37/02/05
تحمیل
الموضـوع:- مسألة ( 17 ) حرمة الغناء - المكاسب المحرمة -كتاب التجارة.
ثم إنه ينبغي الالتفات إلى أنّ الشك في تحدد الغناء على نحوين ، فتارة يكون شكاً بنحو الشبهة المفهومية وأخرى بنحو الشبهة الموضوعيّة.
فإن كان بنحو الشبهة المفهوميّة[1] :- فالمناسب في مثل ذلك ليس هو الرجوع إلى عموم العام أو إطلاق الدليل المطلق[2] وإنما المناسب هو التمسّك بالقدر المتيقّن - يعني يثبت الحكم في الدائرة الضيّقة - يعني لا تثبت الحرمة إلّا إلى ما اشتمل على الطرب الفعلي لو كنّا نشك في اعتبار الطرب الفعلي والزائد على ذلك لا دليل على حرمته إذ لا يمكن التمسك بعموم العام ، فنتمسّك بالبراءة ، وهذا كلامٌ سيّالٌ لا يختصّ بمورد.
وأمّا إذا كان الشك بنحو الشبهة الموضوعية:- فأيضاً لا يجوز التمسّك بعموم العام لأنّه من التمسّك بالعام في الشبهة الموضوعيّة.
أما لماذا لا يجوز التمسّك بالعام في الشبهة الموضوعيّة ؟
إنّه لنفس النكتة لعدم جواز التمسّك بالعام في الشبهة المفهوميّة ولكن مع تتغيرٍ في بعض الألفاظ ، فهنا نقول:- إنّ الدليل قد دلّ على حرمة الغناء وهذا لا نعلم أنّه غناء لا لأجل شكّنا في المفهوم بل المفهوم معلومٌ فإنّ الغناء هو الصوت المطرب شأناً - لنفترض أنّنا حددناه هكذا - ولكن نحن لا ندري أنّ هذا يطرب شأنا ً أو لا ، فنشكّ في كونه غناءً فلا يمكن التمسّك بعموم العام فإنّ الحكم لا ثبت موضوعه.
إذن النتيجة من خلال هذا المطلب:- هي أنّه متى ما شككنا في الغناء مفهوماً سعةً وضيقاً أو شككنا مصداقاً لا يجوز التمسّك بعموم العام ، بل المرجع هو البراءة.
ثم إنه قد يقول قائل:- نحن ذكرنا فيما سبق أنّ المرجع في تحديد مفهوم الغناء وأنّ هذا غناء أو لا هم أصحاب الفنّ الخاص ، ولكن هؤلاء فسقة فكيف ترجع إلى الفاسق ، بل عليك أن ترجع إلى العادل فإنّ خبر العادل هو الحجّة ؟!!
والجواب:- إنّ خبر الثقة أيضاً حجّة لا خصوص خبر العادل ، وهذا الشخص قد يرتكب بعض المحرّمات كالغناء ولكنه لا يكذب ، فنحن قد نستغيب أو غير ذلك ولكن لا نكذب وهذا الشخص أيضاً كذلك ، فهو وإن كان فاسقاً من حيث مزاولته الغناء إلّا أننا إذا أحرزنا أنّه لا يكذب وهو ثقة فيما يخبر به ، فحينئذٍ يدخل تحت عنوان خبر الثقة.
مضافاً إلى أنّه بحساب الاحتمال يثبت أنّه لا يكذب علينا ، لا يوجد لديه داعٍ إلى الكذب ، فلعله يحصل لدينا آنذاك وثوقٌ واطمئنانٌ بقطع النظر عن مسألة أنّ الحجّة هو خبر الثقة ، فإذن لا إشكال من هذه الناحية.
وقد يقول قائل:- ما معنى الرجوع إليهم في تحديد معنى الغناء والحال أّن جميع المقامات المتداولة عندهم هي مقامات غنائية ، ومعه يكون الرجوع إليهم لا معنى له ؟
والجواب:-
أوّلاً :- من قال أنّ كلّ المقامات غنائية فإنّ هذا أوّل الكلام ، بل هي متعدّدة والبعض منها هم يزاولونها وهي غنائية ، ولكن بعضها الآخر ليست كذلك ، فمن يقرا القرآن مثلاً فصوته أيضاً يدخل في بعض المقامات ، ومن يقرأ المرثيّة صوته أيضاً يدخل تحت واحدٍ من المقامات ، ولكن ليس كلّ المقامات غنائية ، فنحن نرجع إليهم ونسألهم عن كون هذا من المقامات الغنائية عندهم أو لا.
وعلى تقدير التسليم بأنّ كلّ المقامات التي عندهم غنائية - وفرضنا أنّها كانت ستة مقامات - ولكن نحن نرجع إليهم في أنّه هل هذا من المقامات الستّة أو هو شيءٌ خارج عنها.
إذن حتى لو قلنا بأنّ المقامات بأجمعها عندهم غنائية ولكن مع ذلك يكون الرجوع إليهم وجيهٌ لمعرفة أنّ هذا من تلك المقامات أو هو شيءٌ خارجٌ عنها.
