32/12/22


تحمیل
  (بحث يوم السبت 22 ذح 1432 ه 35)
 كان الكلام في جواز التحاكم إلى الطاغوت بل إلى كل فاقدٍ للشرائط المعتبرة في باب القضاء وقد تبيّن من البحث السابق أنه غير جائز تكليفاً [1] ووضعاً [2] ، وتقدّم أن هذا في خصوص حالة الاختيار .
 والكلام الآن يقع في حالة الاضطرار - والمقصود بها صورة عدم التمكّن من الرجوع إلى القاضي الجامع للشرائط إما لعدم وجوده أصلاً أو وجوده وعدم التمكّن من الوصول إليه أو عدم رضا الخصم بالتحاكم إلا إلى القاضي الفاقد للشرائط ، والجامع التعبيري لها هو عدم التمكّن من أخذ الحقّ إلا بالترافع إلى غير الواجد لمجموع الشرائط أو قل هو الاضطرار إلى الترافع إلى الفاقد للشرائط فهل يكون التحاكم إليه حينئذ جائزاً وهل يكون المال المأخوذ بحكمه حلالاً ؟
 نُسب إلى مشهور الفقهاء ذهابهم إلى الجواز حيث ذكروا أنه يجوز التحاكم إلى غير القاضي الجامع للشرائط حينما لا يتمكّن الشخص من استنقاذ حقه إلا بالترافع إليه ، والظاهر منهم قولهم بالجواز مطلقاً [3] فليس ثمة حرمة في نفس الترافع إليه كما أن المال المأخوذ بحكمه حلال .
 واستُدلّ على الجواز في هذه الحال [4] بدليلين :
 الأول : دعوى اختصاص أدلة المنع بحال الاختيار وعدم شمولها لحال الاضطرار وذكروا أن جملة من الروايات يُستظهر منها هذا الاختصاص ، ومنها روايتان لأبي بصير :
 الأولى : قوله (عليه السلام) :
 " أيُّما رجل كان بينه وبين أخ له مماراة في حق فدعاه إلى رجل من إخوانكم ليحكم بينه وبينه فأبى إلا أن يرافعه إلى هؤلاء كان بمنزلة الذين قال الله عز وجل : (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أُنزل إليك وما أُنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أُمروا أن يكفروا به) [5] " [6] .
 وقد رواها الشيخ الكليني (قده) عن محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين عن يزيد بن إسحاق عن هارون بن حمزة الغنوي عن حريز عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، وفي هذا السند مشكلة تكمن في يزيد بن إسحاق حيث لم تثبت وثاقته ، وكذلك رواها الشيخ الطوسي (قده) بسند لم يخل من هذه المشكلة ولكن الشيخ الصدوق (قده) رواها في الفقيه بإسناده عن حريز وطريقه إليه صحيح كما في المشيخة فتكون الرواية معتبرة سنداً بهذا الطريق دون سابقيه .
 ومن الواضح أن هذه الرواية مختصّة بصورة التمكّن من الترافع إلى غير قضاة الجور - المعبَّر عنها في محلّ الكلام بحالة الاختيار - لأن المفروض فيها أن أحد المتخاصمين دعا الآخر إلى رجل من إخوانه [7] ليقضي بينهما ولا تشمل حالة عدم التمكّن من الرجوع إلى غير هؤلاء - المعبَّر عنها في محلّ الكلام بحالة الاضطرار - .
 الرواية الثانية : عن أبي بصير :
 " قال : قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : قول الله عز وجل في كتابه : (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام) فقال : يا أبا بصير إن الله عز وجل قد علم أن في الأمة حكّاماً يجورون أما إنه لم يعن حكام أهل العدل ولكنه عنى حكّام أهل الجور ، يا أبا محمد إنه لو كان لك على رجل حق فدعوته إلى حكام أهل العدل فأبى عليك إلا أن يرافعك إلى حكام أهل الجور ليقضوا له لكان ممن حاكم إلى الطاغوت وهو قول الله عز وجل : (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما انزل إليك وما انزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت) " [8] .
