32/12/26


تحمیل
  (بحث يوم الأربعاء 26 ذح 1432 ه 39)
 كان الكلام في صحيحة الحلبي وقلنا إنها ظاهرة في السؤال عن مشروعية التحاكم إلى رجل من أهل الاعتقاد بالولاية وبالتالي نفوذ حكمه مع افتراض تراضي الطرفين به .. وتقدّم أن ثمة تساؤلاً في المقام حاصله أنه ما الذي دعا المتكلّم إلى أن يذكر للإمام (عليه السلام) قولَه : (ربما كان بين الرجلين من أصحابنا المنازعة في الشيء فيتراضيان برجل منّا) ليقول له الإمام (عليه السلام) : (ليس هو ذلك إنما هو الذي يجبر الناس على حكمه بالسيف والسوط) ؟
 وبعبارة أخرى : ما هي الشبهة التي علقت في ذهن المتكلّم حتى استدعت منه أن يذكر للإمام (عليه السلام) ما يتضمّن السؤال عن مشروعية القضاء بالتراضي كما يشير إليها قوله (عليه السلام) في الجواب : (ليس هو ذاك) وأن هناك مطلباً في ذهن السائل تخيّل بموجبه انطباقه على ذلك الترافع ؟
 وذكرنا أنه يمكن تصوّره بنحوين :
 الأول : أن يكون من جهة ارتكاز الحكم بحرمة التحاكم إلى الطاغوت وهو أمر معروف وشائع فاستدعى من السائل الشكّ في انطباقه على مثل هذا الترافع .. فالشكّ في المشروعية ناشئ من احتمال مصداقية المورد للتحاكم إلى الطاغوت المرتكز حرمته في الأذهان .
 الثاني : أن يكون من جهة احتمال التلازم بين نفوذ الحكم ونصب الحاكم من قبل الأئمة (عليهم السلام) فاستدعى من السائل الشكّ في مشروعية الحاكم الذي يتراضى به المتخاصمان ولم يكن منصوباً من قبل الأئمة (عليهم السلام) ونفوذ حكمه .. فالشكّ في نفوذ الحكم في المورد ناشئ من احتمال اعتبار النصب في كل قضاء ، وكأن السائل هنا يريد أن يستعلم عن مدى قيام التراضي مقام النصب بحيث إن مشروعية القضاء كما تستند إلى النصب العام أو الخاص تستند إلى التراضي أيضاً .
 وأقول : لا يخفى أنه على كلّ من الاحتمالين يُستفاد من جواب الإمام (عليه السلام) بقوله : (ليس هو ذاك) جواز مثل هذا الترافع إما لعدم كونه من الترافع إلى الطاغوت بناءً على الاحتمال الأول وإما لعدم احتياجه إلى النصب بناءً على الثاني .
 كما لا يخفى أيضاً أن قوله (عليه السلام) في ذيل الرواية : (إنما هو الذي يجبر الناس على حكمه بالسيف والسوط) ناظر بناءً على الاحتمال الأول إلى أهل الجور والقضاة المعيّنين من السلاطين الظلمة فيكون المقصود بقوله (عليه السلام) : (ليس هو ذاك) أن القاضي الذي يتراضى به الطرفان ليس من قبيل قضاة الجور الذين يحرم التحاكم إليهم ، وبناءً على الاحتمال الثاني ناظر إلى القاضي المنصوب الجامع للشرائط فيكون المقصود بقوله المتقدّم هو أن القاضي الذي يتراضى به الطرفان لا يحتاج إلى النصب وإنما الذي يحتاج إليه هو القاضي المنصوب الذي من صلاحياته أن يجبر الناس على تنفيذ حكمه بالقوة إذا تمكّن من ذلك .
 إذاً فعلى كلا التقديرين نستفيد جواز الترافع إلى رجل من أهل الاعتقاد بالولاية مع التراضي به إما لعدم كونه من أهل الجور وإما لعدم احتياجه إلى النصب .
