جلسة 48
المفطرات
وأُجيب عن ذلك بأن رواية المروزي[1] ناظرة إلى حالة العمد، فتدل على مفطّرية الغبار في حالة التعمّد، بينما الموثقة[2] مطلقة فنقيّدها برواية المروزي، وتكون النتيجة آنذاك أنّ الغبار مفطّر حالة العمد، وليس بمفطّر في غير الحالة المذكورة، فهنا إذاً دعويان:
الاُولى: أنّ رواية المروزي مختصة بحالة العمد.
الثانية: أنّ موثقة عمر بن سعيد مطلقة.
أما بالنسبة إلى الدعوى الاُولى فتوجيهها أنّ رواية المروزي قد ذكرت قيد التعمّد حيث قالت هكذا: «إذا تمضمض الصائم في شهر رمضان، أو استنشق متعمّداً، أو شم رائحة غليظة، أو كنس بيتاً»، ومن البعيد أنّ قيد «متعمداً» يرجع إلى خصوص التمضمض، والاستنشاق فقط، بل يفهم أنّ المقصود تحقّق العمد في جميع الموارد الأربعة التي تعرّضت لها الرواية، هذا مضافاً إلى أنّه ـ عليه السلام ـ قد أوجب الكفارة وقال: فعليه صوم شهرين متتابعين، ومن الواضح أنّ الكفارة تختص بحالة العمد، إذاً هاتان قرينتان على كون رواية المروزي مختصة بحالة العمد.
وأما بالنسبة إلى الدعوى الثانية فيمكن توجيهها بأنّ قيد التعمّد لم يؤخذ فيها حتى يكون ذلك موجباً لاختصاصها بالحالة المذكورة، إذ ورد فيها هكذا: وسألته عن الصائم يدخل الغبار في حلقه؟ قال: «لا بأس»، وهي واضحة في الإطلاق كحالة العمد وغيرها، ومعه فتُقيّد بقرينة رواية المروزي بحالة غير العمد، نعم السؤال الأول في موثقة عمرو بن سعيد قد يكون مختصاً بحالة العمد، حيث ورد فيها هكذا: سألته عن الصائم يتدخّن بعود أو بغير ذلك فتدخل الدخنة في حلقه؟ فقال: «جائز، لا بأس به»، فأنّ هناك قرينتين على اختصاص السؤال المذكور بحالة العمد:
القرينة الاُولى: أنّ التعبير بكلمة (يتدخّن) واضح في حالة التعمّد والالتفات.
القرينة الثانية: جواب الإمام ـ عليه السلام ـ بقوله: «جائز، لا بأس به»، فأنّه لا يصح الحكم بالجواز إلاّ على الفعل الاختياري العمدي، وأما غير العمد فحيث لا اختيار فيه فلا معنى لأن يُحكم عليه بأنّه جائز أو ليس بجائز.
ولهاتين القرينتين يمكن القول بأنّ السؤال الأول في الموثقة خاص بحالة العمد، ولكن كونه خاصاً بذلك لا يستوجب أن يكون السؤال الثاني كذلك، إذ هما سؤالان متمايزان ومختلفان، واختصاص النظر في أحدهما إلى حالة العمد لا يصلح لأن يكون قرينة على اختصاص الثاني بذلك. هذا حاصل ما يمكن به توجيه الإيراد الثالث.
وفيه: أنّ كلتا الدعويين قابلتان للمناقشة:
أما الاُولى فلأنّ قيد «متعمداً» وإن ذُكر في رواية المروزي ولكنه لم يذكر في آخر الرواية، بل ذُكر بعد ذكر التمضمض والاستنشاق، وهذا إن لم نقل بكونه أدلّ على العكس، بمعنى أنّ المنظور في الأخيرين هو الأعم وإلاّ لذُكر قيد التعمّد في الأخير، فلا أقل من كون الرواية مجملة بلحاظ الأخيرين من هذه الناحية، لا أنّه يتولد فيها ظهور في أنّ قيد التعمّد ملحوظ بالنسبة إلى الأخيرين أيضاً.