 وقد رواها الشيخ الكليني (قده) عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن الحسين بن سعيد عن عبد الله بن بحر عن عبد الله بن مسكان عن أبي بصير وفي هذا السند مشكلة أيضاً تكمن في عبد الله بن بحر حيث لم تثبت وثاقته .
 وهذه الرواية واضحة الدلالة أيضاً على الاختصاص بحال التمكّن من الرجوع إلى غير الطاغوت لأنه قد فُرض فيها الدعوة إلى حكام أهل العدل حيث قال (عليه السلام) مخاطباً أبا بصير : (فدعوتَه إلى حكام أهل العدل) إلا أن الخصم أبى الرجوع إلا إلى غيرهم فحكم الإمام (عليه السلام) بكون التحاكم حراماً وجعل الرجوع إليهم كالرجوع إلى الطاغوت فتدل على المنع من التحاكم لكن في حالة الاختيار والتمكّن من الرجوع إلى حكّام أهل العدل وليست ناظرة إلى حالة الاضطرار وعدم التمكّن من الرجوع إلى حكّام أهل العدل .
 بل الكلام نفسه يقال في عمدة أدلة المقام أعني المقبولة والمعتبرة [9] لأن كلاًّ منهما نهت عن الرجوع إلى الطاغوت وأهل الجور والتحاكم إليهم في سياق الأمر بالرجوع إلى حكّام أهل العدل الواجدين للشرائط كما ورد في معتبرة أبي خديجة : (إياكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور ولكن انظروا إلى رجل يعلم شيئاً من قضايانا ..) وكذا الحال في المقبولة ، ومن الواضح أن هذا أمر يوجب الاختصاص بحالة الاختيار والتمكّن من الرجوع إلى الحاكم العادل وليس هناك إطلاق يشمل حالة الاضطرار وعدم التمكّن من الرجوع إلى الحاكم العادل .
 الدليل الثاني : بعد فرض التنزّل والتسليم بوجود الإطلاق في تلك الروايات فيقال حينئذ بحكومة أدلة نفي الحرج والضرر على أدلة المنع من التحاكم إلى الطاغوت كحكومتها على جميع الأدلة بتقريب أن منع الشخص من أن يأخذ حقّه فيه حرج أو ضرر عليه فتتكفّل أدلة نفي الحرج والضرر برفع هذا المنع وبالنتيجة نصل إلى الحكم بالجواز .
 هذا .. ويمكن أن يلاحظ على الدليل الأول بأن غاية ما يثبت به هو حرمة التحاكم إلى غير الواجد للشرائط في حال الاختيار ولا يثبت به جواز التحاكم إليه في حالة الاضطرار فإن غاية ما بُيّن في تلك الروايات هو اختصاص المنع بصورة الاختيار وهذا وحده غير كاف لينهض بالحكم بالجواز في الصورة الأخرى كما يروم المشهور كما أنه ليس لتلك الروايات مفهوم يمكن استفادته منها ليُتمسّك به في إثبات ذلك .
 هذا .. ولكن الإنصاف أنه ليس مقصود المشهور بسَوقهم لهذا الدليل هو إثبات الجواز في حال الاضطرار ليرد عليهم ما تقدّم بل مقصودهم منع إطلاق هذه الأدلة لحال الاضطرار بإثبات اختصاصها بحال الاختيار فيُفتقد الدليل المتكفّل لبيان حكم صورة الاضطرار فتصل النوبة حينئذ إلى التمسّك بالأصول المؤمّنة لإثبات الجواز لأن الكلام في الحكم التكليفي في حال الاضطرار وهو جواز التحاكم الذي يترتّب عليه حلية المال الذي يؤخذ به وعدم الجواز الذي يترتّب عليه حرمته فإذا ثبت أن دليل المنع لا يشمل صورة الاضطرار فلا دليل إذاً على الحرمة في هذه الصورة فيمكن التمسك بأصالة البراءة وأمثالها لإثبات الجواز والحلية .
