33/02/03


تحمیل
  (بحث يوم الأربعاء 3 صفر الخير 1433 ه 51)
 كان الكلام في الدليل الثالث الذي استُدل به على جواز الاستناد إلى علم القاضي في الحكم والقضاء وكان حاصله أن البيّنة إنما اعتُبرت في باب القضاء من باب كشفها عن الواقع ، ولا إشكال في أن العلم أقوى كشفاً عن الواقع منها فيكون اعتباره في باب القضاء أولى .
 ويُلاحظ عليه :
 أولاً :

أن هذه الأقوائية إنما تكون مسلّمة بالنسبة إلى القاضي نفسه باعتبار أنه يرى أن كشف علمه عن الواقع أقوى لديه من كشف البينة فهنا ثمة مجال لدعوى الأقوائية وما يترتّب عليها من أن هذا القاضي حينما يرى أن الاستناد في الحكم إلى البيّنة حجة لكونها وسيلة من وسائل الإثبات فهو بلا ريب يرى أن الاستناد في الحكم إلى علمه يكون حجة من باب أولى ، ولو كان إليه جَعْلُ الحجية في باب الإثبات القضائي لجَعَل علمه حجة قبل جعل البينة لأن علمه أقوى كشفاً عن الواقع منها .
 وأما إذا لاحظنا ذلك بالنسبة إلى شخص آخر غير القاضي فلا تكون هذه الأقوائية واضحة بل ربما يكون الأمر حينئذ بالعكس بمعنى أن البينة التي تعني عدولاً متعدّدين يشهدون عن علمهم بالواقعة - تكون أقوى كشفاً عن الواقع من علم القاضي لأنه عبارة عن دعوى شخص واحد عن علمه بالواقعة ، ولا ريب أن التعدّد في الشهادة بالنسبة إلى طرف ثالث أولى من شهادة شخص واحد سيّما وأن الجميع يشهدون عن علمهم بالواقعة .
 وعلى ذلك فلا مجال لأن يقال إن علم القاضي أقوى كشفاً من البينة ولا لما يبتني عليه من أنه لو كان إليه جَعْلُ الحجية في باب الإثبات القضائي لجَعَل علمه حجة قبل جعل البينة فإن اعتبار الحجية في الأبواب الشرعية جميعاً بيد الشارع المقدّس وهو قد اعتبر البيّنة فيها ولا مُلِزم له لأن يعتبر علم القاضي إذا كان لم يعتبره أصلاً .
 وثانياً :

إن الاستناد إلى أقوائية العلم في الكاشفية عن الواقع من البيّنة وغيرها في إضفاء الحجية عليه كما هي ثابتة لها بل دعوى أنه أولى منها إنما يتّجه في ما لو تيقّنّا بأن الوجه في اعتبار البيّنة وسيلةً من وسائل الإثبات منحصرٌ بكشفها عن الواقع بحيث يكون ملاك الاعتبار والحجية هو ذاك لا غيره ، وأما إذا احتملنا أن هناك أمراً آخر غير الكشف يكون له تمام الدخالة في اعتبار البيّنة وسيلةً من وسائل الإثبات وهو موجود فيها من غير أن يكون موجوداً في علم القاضي ففي هذه الحالة لا يمكن أن نستدلّ بالأقوائية لإثبات اعتبار علمه بل لو سلّمنا أن البيّنة معتبرة من باب الكشف ولكن أنّى لنا أن نثبت أن للكشف تمام الدخالة في الملاك وأن الملاك منحصر فيه ، وفي المقام لا دافع لاحتمال أن يكون غير الكشف دخيلاً أيضاً ولو من باب كونه جزء المركّب لما هو الدخيل في الملاك .
 إذاً فهناك احتمال أن تكون في البيّنة خصوصية هي غير موجودة في علم القاضي اقتضت اعتبار البيّنة دونه .. ومعه لا يمكن التعدّي منها [1] إليه .
 نعم .. لو أمكن إثبات الانحصار في الكشف فيمكن التعدّي بالأولوية إلى علم القاضي ولكن هذا يتوقّف على القطع بعدم الخصوصية ولا سبيل إليه مع قيام الاحتمال بشهادة الوجدان في أن يكون تعدد الشهود في باب البيّنة وعدم كونهم أطرافاً في الدعوى وكون الحكم مستنداً إلى شهادتهم مؤثّراً في قبول الحكم عند الجميع بصورة أقرب ممّا لو صدر الحكم استناداً إلى علم القاضي بل لو فُرض قيام الدليل على جواز الاستناد إلى علم القاضي لما كان يورث القناعة بالحكم لدى الخصوم وغيرهم بالدرجة التي تورثها البيّنة ، ولو كان مقبولاً عندهم فبنحو من التعبّد والتسليم إذ من الجائز أن يكون الغرض النوعي من اعتبار البيّنة إيصال أطراف الدعوى إلى القناعة بالحكم ممّا قد لا يتحصّل بحكم القاضي بعلمه .
 ومن هنا يظهر عدم تمامية هذا الدليل .
 الدليل الرابع :

