33/01/15


تحمیل
  (بحث يوم الأحد 15 محرم الحرام 1433 ه 41)
 كان الكلام في الدليل الثالث وهو التمسّك بأدلة وجوب الوفاء بالشرط لإثبات نفوذ قضاء قاضي التحكيم ولزوم العمل بما يحكم به بالتقرير المتقدّم ، وذكرنا أنه لوحظ على هذا الدليل :
 أولاً : إن ما نحن فيه يدخل في باب الشرط الابتدائي وقد ذهب المشهور إلى عدم وجوب الوفاء به وعدم دخوله في أدلة وجوب الوفاء بالشرط لاختصاصها بما يقع في ضمن عقد وهو غير حاصل في الشرط الابتدائي .
 ولكن قد يقال في مقام دفع هذا الإشكال إنه لو سلّمنا أن الشرط الابتدائي مما لا يجب الوفاء به - كما ذهب إليه المشهور إلا أنه يُستحبّ الوفاء به إذ لا أقلّ من دخوله في باب الوعد الذي لا إشكال في استحباب الوفاء به وهذا المقدار يكفي لإثبات المشروعية ولا حاجة إلى القول باندراج المورد تحت أدلة وجوب الوفاء بالشرط ليتّجه الاعتراض المتقدّم .
 ولكن هذا الكلام غير تام لأنه لا يكفي مجرّد دعوى استحباب الوفاء ودخول المورد في باب الوعد في مشروعية النفوذ بالمعنى المبحوث عنه في المقام - الذي هو مضيّ الحكم في حقّ المتخاصمين وعدم جواز نقضه من قبل أيّ منهما وذلك لوضوح أن لازم كون الشيء مستحبّاً جواز تركه وعدم الالتزام به وهذا لا يتوافق مع النفوذ المبحوث عنه هاهنا فإن المراد به كون قضاء قاضي التحكيم لازماً بحقّ المتخاصمين لا يجوز لأيّ منهما نقضه وترك الالتزام به على غرار الحال في نفوذ قضاء القاضي المنصوب .
 وثانياً : إن هذا الدليل [1] إنما يتم في ما لو أريد به إثبات اللزوم للفعل المباح في حدّ نفسه [2] فيُستند إلى هذا الدليل لإثبات لزومه كخياطة الثوب فإنه إذا أُخِذ شرطاً مطلقاً [3] أو في ضمن عقد [4] فيمكن حينئذ أن نتمسك بأدلة وجوب الوفاء بالشرط لإثبات لزومه فتكون خياطة الثوب المأخوذة شرطاً واجبةً بعد أن كانت مباحة في حدّ نفسها ، ولا خصوصية لأدلة وجوب الوفاء بالشرط في المورد فكما يمكن إثبات لزوم خياطة الثوب إذا أُخذت شرطاً كذلك يمكن إثبات لزومها إذا جُعلت متعلّقاً للنذر أو اليمين أو العهد .
 وأما إذا كان المراد إثبات أمر ينحصر طريق ثبوته بالدليل الشرعي فلا يكون هذا الدليل حينئذ تاماً إذ لا يمكن إثبات الزوجية - مثلاً - التي ينحصر طريق إثباتها بالدليل الشرعي أو ما يقوم مقامه كحكم القاضي المنصوب بالشرط مطلقاً أو في ضمن عقد أو بجعلها متعلّقاً للنذر أو اليمين أو العهد .
 وثالثاً : إنه بالإمكان دعوى أن هذا الشرط [5] لاغٍ وباطل لكونه مخالفاً للكتاب والسُنّة ضرورة أن من جملتها ما دلّ على أن القضاء من المناصب الإلهية التي تحتاج إلى الجعل والتنصيب وأنه يختصّ بالنبي أو الوصي أو من يُعيّن من قبلهما وليس الذي تحاكم إليها المتنازعان بواحد منهم .
 ولكن هذا الاعتراض يتوقّف - كما هو واضح من معتبرة سليمان بن خالد المتقدّمة - على أن تكون تلك الأدلة ناظرة إلى مطلق القضاء ، وأما إذا استظهرنا أنها ناظرة إلى قضاء قاضٍ خاص وهو المتمثّل بالقاضي المنصوب الذي تتوقّف مشروعيته ونفوذه على الجعل والنصب من قبل النبي أو الوصي دون مجرّد الترافع من قبل شخصين إلى ثالث في قضية خاصة من غير أن يكون القضاء منصباً له فليس [6] من الواضح شمول الأدلة المذكورة له [7] ، ولعل في معتبرة سليمان بن خالد ما يشير إلى ذلك ، ولا أقلّ من التشكيكِ في أن تكون تلك الأدلة في مقام اشتراط النصب في مطلق القضاء واحتمالِ [8] أن يكون نظرها إلى خصوص القضاء المعبِّر عن منصب خاص يُعيّن فيه بعض الأشخاص مع استبعادِ أن يكون لها نظر إلى محلّ الكلام من قاضي التحكيم حتى يكون الاشتراط حينئذ مخالفاً للسُنّة .