وأما الثانية فيردّها أنّ الدليل على اختصاص الكفارة بحالة العمد ليس عقلياً حتى لا يقبل التخصيص، بل سوف يأتي إن شاء الله ـ تعالى ـ أنّه لا يوجد دليل واضح يدل على ذلك وإنما نحاول استفادته من مجموعة اُمور يضم بعضها إلى بعض، وعليه فحتى لو قلنا باختصاص الكفارة بحالة العمد فبالإمكان أن نستثني الأمرين الأخيرين ـ شم الرائحة والكنس ـ ونقول بثبوت الكفارة فيهما مطلقاً، فإنّه لا محذور في ذلك بعد فرض إطلاق الرواية من هذه الناحية. هذا كله بالنسبة إلى الدعوى الاُولى.
وأما بالنسبة إلى الدعوى الثانية ـ وهي أنّ الموثقة مطلقة فتُخصَّص بحالة السهو وغير العمد ـ فباعتبار أنّ حمل الموثقة على خصوص حالة السهو وغير العمد إنما يكون وجيهاً لو فُرض أنّ الإمام ابتداءً قال: لا بأس بأن يدخل الغبار في حلق الصائم، فيقال: إنّ مقصود الإمام نفي البأس في حالة السهو بقرينة رواية المروزي، ولكن المفروض أنّ الإمام لم يقل ذلك ابتداءً، بل السائل سأل بقوله: وسألته عن الصائم يدخل الغبار في حلقه، وعادةً يكون النظر في مثل هذا السؤال إلى حالة العمد والاختيار بمعنى أنّها القدر المتيقن في السؤال، فلو جاء أحدنا وسأل قائلاً: هل يجوز للصائم أن يدخل الغبار في حلقه؟ فما هو المقصود من سؤاله؟ إنّه جزماً لا يريد حالة السهو بالخصوص، بل الأعم من ذلك، ولا يسأل عن حالة السهو بخصوصها إلاّ إذا فُرض أنّ حالة العمد والاختيار كانت واضحة لديه فيسأل عن حالة السهو بخصوصها.
والحال أنّ الأمر ليس كذلك، فإنّ حكم الغبار ليس بواضح حتى في زماننا فكيف بذلك الزمان؟ اللهم إلاّ أن يقال: إنّ تعبير (يدخل الغبار في حلقه) ظاهر عرفاً في الدخول غير الاختياري؛ لأنّه قال (يَدْخُلُ) ولم يقل (يُدخِلْ)، ولكن الجواب عن ذلك هو أنّ التعبير بيدخل يستعمل للأعم كما استعمل كذلك في السؤال الأول، حيث قال السائل: سألته عن الصائم يتدخّن بعود أو بغير ذلك فتدخل الدخنة في حلقه، فعبّر بفقرة (تدخل الدخنة) وهو يريد من ذلك الدخول الاختياري، ولا أقل الأعم بقرينة (يتدخّن).
إذاً، فقرة (يدخل الغبار) في حلقه لا يمكن دعوى اختصاصها بحالة غير الاختيار، هذا لو قرأت (يَدْخُلُ الغبار)، ولكن من المحتمل أنها تُقرأ (يُدخِلْ الغبار في حلقه)، وذلك بأن يمشي الصائم في الأماكن التي فيها غبار، وحيث إنّ قراءة يدخل مجملة من هذه الناحية فلا يمكن جعل ذلك قرينة على إرادة حالة السهو بالخصوص.
ومن خلال هذا كله اتضح أنّ رواية المروزي لا يمكن الاعتماد عليها لإثبات مفطّرية الغبار؛ لأنّها ضعيفة سنداً بالمروزي نفسه، مضافاً إلى الإيراد الثاني والثالث من الإيرادات الثلاثة المتقدمة.
ومما يؤيد نفي المفطّرية الحصر المذكور في صحيحة محمد بن مسلم[3] المتقدمة فأنّه يساعد على أنّ الغبار ليس بمفطّر.
______________________
[1] الوسائل 10: 69 ـ 70 ، أبواب ما يمسك عنه الصائم، ب22، ح1.
[2] الوسائل 10: 70 ، أبواب ما يمسك عنه الصائم، ب22، ح2.
[3] الوسائل 10: 31، أبواب ما يمسك عنه الصائم...، ب1،ح1.