32/12/04


تحمیل
  (بحث يوم الثلاثاء 4 ذح 1432 ه 33)
 كان الكلام في القول الثاني من الأقوال في الحكم الوضعي لما يؤخذ بحكم الجائر عند الترافع إليه في حال الاختيار وهو التفصيل بين ما إذا علم كونه محقّاً واقعاً فيُحكَم بحلية ما يأخذه وما إذا لم يعلم كونه محقّاً فيُحكَم بالحرمة .
 وذكرنا أنه استُدل له بروايتين :
 إحداهما : موثّقة ابن فضّال التي جاء فيها :
 " سأله ما تفسير قوله تعالى : (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام) [1] قال : فكتب إليه بخطّه : الحكّامُ القضاةُ ، قال : ثم كتب تحته : هو أن يعلم الرجل أنه ظالم فيحكم له القاضي فهو غير معذور في أخذه ذلك الذي حكم له إذا كان قد علم أنه ظالم " [2] .
 وقد بيّنا تقريب الاستدلال بها في البحث السابق .. وقد لوحظ عليه :
 أولاً : بأن هذه الرواية - على تقدير الالتزام بظهورها وصلاحيتها للاستدلال في المقام - لا تُنتج التفصيل المذكور وذلك لأن الحلية فيها لا تختصّ بما إذا علم بكونه محقّاً واقعاً بل تشمل صورة الشك بذلك - أي في ما إذا لم يعلم أنه ظالم - في حين أن الحلية في التفصيل المذكور تختصّ بحالة العلم بكونه محقّاً .
 وبعبارة أخرى : إن صورة الشكّ في التفصيل المذكور كانت إلى جانب صورة العلم بكونه ظالماً في مقابل صورة العلم بكونه محقّاً وحُكم بالحرمة في الأُولَيَيْن والحلية في الأخيرة في حين أنها في الرواية جُعلت إلى جانب صورة العلم بكونه محقّاً في مقابل صورة العلم بكونه ظالماً وحُكم بالحلية في الأُولَيَيْن وبالحرمة في الأخيرة .
 وثانياً : بإمكان أن يقال إن الرواية أجنبية عن محلّ الكلام وليست ناظرة إلى ما نحن فيه من التحاكم إلى أهل الجور والطاغوت وأن ما يؤخذ بحكمهم في صورةٍ يكون حلالاً وفي أخرى يكون حراماً وإنما هي ناظرة إلى أمر آخر وهو أن ما يؤخذ بحكم القاضي مع العلم بعدم الاستحقاق يكون حراماً بقطع النظر عن كون الحاكم بذلك جائراً أو عادلاً وفاقداً لبعض الشرائط أو مستجمعاً لها فهي تشير إلى ما هو مقتضى القواعد من حرمة ما يؤخذ بحكم القاضي إذا كان الآخذ عالماً بعدم استحقاقه له [3] ، ويشهد لعدم كونها ناظرة إلى محلّ الكلام إطلاق لفظ القاضي وعدم تقييده بكونه جائراً ونحوه فالرواية أجنبية عمّا نحن فيه فلا تصلح لأن يُستدلّ بها في المقام .
 وقد يُعترض على ذلك بأن من الواضح أن المراد بالحكّام الذين فُسّروا في الرواية بالقضاة هم حكّام الجور لأنهم هم الذين يأخذون الرُّشا حيث نوّهت الآية الشريفة إلى ذلك بقوله تعالى : (وتُدلوا بها إلى الحكّام) والفعل فيها معطوف على ما تقدّمه من الفعل المنهيّ [4] فالمعنى هو النهي عن الإدلاء بالأموال إلى الحكّام أي النهي عن الرشوة والرشوةُ لا يأخذها إلا حكّام الجور وأما الحاكم العادل الجامع للشرائط فلا يقربها البتّة فتكون الآية الشريفة واضحة الاختصاص بحكّام الجور فتكون ناظرة إلى حرمة أخذ المال بحكم القاضي الجائر إذا كان الآخذ عالماً بعدم كونه مستحقّاً ، ومفهوم الشرطية أنه إذا لم يَعلم أنه ظالم فيجوز له الأخذ فتدلّ على التفصيل فتكون ناظرة إلى محلّ الكلام فكيف يُدّعى كونها أجنبية عنه ؟!