 الدليل الرابع : دعوى الإجماع على مشروعية قضاء التحكيم ونفوذه ولزوم الالتزام به ، وهذا الإجماع منقول عن جماعة من علمائنا (قدهم) منهم الشيخ في الخلاف ، وذكره في المسالك بصورة نفي الخلاف ، وأشار إليه الشيخ الأنصاري في قضائه ، وادّعى في الجواهر انحصار دليل مشروعية قضاء التحكيم به [9] ولا دليل آخر عليه برأيه .
 وفي ضوء ذلك يبدو أن المعروف عندهم والمشهور بينَهم مشروعيةُ قضاء التحكيم .
 ثم إن هناك بعض الأدلة التي ذُكرت أعرضنا عنها لوضوح دفعها .
 فتبيّن من جميع ما تقدّم تمامية بعض الأدلة السابقة كصحيحة الحلبي بالتقريب المتقدّم مؤيدة بالروايات المذكورة - التي هي تامة سنداً إلا أن دلالتها لم تكن واضحة كفايةً ولكنها على أية حال تصلح للتأييد - ، وبالإجماع المدّعى من قبل جماعة - كما ذكرنا - ، والظاهر كفاية هذا المقدار في مشروعية قضاء التحكيم ونفوذه .
 وقد تبيّن أيضاً ممّا تقدّم وبالخصوص ممّا ذكرناه في التعقيب على صحيحة الحلبي أن الفرق بين القاضي المنصوب وقاضي التحكيم يكون من وجوه :
 الأول : اعتبار النصب في القاضي المنصوب وعدم اعتباره في قاضي التحكيم .
 الثاني : استناد مشروعية القضاء في القاضي المنصوب إلى النصب العام واستنادها في قاضي التحكيم إلى تراضي المتخاصمين بالتحاكم إليه .
 الثالث : إنه وإن كان العلم بحكم المسألة المترافَع فيها مما لا بد منه في كليهما لحرمة الإفتاء بغير علم إلا أنه يُعتبر أن يكون عن اجتهاد في القاضي المنصوب ولا يُعتبر ذلك في قاضي التحكيم فيجوز أن يكون عن تقليد .
 وفي ما عدا ما ذُكر فيشتركان في اعتبار بقية الشرائط كالعدالة والإيمان والذكورة وغيرها مما تقدّم ذكره في القاضي المنصوب .
 ومن هنا يتبيّن الجواب عن الإشكال الذي ذُكر في كلماتهم في تحقّق قاضي التحكيم في زمان الغيبة من جهة أنهم قالوا إنه يُعتبر في قاضي التحكيم جميع الشرائط المعتبرة في القاضي المنصوب فأسّسوا على ذلك أن ما يُصطلح عليه بقاضي التحكيم إن كان واجداً لجميع الشرائط فهو قاضٍ منصوب بالنصب العام وإن لم يكن واجداً لها فلا اعتبار بقضائه أصلاً وعلى ذلك فليس ثمة قاضي تحكيم في قبال القاضي المنصوب في زمان الغيبة بل أَسْرَوا هذا الإشكال حتى إلى زمان الحضور بالتقرير المذكور لكن بعد أوان صدور النصب العام من قبل الإمام الصادق (عليه السلام) على ما جاء في رواية عمر بن حنظلة ومعتبرة أبي خديجة وغيرهما فيقال بعدم تحقق قاضي التحكيم في ذلك الزمان وما بعده .
 وحاصل الجواب : أن هذا الإشكال يبتني على أنه يُعتبر في قاضي التحكيم جميع ما يُعتبر في القاضي المنصوب من الشرائط ولكن قد تبيّن أن الأمر ليس كذلك فإن الاجتهاد وإن كان معتبراً في القاضي المنصوب إلا أنه غير معتبر في قاضي التحكيم وبهذا يمكن افتراض تحقق قاضي التحكيم في زمان الغيبة وقبله بأن يكون واجداً لكل الشرائط ما عدا الاجتهاد ولا يكون منصوباً ويكون قضاؤه نافذاً على القول بمشروعية قضاء التحكيم .
 هذا تمام الكلام في أصل مشروعية قضاء التحكيم وقد تبيّن ثبوتها بموجب صحيحة الحلبي المتقدّمة مع مؤيّداتها .