آيات الحدود والمقصود بها نحو قوله تعالى : " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " [2] وقوله تعالى : " الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما .. " [3] وغيرها من الآيات التي يكون الخطاب فيها موجّهاً إلى من عليه إقامة الحدّ وفي هذه الآيات رُتّبتْ أحكام خاصة على موضوعات معيّنة [4] فيقال في مقام الاستدلال أنه إذا ثبت عند القاضي موضوعٌ مّا وعلم به فحينئذ لا بد أن يثبت الحكم المترتّب عليه في القضية الشرعية بمعنى أن على القاضي أن يُرتّب ذلك الحكم المذكور في الآية الشريفة وهذا معناه جواز أن يقيم الحدّ على الزاني والسارق - مثلاً - اعتماداً على علمه بالزنا والسرقة لأنه هو المخاطَب بقوله تعالى : " فاجلدوا كل واحد منهما " وقوله : " فاقطعوا أيديهما " وأمثالهما ، وإذا تمّ هذا المعنى في باب الحدود فيمكن التعدّي حينئذ إلى غيره من الأبواب إما بالقطع بعدم الفرق أو بضميمة القول بعدم الفصل بين مورد ومورد فعلم القاضي حينما يكون حجة ومعتبراً في مورد فإنه يكون كذلك في جميع الموارد بلا فرق بين باب الحدود وغيره من الأبواب .
 هذا ما يمكن أن يقال في مقام تقريب الاستدلال بهذا الدليل .
 ولكن يمكن الخدشة فيه من جهة أن الآيات الشريفة ليست في مقام بيان موضوع الحكم وحدوده وشرائطه [5] وأنه هل يثبت بوسائل الإثبات المعروفة في باب القضاء من البيّنة واليمين وأمثالهما أم أنه يثبت أيضاً بعلم القاضي وإنما قد افُترِض في تلك الآيات تحقق الموضوع بمعنى أنه قد أُخذ فيها على نحوٍ مفروض التحقّق والحصول وأُثبت له الحكم فهي إذاً في مقام بيان تشريع الحدود لهذه الموضوعات في الجملة .
 ومن هنا لا يصح التمسّك بإطلاق هذه الآيات لإثبات مشروعية إقامة الحدّ للقاضي عندما يثبت موضوع الحدّ بعلمه لأنها ليست في مقام البيان من هذه الجهة .
 ويشهد لهذا المعنى [6] أن من الواضح عدم ثبوت جواز إقامة الحدّ لكل أحد وإنما يثبت لبعض الناس في بعض الحالات بشرائط معينة لا مطلقاً وهذا يكشف في الحقيقة عن عدم وجود إطلاق في هذه الآيات ليُستفاد منه التعميم ليقال بثبوته للقاضي ويُتعدّى بعد ذلك عن مورد الحدود إلى غيرها من الموارد بما تقدّم [7] وإنما هي كما ذكرنا - بصدد تشريع الحدّ إجمالاً [8] كسائر أدلة التشريعات الأخرى التي لا إطلاق لها .. مع أن دعوى الإطلاق يلزمها ما يشبه تخصيص الأكثر لأن مراد المستدلّ إدخال خصوص القاضي في صورة علمه بموضوع الحكم في دائرة من يجوز له إقامة الحدّ فلا بد له بعد ادّعاء الإطلاق من استثناء غيره [9] فيلزم ما يشبه تخصيص الأكثر المستهجن .
 ومن هنا يظهر عدم تمامية هذا الدليل أيضاً .
 الدليل الخامس :

.. يأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى .


[1] أي من البيّنة .
[2] المائدة / 38 .
[3] النور / 2 .
[4] فقطع اليد - مثلاً - حكم يترتب على موضوع السرقة والجلد حكم يترتب على موضوع الزنا وهكذا .
[5] فليست هذه الآيات في مقام بيان موضوع الحكم بالجلد أو القطع وأمثالهما .
[6] أي عدم كون الآيات الشريفة في مقام بيان وسائل الإثبات اقضائي وأنها تقتصر على مثل البينة واليمين أم تتعدّى لتشمل علم القاضي وغيره مما يصلح للإثبات ، وإذا لم تكن في مقام البيان من هذه الجهة فلا يمكن التمسّك بإطلاقها حينئذ للقول بالتعميم .
[7] أي من القطع بعدم الفرق أو بضميمة القول بعدم الفصل بين مورد ومورد .
[8] أي من غير التعرّض للتفاصيل من بيان الشرائط والموانع وغيرها مما له الدخالة في تحقق موضوع الحكم الشرعي .
[9] أي غير القاضي .