 ولكن يمكن الخدشة في هذا الاعتراض بأن يقال إن الآية الشريفة تتعرّض إلى أمرين : الأول ما جاء في صدرها من قوله تعالى : (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) والثاني ما جاء في ذيلها من قوله تعالى : (وتدلوا بها إلى الحكّام) ، وفقرة الاستدلال في الرواية أعني قوله (عليه السلام) : (هو أن يعلم الرجل أنه ظالم فيحكم له القاضي ..) - مرتبطة بصدرها لا بذيلها وإنما الذي له ارتباط بذيلها هو قوله (عليه السلام) : (الحكّام القضاة) فما ذكره الإمام (عليه السلام) بالعبارة المستدلّ بها كان تفسيراً لما جاء في صدر الآية وبياناً لمصداق من مصاديقه فكأنه قال إن من جملة أكل المال بالباطل هو أن يأخذ الرجل ما يأخذه بحكم القاضي وهو يعلم أنه ظالم فهذا سبب من الأسباب الباطلة لأكل المال فالإمام (عليه السلام) كان بصدد تفسير صدر الآية الشريفة ، وما ذكره بقوله : (الحكّام القضاة) كان أشبه بالجملة المعترضة بين المفسِّر والمفسَّر .
 ومن ذلك يظهر أن الرواية لا ارتباط لها بمحلّ الكلام لأنه لم يُفترض فيها أن القاضي كان حاكماً جائراً بل هي ناظرة إلى أمر آخر وهو تحريم ما يؤخَذ بحكم القاضي مطلقاً [5] إذا كان الآخذ عالماً أنه غير مستحقّ له وحينئذ يندفع الاعتراض المزبور فيتوجّه الإيراد المتقدم على الرواية في كونها أجنبية عن محلّ الكلام .
 ومن هنا يظهر أن الاستدلال بهذه الرواية على هذا القول [6] أدنى ما يقال فيه أنه ليس بذلك الوضوح .
 الرواية الثانية : صحيحة عبد الله بن سنان وهذه الرواية يرويها المشايخ الثلاثة [7] بأسانيد معتبرة :
 محمد بن يعقوب عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن الحسن بن محبوب عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) : " قال : أيّما مؤمن قدّم مؤمناً في خصومة إلى قاضٍ أو سلطان جائر فقضى عليه [8] بغير حكم الله فقد شَرِكَه [9] في الاثم " [10] .
 وتقريب الاستدلال بها على التفصيل المذكور دعوى كون الرواية ظاهرة في اختصاص الإثم بما إذا حكم القاضي بغير حكم الله ويترتب على الإثم عدم جواز الأخذ - أي الحرمة الوضعية - ، ومقتضى مفهوم الاختصاص نفي الإثم إذا حكم بحكم الله كما إذا كان المدّعي محقّاً واقعاً وحكم القاضي له بما ادّعاه فليس كل ما يصدر من الحاكم الجائر يكون مخالفاً لحكم الله .
 إذاً فالرواية تفصّل بين ما إذا حكم القاضي بحكم الله بأن كان المدّعي محقّاً واقعاً والقاضي حكم له فيُحكَم هنا بنفي الإثم وجواز أخذ المال فتثبت الحلية التكليفية والوضعية وما إذا حكم بغير حكم الله بأن كان المدّعي غير محقّ في الواقع وحكم له فيُحكَم هنا بثبوت الإثم وعدم جواز أخذ المال فتثبت الحرمة التكليفية والوضعية .
 إذاً فالتفصيل يدور بين حالتين : كون المدّعي محقّاً وكونه غير محقّ .
 وأُجيب كما عن بعض علمائنا المحققين - أن المراد بالقضاء بغير حكم الله في الرواية ليس ما يقابل القضاء بحكم الله حتى يقال بأن الجائر لا يمتنع منه أن يحكم بحكم الله وذلك في ما إذا كان المدّعي محقّاً واقعاً بل المقصود بالحكم بغير حكم الله هو مطلق ما يصدر من الحاكم الجائر أو الفاقد للشرائط ولو لم يكن جائراً فكل حكم يصدر منه ولو كان موافقاً للواقع هو حكم بغير حكم الله لأن القاضي إذا لم يكن مستجمعاً للشرائط يكون حينئذ فاقداً لأهلية القضاء ويكون قضاؤه دائماً حكماً بغير حكم الله فيكون مفاد الرواية نفس مفاد المقبولة - بناءً على الاستدلال بها على القول الأول وهو الحرمة مطلقاً - حيث ورد فيها قوله (عليه السلام) : (وإن كان حقّه ثابتاً) .
