37/02/09
تحمیل
الموضـوع:- مسألة ( 17 ) حرمة الغناء - المكاسب المحرمة -كتاب التجارة.
وفيه:- إنّ ما أفاده(قده) في آخر كلامه[1] - والذي هو الجزء المهم - ليس له سندٌ علميّ ، إذ قال إنَّ ذاك لا يمكن الالتزام بحرمته لأنّه مخالفٌ للسيرة القطعية ، ونحن أضفنا الضرورة - وغير ذلك - على عدم حرمة اللهو بعرضه العريض وإلا يلزم القول بحرمة أمورٍ كثيرة وهذا لا يلتزم به أحد ، وهذا المقدار الذي أفاده جيّدٌ.
وإنما الإشكال في القسم الثاني من كلامه حيث قال:- ( وأمّا ما نشأ عن البطر فالأقوى تحريمه ).
ونحن نسأل ونقول:- لماذا نحكم بحرمة هذا ؟ وما هو السند العلمي ؟ يعني هل هناك ملازمة وأنه إذا لم يكن اللهو بعرضه العريض حراماً فما نشأ من البطر هو محرمّ إذن ؟!! إنّه لا توجد ملازمة ، وهذه مجرّد دعوى تحتاج إلى سندٍ علمي.
فالإشكال عليه واضح.
والمناسب علميّاً أن يقال:- لو كانت لدينا رواية تامّة الدلالة والسند وكانت تقول ( اللهو حرام ) ففي مثل هذه الحالة ماذا نفعل ؟ المفروض أنّ هذا الإطلاق بعرضه العريض لا يمكن أن نلتزم به بالضرورة وإلا يلزم أن تحرم الكثير من أعمالنا التي تنشأ من دون داعٍ عقلائي وهذا لا يمكن أن يلتزم به فقيه ، فالمرتبة العليا لا يمكن الالتزام بها.
وأمّا المرتبة المتوسطة فليس لها تعيّن حتى نقول إنّه بعد تعذّر المرتبة الأولى العالية ننتقل إلى المرتبة الثانية المتوسطة.
وما هي المرتبة الثانية المتوسطة ؟
هي التي يمكن تحديدها لا أنك تحدّدها كيفما اتفق فإنّ هذا باطل ، وإنما الكلام هي أنها حيث تكون قابلة لأن تكون هي المرادة بالنصّ ويحتمل إطلاق النصّ عليها لوضوحها ، ولكن لا توجد عندنا هذه المرتبة.
إذن مادام ليس عندنا هذه المرتبة المتوسطة فالمتعيّن المصير إلى القدر المتيقّن وهو عبارة عن الغناء مثلاً بدرجته العالية الذي يكون مطرباً ويلهي عن الله عزّ وجلّ ويوجب الانقطاع إلى الدنيا.
وهذا شيءٌ وجيهٌ ، وهو كلامٌ قائمٌ على أساسٍ علمي.
وأقول شيئاً آخر:- وهو أنّه من المناسب أن يبحث في علم الأصول - في مبحث العام والخاص أو الإطلاق[2] - أنّه لو جاءنا عامٌّ وكانت المرتبة العليا متعذّرة فحينئذٍ نصير إلى ماذا ؟ كما لو فرض أنّه جاء حكمٌ يقول ( أكرم أهل النجف ) ولكن نحن نعلم من الخارج أنّ بعضهم لا يمكن الحكم بوجوب إكرامه فحينئذٍ هذه المرتبة العالية لا يمكن إرادتها فماذا نصنع ؟ هل نصير إلى المرتبة المتوسطة وهي الشخص الذي لم يعلن بفسقه حتى ولو كان فاسقاً واقعاً أو نصير إلى القدر المتيقّن وهو من كان لا يعرف منه فسقٌ سواء عرف منه الصلاح أو لا ، فماذا نصنع ؟
وهنا ربّ قائل يقول:- إنّه حيث تعذرت المرتبة العالية فنصير إلى المرتبة التي بعدها وهي ما إذا لم يكن معلناً بفسقه وفجوره ، وهذه مرتبة متوسطة متعيّنة يمكن أن تكون هي المقصودة بهذا العموم أو الإطلاق ، وهذا شيءٌ لا بأس به.
وواضح أنّنا لو رجعنا إلى كلماتهم - ليس في علم الأصول لأنها ليس مبحوثة فيه - فعلّنا نفهم من بعضٍ أنّه يصير مرّةً إلى هذا وأخرى يصير إلى ذاك - أي مرّة يتمسّك بالمرتبة المتوسطة ويقول لا داعي للتمسّك بالقدر المتيقّن فإنّه لو تعذّرت المرتبة العالية نأخذ بالقدر الممكن ، ومرّة يقال نقتصر على القدر المتيقن .
ولكن هذا لو فرض أنّه كانت هناك مرتبة متوسطة يمكن أن تكون هي المقصودة بالنصّ كما مثّلنا وهي كلّ شخص لم يعلن بفسقه وفجوره والذي خرج يقيناً هو من أعلن ذلك والزائد لا نعلم به ، فحينئذٍ نأخذ بالعموم بلحاظ هذه المرتبة المتوسطة ، وهذا شيءٌ له وجاهة ولكن في مثل هذه الحالة التي يوجد للشيء فيها مرتبة متوسطة متعيّنة.
أمّا لو فرض أنّ ما بعد المرتبة العليا ليس له تعيّنٌ كما في موردنا فإنّ النصّ فيه دلّ على أنّ كلّ لهوٍ حرام - لو افترضنا وجود هذا - فلا توجد مرتبة متوسطة متعيّنة حتى نأخذ بها ، فيتعيّن هنا أن نتّفق جميعاً على أنّه يلزم المصير إلى الأخذ بالقدر المتيقّن.