 هذا هو مقصود المستدلّ بسَوقه لهذا الدليل وليس مقصوده الاستدلال على الجواز بالروايتين المذكورتين حتى يقال بأنْ ليس فيهما دلالة على الجواز وإنما هما تدلّان على الحرمة في حال الاختيار وغير متعرّضتين لحال الاضطرار .
 وبعبارة أخرى : أنه لا إشكال في أن الأصل الأولي في مسألة التحاكم إلى الطاغوت ومسألة حلية أكل المال - الذي هو حقّ لمدّعيه بحسب الفرض كما يُنبئ به تعبير الفقهاء عن صورة الاضطرار بأنها عبارة عن عدم التمكّن من استنقاذ الحقّ إلا بالترافع إلى الفاقد للشرائط هو الجواز فيهما وإنما نرفع اليد عن هذا الأصل بمقدار ما تدل عليه أدلة المنع وهذه الأدلة لا إطلاق فيها لتشمل حالة الاضطرار بل هي مختصة بصورة الاختيار فإذا كان دليل المنع غير شامل لحال الاضطرار فلا مانع من الرجوع حينئذ إلى الأصل الأولي لإثبات جواز التحاكم وحلية المال الذي يؤخذ بحكم هذا الحاكم .
 إن قيل : سلّمنا بعدم الإطلاق لهذه الروايات ولكن يُدّعى في المقام وجود دليل آخر يدل على حرمة التحاكم إلى الطاغوت وإلى أهل الجور بل إلى مطلق الفاقد للشرائط وهو يشمل بإطلاقه صورتي الاختيار والاضطرار ولو تمّ فلا يكون ما ذُكر [10] متّجهاً لقيام الدليل بحسب الفرض في حكم صورة الاضطرار فلا تصل النوبة حينئذ إلى التمسّك بالأصول المؤمّنة كأصالة البراءة وأمثالها ، وذلك الدليل [11] نصوص قرآنية يمكن أن يُستدلّ بها على الحرمة مطلقاً وقد ذُكر في المقام آيتان :
 الأولى : قوله تعالى : (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أُنزل إليك وما أُنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أُمروا أن يكفروا به) [12] .
 فهذه الآية الشريفة ظاهرة في المنع من التحاكم إلى الطاغوت باعتبار أن الامتناع من التحاكم إليه من لوازم الإيمان وهؤلاء الذين يدّعون الإيمان بما أُنزل إلى الرسول (صلى الله عليه وآله) وما أُنزل من قبله يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت والحال أنهم أُمروا أن يكفروا به فمقتضى الآية الشريفة عدم إمكان الجمع بين الإيمان والتحاكم إلى الطاغوت فيقال هنا بأن الآية الشريفة مطلقة ومقتضى إطلاقها هو المنع من التحاكم إلى الطاغوت باعتباره [13] من لوازم الإيمان مطلقاً [14] فلو سلّمنا باختصاص الروايات المتقدمة بحال الاختيار فهذه الآية الشريفة مطلقة تشمل الحالين وعليه فلا مجال للرجوع إلى الأصول المؤمّنة حينئذ .
 الآية الثانية : قوله تعالى : (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسّكم النار) [15] .
 بدعوى صدق الركون إلى الذين ظلموا على التحاكم إلى أهل الجور ولو كان لأجل استنقاذ الحقّ فتكون الآية الشريفة شاملة له بنهيها ومقتضى إطلاقها أنها تنهى عنه مطلقاً سواء كان مختاراً أو مضطرّاً .
 قلتُ : أما بالنسبة إلى هذه الآية فيلاحظ بشأن الاستدلال بها في المقام ملاحظتان :
 الأولى : عدم وضوح صدق عنوان الذين ظلموا في محلّ الكلام إذ ليس الكلام في خصوص قضاة الجور الذين يُعيّنهم السلطان الجائر وإنما هو أعمّ يشمل كل من يكون غير واجد لمجموع الشرائط المعتبرة في باب القضاء ولو كان بفقد واحد منها .
