39/05/18
تحمیل
الأستاذ الشيخ باقر الايرواني
بحث الفقه
39/05/18
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع:- مسألة ( 46 ) حرمة الاحتكار - المكاسب المحرّمة.
الفرع الثالث:- هل كراهة التلقي تعم حالة ما إذا لم تكن المعاملة مع الركب بيعاً وشراءً وإنما كانت صلحاً أو اجارة أو نحو ذلك ، والسؤال هو:- إنَّ بالقدر المتيقن من كراهة التلقّي هو ما إذا تلقينا الركب واشترينا أو بعنا منه أما إذا فرض أنا آجرنا عليهم سيارة أو هم آجروها علينا أو ما شاكل ذلك فهل هذا يكون مكروهاً أيضاً أو لا ؟
قد يقال بالتعميم تمسّكاً إما بإطلاق النهي عن التلقي ، أو بإطلاق النهي عن التجارة ، فإنَّ الوارد في لسان تلك الروايات هو التلقّي للتجارة ، فقيد التجارة مذكور في روايات التلقّي ، أو نتمسّك بإطلاق التعليل بأن يقال إنَّ التعليل يصلح لإثبات عمومية الكراهة ، فإذن إذا أردنا أن نوجه التعميم فهو يكون بأحد هذه الوجوه الثلاثة.
والكل كما ترى:-
أما الوجه الأوّل[1] فالاشكال فيه واضح:- باعتبار أنَّ التلقي بما هو تلقٍّ ليس من المكروهات ولا يحتمل أنَّ فيه محذوراً ، فلو ذهبنا إلى الركب بمجرّد الترحيب بهم فهذا تلقٍ ولكن هل يحتمل أحدٌ كراهته ؟ كلا ، وإنما التلقّي الخاص لأجل التجارة البيع والشراء وغير ذلك ، فإذن التمسّك بإطلاق التلقّي لا معنى له.
وأما الثاني[2] فيمكن الاشكال فيه:- باعتبار أنَّه يمكن أن يقال إنَّ التجارة تصدق على البيع والشراء فـمعنى ( تاجر فلان ) يعني باع واشترى ، أما إذا كان مجرّد يؤجره سيارته فهل يقال عنه ( تاجر فلان ) ؟ إنَّ هذا ليس بواضح ، فالتجارة يشكل اطلاقها واستعمالها الحقيقي على غير البيع والشراء ، وعلى هذا الأساس لا يمكن التمسّك بإطلاق النهي عن التلقّي للتجارة لإثبات العمومية لغير البيع والشراء فإنَّ التجارة عرفاً تطلق على البيع والشراء وأما ما زاد فليس من الواضح الشمول له.
ولأجل هذا يمكن أن يقال في باب الاجارة:- حيث إنه يوجد كلام وهو أنه كيف نوجّه شرعية الاجارة في جميع الموارد ؟ يعني أنَّ الشرعية في الجملة شيء مسلّم فإنَّ سيرة المتشرعة جارية على ذلك وقد دلت عليه صحيحة أبي ولّاد الواردة في مسألة البغل ، ولكن نريد إطلاقاً حتى نتمسّك به لا ثبات شرعية الاجارة في جميع الموارد فهل يوجد اطلاق من هذا القبيل أو لا ؟ إنَّ تحصيل الاطلاق مشكل ، ولكن قد يقال نتمسّك بقوله تعالى ﴿ ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراضٍ منكم ﴾ يعني إذا كانت تجارة فلا بأس بها ، فهنا يمكن أن يقال: إنَّ عنوان التجارة لا يجزم بصدقة على الاجارة فيشكل التمسّك بالآية الكريمة ، نعم الطريق الأحسن كما بيّنا هو أن نتمسّك بإطلاق ﴿ أوفوا بالعقود ﴾ فإنَّ هذا عقد فنتمسّك بإطلاق الآية الكريمة ، هذه نكتة يلزم الالتفات إليها.
وأما الثالث[3] :- فهذا شيء جيد ولا بأس به ، ولكن يرده عليه ما أشرنا إليه سابقاً: وهو أنَّ الرواية ذكرته بُعَيد فقرة ( ولا يتوكل حاضر لباد ) ، لأنا ذكرنا أنَّ صاحب الوسائل(قده) جزّأ في الرواية ولم يذكرها بكاملها ، وإذا رجعنا إلى الكافي نجده يذكر كلا الجزأين ، وهي:- ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله:- لا يتلقى أحدكم تجارة خارجاً من المصر ولا يبيع حاضر لباد والمسلمون يرزق الله بعضهم من بعض )[4] ، وقد قلنا يحتمل أنَّ هذا التعليل يعود إلى الفقرة الأخيرة - وهي ( ولا يبيع حاضر لباد ) - لا أنه يرجع إلى فقرة ( لا يتلقّى ) ونحن كلامنا في هذه الفقرة.
وعلى هذا الأساس يكون اثبات عمومية كراهة التلقّي لغير باب البيع والشراء محل إشكال ، بل يقتصر على هذا المقدار.
مسألة ( 46 ):- يحرم الاحتكار وهو حبس السلعة والامتناع من بيعها لانتظار زيادة القيمة مع حاجة المسلمين إليها وعدم وجود الباذل لها . والظاهر اختصاص الحكم بالحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن والزيت لا غير وإن كان الأحوط استحباباً إلحاق الملح بل كل ما يحتاج إليه عامة المسلمين من الملابس والمساكن والمراكب وغيرها . ويجبر المحتكر على البيع في الاحتكار المحرّم من دون أن يعيّن له السعر ، نعم إذا كان السعر الذي اختاره مجحفاً بالعامة أجبر على الأقل منه.