 والرواية على الاحتمال الثاني لها دلالة واضحة على مشروعية قاضي التحكيم ونفوذ حكمه لأن السائل فيها يسأل عن مدى مشروعية التحاكم إلى قاضٍ غير منصوب حصل التراضي به فكأنه يسأل عن مدى قيام التراضي مقام النصب والإمام (عليه السلام) أجابه بأن مثل هذا لا يحتاج إلى نصب بل يكون قضاؤه مشروعاً وحكمه نافذاً بمجرّد التراضي وإنما الذي يحتاج إلى النصب هو القاضي الذي تُعطى له شرعاً صلاحية تنفيذ أحكامه بالقوة .. فإذاً دلالة الرواية على المطلوب [1] على هذا الاحتمال لا تتوقف مؤونة زائدة .
 وأما على الاحتمال الأول فإن دلالتها على ذلك تتوقّف على التمسّك بالإطلاق بمعنى أن المفهوم من جواب الإمام (عليه السلام) هو جواز الترافع إلى الرجل الذي تراضى به الخصمان مطلقاً أي وإن لم يكن منصوباً ولم يكن جامعاً للشرائط بل يكفي كونه من أهل الاعتقاد بالولاية مع التراضي به .. والإطلاق في الرواية ليس هو بذلك الوضوح بل يصعب إثباته فيها لأن الإمام (عليه السلام) - بناءً على هذا الاحتمال [2] - لم يكن في مقام بيان ماذا يُعتبر في هذا القاضي الذي يظهر من الرواية جواز الترافع إليه حتى يُتمسّك بإطلاق كلامه (عليه السلام) وسكوته عن اشتراط النصب لإثبات عدم اعتبار النصب في نفوذ حكمه ليكون قضاؤه مشروعاً وحكمه نافذاً ولو لم يكن منصوباً فتثبت بذلك مشروعية قاضي التحكيم وإنما هو في مقام نفي كون الترافع إليه ترافعاً إلى الطاغوت .
 هذا .. ومن المستبعد أن يكون ما هو المعروف والشائع والمرتكز في ذهن السائل من حرمة التحاكم إلى الطاغوت هو الذي جعله يشكّ بأن الترافع إلى رجل من أهل الاعتقاد بالولاية مع التراضي به هو من قبيل التحاكم إلى الطاغوت مما دعاه إلى السؤال عن ذلك لوضوح أن المورد ليس من هذا القبيل بالمعنى الذي ينطبع في الذهن عند سماع الآية المتضمّنة للنهي عن التحاكم إلى الطاغوت فإن الذهن لا ينتقل إلى أن الطاغوت الذي نهت الآية عن التحاكم إليه يمكن أن ينطبق على رجل من أهل الاعتقاد بالولاية مع التراضي به حكماً والذي يستبطن كما سيأتي توفّر الشروط به حتى مثل العدالة [3] لكي يكون هذا موجباً للشكّ وبالتالي موجباً للسؤال .
 وهذا بخلاف الحال مع الاحتمال الثاني فإنه ليس من المستبعد افتراض أن المرتكز في ذهنه أن القضاء هو من المناصب الإلهية التي تحتاج إلى النصب فيشكّ في إمكان قيام التراضي مقامه [4] فيسأل عن ذلك .
 ومع بُعد الاحتمال الأول وقرب الثاني فإن الرواية تكون دليلاً على مشروعية قضاء التحكيم وحينئذ تصل النوبة إلى البحث عن الشرائط المعتبرة في قاضي التحكيم التي يمكن استفادتها من هذه الرواية ويتمخّض البحث فيها عن استفادة اشتراط الذكورية لقول الراوي : (رجل) ، والإيمان لقوله : (منّا) ، والعدالة باعتبار استبعاد أن يحصل التراضي بشخص ظاهر الفسق .. مضافاً إلى استبعاد أن يكون الجواز المفهوم من كلام الإمام (عليه السلام) لمثل هذا التحاكم لغير من هو ظاهر الصلاح .