وقد يقول قائل:- إنّه ذكر أنّ المرجع في تحديد الغناء هو العرف الخاصّ ، وعلى هذا الأساس لو كنّا نشك أنّ هذا غناء أو ليس بغناء - كبعض الأصوات في التلفاز أو الراديو - فهل يلزم أن نسأل أهل الفن أو لا ؟
والجواب:- لو أردنا أن نحدّد المفهوم فمن المناسب الرجوع إليهم لأنّه أعرف بالمفهوم ، ولكن نحن اتخذنا طريقاً أسهل من دون سؤالهم وهو أنّ ما كان مشابهاً لألحانهم فهو غناء ، ولكن إذا شككنا في موردٍ أنه مشابهٌ أو ليس بمشابه - والشبهة فيه تصير موضوعية - فلا حاجة آنذاك إلى الرجوع إليهم لأنّ الشبهة الموضوعيّة يجوز إجراء البراءة فيها بلا حاجة إلى فحصٍ.
نعم قلنا إنّه في تحديد المفهوم يرجع إليهم ، ونحن أيضأً أحلنا إليهم وقلنا إنّه ما كان مشابهاً إلى ألحانهم فهو غناء ، أمّا الشك في الشبهات المفهومية - كما هو العادة - فهو ليس شغل العامي بل هو شغل الفقيه ، والفقيه أيضاً يرُجِع إلى ما شابه ألحانهم ، وعلى هذا الأساس المرجع هو البراءة.
السؤال الثاني:- هل يعتبر في الغناء بطلان المادّة ؟
والمقصود واضحٌ ، يعني أنّ الكلام الذي يتغنّى به ربما يكون كلام حقٍّ كالمراثي وقراءة القرآن والأدعية ، فإذا فرضنا أنّ اللحن كان مشابهاً لألحانهم الغنائية فهل نقول هو ليس بغناء لأنّ المادّة ليست باطلة وشرط صدق الغناء حصول أمرين الأوّل كون الكيفية مشابهة لكيفياتهم ولألحانهم والثاني كون المادّة باطلة أيضاً ؟
يظهر من صاحب الجواهر(قده) من خلال عبارته المتقدّمة أنّ بطلان المادّة لا مدخلية له ، فإنه علّل عدم الرجوع إلى العرف العام بأنّ ما يكون في القرآن والمراثي لا يعدّه العرف العام غناءً لو كان في نفس ذلك اللحن ، أمّا لو كان في غير ذلك فهم يعدّونه غناءً.
إنّ هذا يظهر منه أنّ المدار عنده في صدق الغناء على اللحن والكيفية ، أمّا بطلان المادّة فلا مدخلية له.
أقول:- ما أفاده شيءٌ وجيهٌ لقضاء الوجدان بذلك - يعني اننا نشعر بالوجدان أن حيثية الغناء قائمة باللحن وليس في المادّة .
ونِعمَ ما استدلّ به الشيخ الأعظم(قده) في المكاسب[3] حيث ذكر أنّ ( البعض من طلبة زماننا منع من صدق الغناء في المراثي ) ، ثم علّق عليه وقال بأنّ ( العرف على خلاف ذلك إذ لا ريب أنّ من سمع من بعيدٍ صوتاً مشتملاً على الإطراب المقتضي للرقص أو ضرب آلات اللهو لا يتأمّل في إطلاق الغناء عليه إلى أن يعلم مواد الألفاظ ).
وهذا منبهٌ لا بأس به.
هذا ولكن يمكن أن ينسب إلى السيد الخوئي(قده) ثلاثة آراء في هذه المسألة:-
الأوّل[4] :- إنّه يعتبر في صدق الغناء مطلبان ، الأوّل بطلان المادّة ، والثاني أن يكون الصوت مشتملاً على الترجيع والطرب.
والدليل على ذلك بعض النصوص ، مثل رواية محمد بن مسلم فإنّ الإمام عليه السلام حينما سئل عن قوله تعالى ﴿ ومن الناس من يشتري لهو الحديث ﴾ فإنّه فسّره بالغناء[5] وهذا معناه أنّ الغناء مأخوذاً فيه أن يكون الحديث فيه باطلاً - يعني كون المادة لهوية باطلة -.
وهكذا رواية عبد الأعلى فإنّه يوجد فيها استشهاد بالآية الكريم ، فهذه الروايات التي تشتمل على الاستشهاد بهذه الآيات الكريمة تدلّ على أنّ بطلان المادّة معتبر.
ثم أشكل على نفسه وقال:- إنّه على هذا الأساس لا يجوز لنا قراءة القرآن بكيفيّة غنائية[6] لأنّه توجد رواية وهي رواية عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال:- ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله:- اقرأوا القرآن بألحان العرب وأصواتها وإياكم ولحون أهل الفسق وأهل الكبائر فإنّه سيجيئ بعدي أقوامٌ يرجّعون القرآن ترجيع الغناء والنوح والرهبانية )[7] ، إنّ هذا الحديث يدلّ على حرمة ترجيع القرآن ترجيع الغناء ، يعني أنّ قراءته بالكيفية الغنائية شيءٌ محرّم.
وقد سبقه إلى ذلك الحاج ميرزا علي الايرواني(قده)[8] .