 قال (قده) في المسألة السادسة :
 " هل يكون تعيين القاضي بيد المدعي أو بيده والمدعى عليه معاً ؟ فيه تفصيل ، فإن كان القاضي قاضي التحكيم فالتعيين بيدهما معاً ، وإن كان قاضياً منصوباً فالتعيين بيد المدعي ، وأما إذا تداعيا فالمرجع في تعيين القاضي عند الاختلاف هو القرعة " .
 هذه المسألة تتضمّن عدة فروع والجامع بينها تحديد مَن يكون بيده تعيين القاضي الذي يفصل في النزاع والخصومة وذلك في حالة وجود عدة قضاة واجدين للشرائط :
 الفرع الأول : في قاضي التحكيم ، وقد بيّن في المتن أن تعيينه يكون بيد المتداعيين كليهما ، وهذا واضح ممّا تقدّم من كون القضاء على خلاف الأصل وأن نفوذ حكم إنسان على آخر على خلاف القاعدة وإنما يُلتزَم به في حدود ما يدلّ عليه الدليل ، والدليلُ الدالّ على نفوذ حكم قاضي التحكيم ونفوذ قضائه مختص بصورة تراضي المتداعيين كليهما على ما صرّحت به صحيحة الحلبي حيث جاء فيها : (يتراضيان برجل منّا) فتدل على النفوذ في خصوص هذا المورد وجواب الإمام (عليه السلام) يُفهم منه الإمضاء في حدود مفروض السؤال فلا يمكننا التعدّي عنه إلى إثبات النفوذ في صورة ما إذا رضي به أحدهما ورفض الآخر .
 الفرع الثاني : في القاضي المنصوب ، والكلام فيه يقع في موردين :
 الأول : ما إذا كان أحدهما مدعياً والآخر منكراً .
 الثاني : ما إذا كانا متداعيين [10] :
 أما الأول : فالمعروف بينهم على ما قيل أن تعيين القاضي يكون بيد المدّعي وليس من حقّ المنكر الرفض وطلب رفع الدعوى عند آخر ، وهذا ما اختاره في المتن بل ادُّعيَ عليه الإجماع كما في المستند واستدلّ عليه فيه بما حاصله أن المدعي هو المطالِب بالحق ولا حقّ لغيره أولاً فإذا طلب المدعي من حاكم استنقاذ حقّه فيجب عليه الفحص وترتيب آثار الدعوى واستنقاذ حقه لو كان قد ثبت ذلك له وليس للمنكر أن يرفض رفع الدعوى إليه [11] .. فيتبيّن أن مستند صاحب المستند في من له حقّ تعيين القاضي كون المُدّعي هو المطالِب بالحقّ والمنكر ليس كذلك .
 ولكن هذا الدليل يواجه اعتراضاً ذكره السيد صاحب العروة (قده) في ملحقاتها وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى .


[1] أي التمسّك بأدلة وجوب الوفاء بالشرط إثبات نفوذ حكم قاضي التحكيم ومشروعية قضائه ، وهو الدليل الثالث حسب الترتيب المتقدّم .
[2] قيد للمباح .
[3] أي سواء كان شرطاً ابتدائياً او في ضمن عقد على رأي من ذهب إلى شمول أدلة لزوم الوفاء بالشرط لما كان شرطاً ابتدائياً فضلاً عمّا إذا كان شرطاً في ضمن عقد .
[4] على ما ذهب إليه المشهور من تخصيص أدلة لزوم الوفاء بالشرط بما إذا كان الشرط في ضمن عقد .
[5] وهو اشترط المتخاصمين على نفسيهما أن يقبلا بحكم هذا الحاكم غير المنصوب بالنصب العام الذي تراضيا به .
[6] جواب قوله : (وأما إذا استظهرنا ..) .
[7] أي للترافع من قبل شخصين في قضية خاصة عند ثالث وهو المعبّر عنه بقاضي التحكيم .
[8] بالعطف على (التشكيك) .
[9] أي بالإجماع .
[10] أي كان كلّ منهما مدّعياً .
[11] وهذه نصّ عبارته (قده) : (المسألة التاسعة : إذا كان هناك مجتهدان أو أكثر يتخيّر فيهما الرعية فالحكم لمن اختاره المدعي ، وهو المتبع إجماعاً له ، ولأنه المطالب بالحق ولا حق لغيره أولاً فمن طلب منه المدعي استنقاذ حقه يجب عليه الفحص فيجب اتباعه ، ولا وجوب لغيره ، وهذا مما لا إشكال فيه) مستند الشيعة للمحقق النراقي مج17 ص51 .