط بالبحث السابق .
[2] أي الدليل الخامس من أدلة عدم النفوذ .
[3] من منـع وجـود ارتكازيـة حتى بالنسبة إلى العلم الحسّي لأخذه على نحو الموضوعيـة لجـواز القضـاء ومشروعيتـه وإنما تُسلّم هذه الارتكازية في العلم الطريقي - فيكون الدليل الخامس مطلقاً فيشمل كلا العلمين ويدلّ على عدم النفوذ فيهما .
[4] أي فيكون معتبراً .
[5] أي فلا يكون معتبراً .
[6] أي إهمال الأدلة وعدم بيانها لقضية كون العلم من طرق الإثبات .
[7] أي أنه لا إطلاق لهذا الدليل من الأصل حتى يقال بتقييده بالمعتبرة وبعده تقييده يكون بدوره مقيّداً لإطلاق الآيات الشريفة فيتأتّى الإشكال عليه بحديث انقلاب النسبة بل هو من الأصل مختصّ بالعلم الحدسي .
[8] وهذا بمقتضى معتبرة سليمان بن خالد .
[9] وأما معتبرة الحسّين بن خالد فهي وإن دلّت على نفوذ العلم الحسّي بقرينة قوله (عليه السلام) : (إذا نظر إلى رجل يزني أو يشرب الخمر أن يقيم عليه الحدّ) إلا أن موردها باب الحدود لا القضاء الذي هو محلّ الكلام .
[10] من أنه مبني على قضية باطلة وهي كبرى انقلاب النسبة .
[11] أي لمقتضى القاعدة من عدم اعتبار العلم في باب القضاء .