 وهذا الجواب إن تمّ استظهاره من الرواية فهو وإلا فلا أقلّ من كونه احتمالاً معتداً به يمنع من الاستدلال بها على التفصيل المذكور .
 ومن هنا يظهر أن هذا القول لم يتم عليه دليل .
 القول الثالث : التفصيل بين الدين والعين فيقال إن كان المُدّعى الذي حكم به الحاكم الفاقد للشرائط جائراً كان أو لم يكن ديناً فيحرم أخذه وأما إذا كان عيناً فيحلّ أخذه .
 ويبدو أن الأصل في هذا التفصيل ليس هو المحقق السبزواري في كفايته كما ما ذُكر وإنما هو المحقق الأردبيلي [11] في مجمع فائدته حيث ذكر أن في مقبولة ابن حنظلة فوائد جليلة ومطالب مهمة وساق جملة مما استفاده منها ثم قال: " وتحريم ما أخذ بحكمهم في الدين ظاهر دون العين " ثم قال: " فتأمل " [12] ، والظاهر أن المحقق السبزواري أخذه منه بعده حيث يقول : " ويستفاد من الخبرين [13] عدم جواز أخذ شيء بحكمهم وإن كان له حقّاً ، وهو في الدين ظاهر ، وفي العين لا يخلو عن إشكال لكن مقتضى الخبرين التعميم [14] " [15] وذُكِر مثلُ هذا في كلام غيره أيضاً .
 وفسّر الشيخ صاحب الجواهر (قده) الفرق بين الدين والعين بقوله : " وكأن فرقه بين الدين والعين باحتياج الأول إلى تراضٍ في التشخيص والفرض جَبْر المديون بحكمهم بخلاف العين " [16] .
 أي لكون الدين كليّاً في الذمة فيحتاج تطبيقه خارجاً على فرده إلى تشخيص من قبل المدين ورضا منه والحال أن المدين ليس راضياً بهذا التشخيص في ماله لكونه مُجبراً عليه بحكم الحاكم وكيف يُحتمل رضاه وهو منكر لاشتغال ذمته بالدين أصلاً لكونه هو المدّعى عليه .. وعليه فيحرم أخذ المال من قبل المدّعي ، وهذا بخلاف العين لفرض كونها ملكاً للمدّعي ولا تخرج عن ملكه بالتداعي إلى الجائر فله أن ينتزعها من يد المُدّعى عليه مطلقاً سواء حكم الحاكم الجائر له أو عليه .


[1] البقرة / 188 .
[2] التهذيب مج6 ص220 ، والوسائل مج27 ص27 الباب الأول من أبواب صفات القاضي الحديث التاسع .
[3] نظير ما ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قوله : " إنما اقضي بينكم بالبيّنات والأيمان وبعضكم ألحن بحجته من بعض فأيّما رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً فإنما قطعت له به قطعة من النار " الكافي مج7 ص414 ، والأيمان جمع اليمين وهو القسم .
[4] أي (ولا تأكلوا) .
[5] أي : جائراً كان او عادلاً .
[6] أي التفصيل بين كون الآخذ محقّاً وعدم كونه كذلك .
[7] الكليني والطوسي والصدوق (قدهم) .
[8] أي على المؤمن المقدَّم من قبل المؤمن الأول إلى السلطان الجائر .
[9] أي أن كلاًّ من القاضي والمؤمن الاول كان آثماً .
[10] الوسائل مج27 ص11 الباب الأول من أبواب صفات القاضي الحديث الأول ، والكافي مج7 ص411 ، والتهذيب مج6 ص219 ، والفقيه مج3 ص4 .
[11] المتقدم زماناً عليه حيث توفّي (قده) سنة 993 هـ في حين توفّي المحقق السبزواري (قده) سنة 1090 هـ .
[12] مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان مج12 ص10 .
[13] أي مقبولة ابن حنظلة ومعتبرة أبي خديجة .
[14] أي تعميم الحرمة للدين والعين .
[15] كفاية الأحكام مج2 ص663 .
[16] جواهر الكلام مج40 ص36 .