.......................................................................................
تشتمل المسألة على أربعة أحكام:-
الأوّل:- يحرم الاحتكار طباً لزيادة القيمة.
الثاني:- يشترط في الحرمة حاجة المسلمين لتلك السلعة مع فرض عدم وجود باذل لها.
الثالث:- يحرم الاحتكار في ستة أشياء الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن والزيت وإن كان الأحوط استحباباً إلحاق الملح بل كلّ ما يحتاج إليه المسلمون.
الرابع:- إذا كان الاحتكار محرّماً ففي صورة حرمته يمنع منه المحتكر لكن من دون أن تعيّن له قيمة ، نعم إذا أجحف فحينئذٍ يجبر على الأقل.
أما الحكم الأوّل:- فالمسألة محل خلاف بين الأعلام ، فهناك قائل معتدّ به بالتحريم ، وقائل معتدّ به الكراهة ، وقد نقل صاحب الجواهر(قده)[5] تلك الأقوال ، وقبله السيد العاملي(قده)[6] ، وذكر صاحب الجواهر(قده) بعد ذلك عبارة وهو اختار الكراهة وفاقاً لصاحب الشرائع(قده) ، وذكر من جملة ما ذكر أنَّ التعابير الواردة في روايات الاحتكار هي تعابير تتلاءم مع الكراهة فإنَّ التعابير التي كان يستعملها الأئمة عليهم السلام في باب المكروهات تشابهها التعابير الواردة في باب الاحتكار ، ومن كان له ذوق وأنس بكلمات أهل البيت عليهم السلام يعرف ذلك ، قال ما نصّه:- ( إلى غير ذلك من الأمارات[7] في النصوص المزبورة[8] بحيث يمكن دعوى حصول القطع للفقيه الممارس بذلك[9] كما لا يخفى على من رزقه الله تعالى فهم كلامهم ورمزهم ).
وقبل أن ندخل في ذكر الروايات لابأس بالاشارة إلى أنه يوجد موردان ينبغي أن نتفق الكلمة على حرمة الاحتكار فيهما ، وإذا أردنا أن نستدل ونتمسّك بالروايات ونفتش الروايات فنحن نفتش فيها في غير هذين الموردين ، فإنَّ ذهين الموردين ينبغي ثبوت حرمهما بلا إشكال وهما:-
المورد الأوّل:- فيما إذا كان الاحتكار يخاف منه على حياة المسلمين أو بالأحرى كل نفس محترمة - فيخاف من الموت أو الضرر الكبير - فهذه الحالة يمكن أن يقال بأنَّ الحرمة فيها ينبغي أن تكون واضحة ، فإنَّ الحفاظ على حياة المسلمين لا إشكال في لزومه ، وكذلك عدم إدخال الضرر الكبير عليهم لا إشكال في لزومه ، وهذا لا يحتاج إلى رواية بل نستثنيه من البداية ، وأنا عبَّرتُ بالخوف ولم أعبِّر بالعلم والجزم واليقين وذلك باعتبار أنَّ الخوف في باب الضرر يمكن أن يقال بحجيته ، فإنَّ سيرة العقلاء جرت على التجنّب بنحو اللزوم عمّا يخاف فيه الضرر[10] فإنَّ هذا يتجنب عنه العقلاء بنحو اللزوم ، فإذن الخوف حجة في باب الضرر البليغ ، وحيث لم يردع عنه شرعاً فذلك يدل على الامضاء.
فإذن توجد سيرة عقلائية غير مردوع عنها وإنما هي ممضاة في هذا المجال فيثبت بذلك أنَّ الخوف حجة في باب الضرر البليغ كالموت أو ما هو قريب منه كالشلل وغيره ، فإذن هذه الحالة ينبغي أن نستثنيها عن محل الكلام.
المورد الثاني:- ما إذا فرض أنَّ الاحتكار يوجب اختلال النظام الاقتصادي لبلد المسلمين ، فمثلاً نحن في العراق إذا فرض أنَّ أهل السوق يحتكرون البضاعة وبسبب ذلك سوف يتدهور النظام الاقتصادي ولعله يسقط النظام بسبب ذلك وسوف تعم الفوضى في البلاد ، فإذا فرض هكذا فأيضاً هذا من الموارد التي لا تجوز ، لأنَّ المحافظة على النظام والاستقرار وعدم الفوضى شيء واجب ويريده الاسلام بلا إشكال ، أما إذا صارت فوضى فهذا لا يريده الاسلام جزماً ، وليس فقط في بلاد المسلمين بل لعلّه يوسّع شخص إلى غير بلاد المسلمين لكن القدر المتيقن هو بلاد المسلمين.
إذن إذا فرضن أنَّ الاحتكار يوجب اختلال النظام الاقتصادي وبالتالي تدهور وضع البلد وسقوطه فهذا يمكن أن يقال بحرمته ويستثنى عن محل الكلام.
أما الآن فنستعرض الروايات لنلاحظ هل تدل على ذلك أو لا ، وهي:-
الرواية الأولى:- محمد بن يعقوب عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد[11] عن محمد بن سنان[12] عن حذيفة بن منصور[13] عن أبي عبد الله عليه السلام قال:- ( نفد [ فقد ] الطعام على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله فأتاه المسلمون فقالوا: يا رسول الله قد نفد الطعام ولم يبق منه شيء إلا عند فلان فمُرْهُ ببيعه ، قال: فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا فلان إنَّ المسلمين ذكروا أنَّ الطعام قد نفد إلا شيء عندك فأخرجه وبِعْهُ كيف شئت ولا تحبسه )[14] .