إن قلت:- إنّ للأصوليين بحثوا هذه المسألة حيث ذكروا أنّه لو خصّص العام وخرج منه مقدارٌ فهل يكون حجّةً في الباقي ؟
قلت:- هذا لو فرض أنّه بعدما قيل ( أكرم النجفيين ) جاء مخصّصٌ لفظي وقال ( المعلن بفسقة لا تكرمه ) ، فهنا نعم يكون حجّة في الباقي ، وهو وجيهٌ ، وهو شيءٌ عرفيٌّ لأنّ نفس إخراج هذا المقدار بالمخصّص لا يبعد أن يوجب أن نفهم عرفاً أنّ الذي يجب إكرامه هو الباقي ، ولكن محلّ كلامنا لا يوجد فيه مخصّص لفظي وإنما نحن نعرف من الخارج أنّه لا يمكن أن يكون الإطلاق هو المقصود ، فلعلّه بعد عدم إرادة المتكلّم للمرتبة العالية ما المرجّح للمرتبة الوسطى ؟!!
فإذن هذا كلام وذاك كلامٌ ثانٍ ولا ينبغي أن نقول إنّ هذه المسألة مبحوثة في علم الأصول.
والذي أريد أن أقوله:- هو إنّ هذا يتمّ فيما إذا فرض أنّ المرتبة الوسطى متعيّنة دون ما إذا لم تكن متعيّنة ، وفي محلّ كلامنا ليست المرتبة الوسطى متعيّنة فينبغي الاقتصار على القدر المتيقن وهو ما ألهى عن ذكر الله عزّ وجلّ.
ولكن نقول للشيخ الأعظم(قده):- نحن سلّمنا بأنّ كلّ ما ألهى عن ذكر الله هو المحرّم - يعني الموجب للطرب بتلك الدرجة العالية - ولكن لا يلزم من ذلك أن يكون التصفيق ليس بحرام فإنّ هذا لا ربط له ، خصوصاً إذا كان التصفيق في المناسبات الطيّبة وكان الهدف منها هدف سليماً !! فلا نتمكّن أن نخرج بهذه النتيجة وهي أنّ الرقص والتصفيق والضرب على الطشت يكون محرّماً رغم أنّنا سلّمنا أنّنا نقتصر على القدر المتيقّن - وهو كلّ ما أوجب التناسي عن ذكر الله تعالى والاشتغال عنه بتمام معنى الكلمة -.
إذن اتضح أنّه لا يمكن المصير إلى ما ذكره الشيخ الأعظم(قده).
ثم إنّ الشيخ الأعظم(قده) تمسّك بجملةٍ من الروايات ولو رجعنا إليها فيمكن أن نقول:- إنّ دلالتها ليست واضحة:-
أمّا النصّ الاوّل:- وهو رواية تحف العقول اليت تقول:- ( ما جاء منه الفساد محضاً فهو حرام ) ، فأيّ شيء يجيء منه الفساد محضاً ؟ نعم سلّمنا أن المطرب بدرجته العالية هو فسادٌ محض ، أمّا الأمثلة التي ذكرتها - في المواليد - فأيّ موجبٍ لحرمتها ؟!! ، فإذن لابد وأن نفصّل حتى في عمليّة الرقص وفي سائر الأمور كما أوضحنا لا أن نتعدى إلى كلّ لهوٍ كما أراد أو المرتبة المتوسّطة.
وأمّا ما ذكر في رواية الأعمش:- والتي ذكرت من جملة الكبائر ( الاشتغال بالملاهي التي تصدّ عن ذكر الله وضرب الأوتار ) ، فنحن نقول:- ليس كلّ رقصٍ أو تصفيقٍ - أي كلّ لهوٍ - يدخل حتى المرتبة المتوسطة منه في الصدّ عن ذكر الله عزّ وجلّ ، إنما المرتبة العالية والتي قلنا هي التي توجب الطرب بالدرجة العالية فهذه تصدّ عن ذكر الله.
وهكذا الرواية الثالثة التي تقول:- ( كلّ ما ألهى عن ذكر الله فهو الميسر ) ، فالذي يلهي عن ذكر الله عزّ وجلّ كما قلنا هو ما يوجب الطرب بدرجته العالية دون ذلك.
وأمّا رواية الصيد:- فهي أجنبيّة عن المقام بالكلّية لأنّها تدلّ على أنّ من خرج للصيد يتمّ صلاته ، أمّا أنّ هذا محرّمٌ للّهو فهذا ليس موجوداً في النصّ ، بل الفقهاء أرادوا أن يقولوا لماذا يتمّ في صلاته ؟ وقد علّل بعضهم بأنّ سفره سفر لهويٌّ ، وهذه صغرى قد جاءوا بها ، ثم جاءوا بكبرى ، وألا فالنصّ لم يعلّل بهذا الشكل ، فاستفادة حرمة اللهو منها شيءٌ صعب.
ومن خلال كلّ هذا اتضح أنّ اللهو بمرتبته العالية ليس بمحرّمٍ لأجل الضرورة على عدم حرمته ، وهكذا المرتبة المتوسطة لا يمكن الحكم بحرمتها لعدم تعيّنها ، والمرتبة المتيقنة لا بأس بحرمتها وهي ما أوجبت الطرب بالدرجة العالية فإنّها مصداقٌ حقيقيٌّ للتناسي والإلتهاء عن ذكر الله عزّ وجلّ.
وواضح أنّ أغلب هذه الروايات ضعيف السند ، ولكن بعد ضعف الدلالة لا معنى لضمّ بعضٍ إلى بعض.