جلسة 32
المفطرات
(الثالث): الجماع قبلاً ودبراً، فاعلاً ومفعولاً به، حياً وميتاً، حتّى البهيمة على الأحوط وجوباً، ولو قصد الجماع وشكّ في الدخول أو بلوغ مقدار الحشفة بطل صومه، ولكن لم تجب الكفارة عليه، ولا يبطل الصوم إذا قصد التفخيذ ـ مثلاً ـ فدخل في أحد الفرجين من غير قصد [1] .
لا إشكال في مفطّرية الجماع في الجملة وإن وقع كلام في بعض التفاصيل كما سوف نشير إليه إن شاء الله تعالى.
ويمكن استفادة مفطّرية الجماع في الجملة من الكتاب الكريم قال تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ...)[2]، بناءً على أنّ الغاية (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) لا تعود إلى خصوص الأخير ـ أعني قوله تعالى (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) ـ بل ترجع إلى الأوّل (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ) أيضاً، فأنّه بناءً على هذا سوف يسّتفاد أنّه من بعد طلوع الفجر يحرم أمران: الأكل والشرب، والجماع، لا خصوص الأكل والشرب .
والبحث يقع فيما هو المقصود من الرفث في الآية المباركة؟
فسّره بعض اللغويين بالفحش من القول عند الجماع فلاحظ (مجمع البحرين) [3] ، وفُسّر أيضاً بالكناية عن الجماع كما في (مفردات الراغب) [4] .
والظاهر أنّ المناسب تفسيره بالجماع أو بالكناية عن الجماع لصحيحة علي بن جعفر قال: سألت أخي موسى ـ عليه السلام ـ عن الرفث والفسوق والجدال ما هو؟ وما على من فعله؟ فقال: «الرفث: جماع النساء، والفسوق: الكذب والمفاخرة، والجدال: قول الرجل: لا والله وبلى والله...» الحديث [6].
وبقطع النظر عن الصحيحة المذكورة يمكن أن يقال: إنّه لا يحتمل حليّة الكلام الفاحش عند الجماع قبل الفجر وحرمته بعد الفجر بما هو كلام فحش، بل المناسب إرادة تحليل وتحريم نفس الجماع وإلاّ فحرمة الألفاظ عند الجماع دون نفس الجماع أمر غير محتمل، فعلى كلا التفسّيرين سوف نستفيد حكم الجماع وأنّه حلال قبل الفجر وحرام بعده، هذا كله من حيث الكتاب الكريم .
وأمّا السنة الشريفة فقد وردت فيها روايات كثيرة نستعرض بعضها ونحاول التدقيق فيها لنتعرّف على حكم التفاصيل التي سوف تأتي.
ومن تلك الروايات صحيحة محمّد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر ـ عليه السلام ـ يقول: «لا يضر الصائم ما صنع إذا اجتنب ثلاث خصال: الطعام والشراب، والنساء، والارتماس في الماء» [7].
وصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج قال: سألت أبا عبد الله ـ عليه السلام ـ عن الرجل يعبث بأهله في شهر رمضان حتّى يمني؟ قال: «عليه من الكفارة مثل ما على الذي يجامع»[8] .
وصحيحة علي بن جعفر في كتابه عن أخيه موسى بن جعفر ـ عليه السلام ـ قال: سألته عن رجل نكح امرأته وهو صائم في رمضان ما عليه؟ قال: «عليه القضاء وعتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستّين مسكيناً، فإن لم يجد فليستغفر الله» [9] .
وموثقة سماعة قال: سألته عن رجل أتى أهله في شهر رمضان متعمّداً؟ قال: «عليه عتق رقبة، أو إطعام ستّين مسكيناً، أو صوم شهرين متتابعين، وقضاء ذلك اليوم، ومن أين له مثل ذلك اليوم» [10] .
وصحيحة أبي سعيد القمّاط، أنّه سئل أبو عبد الله ـ عليه السلام ـ عمّن أجنب في أوّل الليل في شهر رمضان فنام حتّى أصبح؟ قال: «لا شيء عليه، وذلك أنّ جنابته كانت وقت حلال»[11] ، فإنّها دلت على أنّ الجنابة متى ما كانت في وقت حرام، أي بعد الفجر فيوجد عليه شيء، وبالتالي يستفاد التحريم.
هذه بعض الروايات في المسألة، وبمضمونها روايات اُخرى.
والقدر المتيقن منها هو الجماع في القبل مع الإنزال، بل ولو من دون إنزال؛ لأنّ أكثر العناوين المذكورة في هذه الروايات لا تختص بحالة الإنزال فالكلام إذاً يقع في غير ذلك، وذلك كما يلي:
النقطة الأوّلى: إذا جامع الصائم زوجته في دبرها فإن كان ذلك مع الإنزال فلا إشكال في مفطّريته؛ لأنّ المستفاد من الصحيحة الثانية أن الإمناء بنفسه يوجب المفطّرية كالجماع، حيث سأل ابن الحجاج عن الرجل يعبث بأهله في شهر رمضان حتّى يمني، وأجاب ـ عليه السلام ـ: «بأنّ عليه من الكفارة مثل ما على الذي يجامع زوجته في شهر رمضان»، وعليه فلا كلام في هذه الحالة، وإنّما الكلام فيما لو تحقّق ذلك من دون إنزال.