 وبعبارة أخرى : أن ظاهر هذه الآية الشريفة أن عنوان الذين ظلموا صادق على هؤلاء الذين نُهينا عن الركون إليهم بقطع النظر عن مسألة الترافع والتحاكم إليهم فليس ثبوت هذا العنوان لهم يتحقّق بالركون إليهم بل هو ثابت لهم في مرتبة سابقة [16] فحينئذ يكون هذا صادقاً على قضاة الجور لأنهم معيّنون من قبل السلطان الجائر فهم من الذين ظلموا بقطع النظر عن التحاكم إليهم إلا أن هذا العنوان غير صادق على من يُترافع إليه وقد فُرض فيه أنه واجد لجميع الشرائط المعتبرة ما عدا شرطاً واحداً كالحرية - مثلاً - لو قيل باعتبارها فالتمسّك بهذه الآية لإثبات الإطلاق في محلّ الكلام لا يخلو من إشكال .
 الملاحظة الثانية : أن صدق الركون على مجرد الترافع إلى شخص لاستنقاذ الحقّ منه ليس واضحاً أيضاً باعتبار أن الظاهر من هذا التعبير [17] هو الاعتماد والاستناد إلى قوة وسلطة وما شابه دون ما إذا استند إلى شخص يزاول القضاء وهو فاقد لبعض الشرائط بل صدق الركون غير واضح حتى في حال الترافع إلى قضاة الجور لاستنقاذ الحقّ منهم لاسيّما على قول بعض المحققين من أن الركون ليس هو مطلق الاعتماد على الشيء بل هو الاعتماد على الشيء مع الميل بالقلب والنفس إليه فإن المفروض في ما نحن فيه هو الحديث عن رجل مؤمن ملتزم يريد أن يستنقذ حقّه وخصمه يأبى إلا أن يتحاكم إلى السلطان الجائر فهو [18] يتحاكم إليه مضطراً من غير أن يكون لديه أيّ ميل قلبي أو هوى نفسي إليه .
 والحاصل أن هناك إشكالاً في صدق عنوان الذين ظلموا في محلّ الكلام وعدم وضوح في صدق الركون أيضاً .. ومن هنا فمن الصعوبة بمكان الالتزام بإطلاق الآية الشريفة لحالتي الاختيار والاضطرار .
 وأما ما يُلاحظ على الآية الأولى والدليل الثاني فسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى .


[1] بمعنى حرمة التحاكم وعدم جوازه في نفسه .
[2] بمعنى عدم حلّية المال المأخوذ بحكم الجائر وعدم جواز التصرّف فيه وإن كان الآخذ مستحقّاً له واقعاً .
[3] أي تكليفاً ووضعاً .
[4] أي حال الاضطرار .
[5] النساء / 60 .
[6] الفقيه مج3 ص4 ، وكذا في الكافي مج7 ص411 والتهذيب مج6 ص220 والوسائل مج27 ص12 الباب الأول من أبواب صفات القاضي الحديث الثاني ولكن بلفظ (إخوانه) فيها .
[7] والمقصود به أحد حكّام العدل بقرينة المقابلة مع (هؤلاء) الذين قًصد بهم حكّام الجور .
[8] الكافي مج7 ص411 ، والوسائل مج27 ص12 الباب الأول من أبواب صفات القاضي الحديث الثالث .
[9] يعني مقبولة ابن حنظلة ومعتبرة أبي خديجة اللتين تقدّم ذكرهما .
[10] أي من التمسّك بالأصول المؤمّنة كالبراءة .
[11] أي الذي يدل على المنع مطلقاً حتى في صورة الاضطرار .
[12] النساء / 60 .
[13] أي الامتناع من التحاكم إلى الطاغوت .
[14] أي في حال الاختيار وفي حال الاضطرار .
[15] هود / 113 .
[16] أي عن الترافع والتحاكم إليهم .
[17] أي الركون .
[18] أي هذا المؤمن الملتزم .