 وكذا يُمكن إثبات اعتبار سائر الشرائط الأخرى من قبيل الحرية وطهارة المولد - في ما لو بنينا عليها - وذلك ببيان أنه لا يمكن التمسّك بالإطلاق لنفي اعتبارها إذ لا إطلاق للرواية أصلاً لأنها ليست في مقام البيان من هذه الجهة [5] .. وعلى ذلك فكل ما يُشكّ في اعتباره من الشرائط لا سبيل إلى نفيه فيكون معتبراً حينئذ .
 نعم .. الشرط الوحيد الذي نقطع بعدم اعتباره في المقام هو الاجتهاد إذ لو اشترطناه لم يبق فارق بين المقام [6] والقاضي المنصوب مع أن الرواية ظاهرة في أن التراضي هو السبب في الحكم بمشروعية قضائه ونفوذ حكمه لا النصب .
 والحاصل أنه يمكن أن يُستفاد من هذه الرواية مشروعية قاضي التحكيم ونفوذ قضائه وأنه يُشترط فيه كل الشرائط المعتبرة في القاضي المنصوب ما عدا الاجتهاد .
 وتجدر الإشارة إلى أن عدم اشتراط الاجتهاد لا يعني عدم اشتراط العلم بالحكم إذ لا يمكن تصوّر أن من يقضي في واقعة لا يكون عالماً بحكمها فإنه لا بدّ في القاضي مطلقاً [7] أن يحكم بالحقّ والقسط وبما أنزل الله غاية الأمر أنه في القاضي المنصوب يكون ذلك عن اجتهاده وفي غيره يكون عن تقليد للمجتهد .
 هذا .. وقد ذُكر في كلماتهم ما يمكن أن يقال بدلالته على المدّعى من مشروعية قضاء التحكيم وهو ما رُوي عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) من أنه قال : " من حكم بين اثنين تراضيا به فلم يعدل فعليه لعنة الله " حيث يُفهم من هذا الحديث أنه إذا حكم بين اثنين تراضيا به وعدل فليس عليه لعنة الله فيُفهم منه نفوذ حكمه ومشروعية قضائه .
 وقد استدلّ بهذا النبوي جماعة من علمائنا (رض) منهم الشهيد في المسالك [8] والعلامة [9] وفخر المحققين [10] (قدهم) .. إلا أنه لا يمكن التعويل عليه لضعفه سنداً بالإرسال ولا بأس بجعله مؤيّداً لو تمّت دلالته على المطلوب .
 هذا تمام الكلام في أصل قضاء التحكيم .. ثم إن هناك أموراً لا بدّ من ذكرها في ذيل هذا البحث ترتبط بنفوذ حكم قاضي التحكيم وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى .


[1] أي جواز الترافع إلى رجل من أهل الاعتقاد بالولاية مع التراضي به ونفوذ حكمه وبالمحصّلة مشروعية قضاء التحكيم بالمعنى المطروح في محلّ الكلام .
[2] أي الاحتمال الأول من الاحتمالين المذكورين .
[3] دون شرط الاجتهاد وإلا لم يبق فارق بينه وبين القاضي المنصوب كما سيأتي بيانه منه (دامت بركاته) .
[4] أي مقام النصب .
[5] أي جهة بيان الشرائط المعتبرة في قاضي التحكيم وإنما هي في مقام بيان عدم احتياج من يتراضى به الخصمان إذا كان من أهل الاعتقاد بالولاية إلى النصب .
[6] أي قاضي التحكيم .
[7] أي سواء كان قاضياً منصوباً او قاضيَ تحكيمٍ .
[8] مسالك الأفهام مج13 ص332 .
[9] أقول : ما ذكره العلامة في المختلف نقله عن الخلاف (لاحظ المختلف للعلامة (قده) مج8 ص442 والخلاف للشيخ الطوسي (قده) مج6 ص242) .
[10] إيضاح الفوائد مج4 ص296 .