والمعروف بين الأصحاب كون ذلك مفطّراً، كما جاء في (مدارك الأحكام)[12] و(الحدائق الناضرة) [13] و (جواهر الكلام) [14] . نعم، قد يستفاد من الشيخ في (المبسوط) [15] التردّد في المسألة فأنّه بعد أن حكم بوجوب الكفارة في الجماع مطلقاً قال: (روي أنّ الوطء في الدبر لا يوجب بطلان الصوم إلاّ إذا أنزل معه وأنّ المفعول به لا ينتقض صومه بحال، والأحوط الأوّل).
وممن صرّح بالتردّد والإشكال في المسألة صاحب (الحدائق) رضوان الله عليه [16] حيث أدعى عدم الدليل على ذلك سوى اتفاق الأصحاب.
والمناسب ما عليه مشهور الأصحاب، فأنّ الوارد في موثقة سماعة: سألته عن رجل أتى أهله في شهر رمضان متعمّداً...، ومن الواضح أن عنوان إتيان الأهل صادق في الحالة المذكورة، والإمام ـ عليه السلام ـ لم يستفصل وأجاب: «عليه عتق رقبة، أو إطعام ستّين مسكيناً، أو صوم شهرين متتابعين، وقضاء ذلك اليوم...»، وهذا يدل على أنّه كلما صدق العنوان المذكور ثبت الحكم المذكور، بل ربّما يستفاد ذلك من بقية الروايات أيضاً.
ولا مجال للمناقشة إلاّ أن يُدّعى الانصراف إلى الغالب، فصحيح أنّ عنوان إتيان الأهل يصدق على ما ذكر ولكنه منصرف إلى الغالب وهو الإتيان في القبل، وممن ذهب إلى هذه المقالة صاحب (الحدائق) [17] حيث ذكر إنّ الجماع وإن صدق على الوطء في الدبر إلاّ أنّ الفرد الشائع المتكثر المأمور به في الأخبار هو الجماع في القبل بخلاف غيره فأنّه نادر الوقوع، والإطلاق ينصرف للأفراد الشائعة المتكثرة.
وكلامه ظاهر في أن الغلبة الوجودية توجب الانصراف، وهو كما ترى، فأنّه قد ثبت في علم الاُصول أنّها لا توجب ذلك وإلاّ يلزم سقوط كثير من المطلقات عن الاعتبار، والصحيح أنّ الغلبة الوجودية توجب المنع من اختصاص المطلق بالنادر لا المنع من الشمول له.
وقد يستفاد من عبارة صاحب (الحدائق) شيء أخر، وهو أنّه في الأخبار كثُر استعمال الوطء في خصوص القبل، والاستعمال في خصوص الدبر نادر، وبناءً على هذا يكون ـ قدّس سرّه ـ ناظراً إلى غلبة الاستعمال لا غلبة الوجود.
ولكن هذا مضافاً لبُعده عن عبارته غير نافع، فإن الوارد في موثقة سماعة عنوان «أتى أهله»، وكثرة استعمال الوطء بلحاظ خصوص القبل ـ لو سَلّمت ـ لا تنفع إلاّ بلحاظ خصوص كلمة الوطء دون كلمة الإتيان . وعليه فالمناسب الحكم بالمفطّرية.
نعم، جاء في بعض الروايات عن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ ما نصه: «الرجل يأتي المرأة في دبرها وهي صائمة، قال: لا ينقض صومها وليس عليها غُسل» [18] ودلالتها وإن كانت واضحة إلاّ أنّها ضعيفة السند إذ رواها بعض الكوفيين مرفوعاً إلى أبي عبد الله عليه السلام، وقد رواها الشيخ بسند ينتهي إلى علي بن الحكم عن رجل عن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ قال: «إذا أتى الرجل المرأة في الدبر وهي صائمة، لم ينقض صومها وليس عليها غُسل» [19] . وعليه فالرواية المذكورة لا تضر بعد ضعف سندها.
هذا مضافاً إلى أنّها ناظرة إلى المرأة وتنفي المفطّرية في حقّها، وليست ناظرة إلى الرجل الفاعل، وكلامنا الآن خاص بالرجل، وأمّا التعميم للمرأة فيأتي الحديث عنه في النقطة الثانية.
___________________________
[1] منهاج الصالحين 1: 163.
[2] البقرة: 187.
[3] مجمع البحرين 2: 255 رفث.
[4] مفردات الراغب: 329.
[5] المصباح المنير: 232.
[6] الوسائل 12: 465، أبواب تروك الإحرام، ب 32، ح4.
[7] الوسائل 10: 31، أبواب ما يمسك عنه الصائم، ب 1، ح1.
[8] الوسائل 10: 39، أبواب ما يمسك عنه الصائم، ب 4، ح1.
[9] الوسائل 10: 48، أبواب ما يمسك عنه الصائم، ب 8، ح9.
[10] الوسائل 10: 49، أبواب ما يمسك عنه الصائم، ب 8، ح13.
[11] الوسائل 10: 57، أبواب ما يمسك عنه الصائم، ب 3، ح1.
[12] مدارك الأحكام 6: 44.
[13] الحدائق الناضرة 13: 108.
[14] جواهر الكلام 16: 219.
[15] المبسوط 1: 270.
[16] الحدائق الناضرة 13: 109.
[17] الحدائق الناضرة 13: 109.
[18] الوسائل 2: 20، أبواب الجنابة، ب 12، ح 3.
[19] التهذيب 4 : 279 / 976.