36/12/22
تحمیل
الموضوع: الأصول العمليّة / قاعدة الميسور.
في الدرس السابق نقلنا عن المحقق النائيني(قدس سره) كما ورد في فوائد الأصول أنه يرى بأنّ قاعدة الميسور تجري حتى على تقدير وجود إطلاق في دليل الجزئية، صرّح بأنّ قاعدة الميسور تجري سواء كان هناك إطلاق، أو لم يكن هناك إطلاق، وهذا يُفهم منه أنّه يرى أنّ قاعدة الميسور إمّا مقدمة على إطلاق دليل الجزئية، أو أنه أصلاً لا تعارض بينهما، لكنه يصرّح بأنه أساساً لا تعارض بينهما؛ ولذا هو يرى عدم وجود تعارض بين الدليلين، وعُللّ ذلك في كلامه بأنّ ما يثبت بإطلاق دليل الجزئية هو ثبوت الجزئية حتى في حال التعذّر، وصحيح أنّ مقتضى ثبوت الجزئية حتى في حال التعذّر هو سقوط الوجوب السابق ونفيه، لكنّ نفي الوجوب السابق المستفاد من إطلاق دليل الجزئية لا ينافي ثبوت وجوبٍ جديد على الباقي بملاكٍ جديد، هو يقول أنّ الوجوب السابق ينتفي بالتعذّر؛ لأنّ الجزء جزءٌ حتى في حال التعذر، ولازمه سقوط الوجوب السابق المتعلّق بالمركب. يقول: هذا لا ينافي ثبوت وجوبٍ جديد يتعلق بالباقي من الأجزاء بملاكٍ جديد، فإذا دلّ دليلٌ على وجوبٍ جديد يتعلّق بالباقي، هذا لا يكون منافياً لإطلاق دليل الجزئية، ذاك ينفي وجوب، والدليل الآخر يثبت وجوباً آخر ولا يثبت نفس الوجوب السابق حتى يقع التعارض والتنافي بين الدليلين.
يُلاحظ على هذا الكلام: أنّه قد يكون تامّاً كبروياً، بمعنى أنه إذا فرضنا وجود دليلٍ يدل على وجوب جديدٍ بملاكٍ جديدٍ يتعلق بالباقي؛ حينئذٍ لا يكون منافياً لإطلاق دليل الجزئية الدال على سقوط الوجوب السابق المتعلق بالمركب، لكنّ الكلام في صغراه. نحن لا نتكلّم عن قضية فرضية، وإنما نتكلّم عن قاعدة الميسور، هذه القاعدة هل هي منافية لإطلاق دليل الجزئية، أو لا ؟ هذا محل كلامنا. هل يُستفاد من قاعدة الميسور إثبات وجوبٍ جديدٍ للباقي بملاكٍ جديد حتى نقول أنّ قاعدة الميسور لا تنافي إطلاق دليل الجزئية؛ لأنّ إطلاق دليل الجزئية ينفي الوجوب السابق المتعلق بالمركب وقاعدة الميسور تثبت وجوباً جديداً يتعلق بالباقي بملاك جديد. هل يُستفاد ذلك من قاعدة الميسور، أو أنها ناظرة إلى الوجوب السابق ؟ أي أنها تدلّ على بقاء الوجوب السابق وعدم سقوطه، هي تتحدث عن الوجوب السابق، وتقول إنه لا يسقط. إذن: هي ليست ناظرة إلى وجوب جديد يتعلق بالباقي، وإنما تقول أن الوجوب السابق لا يسقط، بينما إطلاق دليل الجزئية يقول أن الوجوب السابق يسقط، فكيف لا يكون بينهما تنافٍ ؟! القاعدة وردت بلسان الميسور لا يسقط بالمعسور، بعنوان(لا يسقط)، عدم السقوط هذا معناه عدم سقوط الحكم الذي كان ثابتاً سابقاً، وبقاء الحكم الذي كان ثابتاً سابقاً. إذن: مفاد قاعدة الميسور هو بقاء الحكم السابق، بينما إطلاق دليل الجزئية ــــــــ بحسب الفرض ـــــــــ يقتضي نفي الحكم السابق وسقوطه، فيحصل بينهما تنافٍ، غاية الأمر أنّ الحكم بالبقاء وعدم سقوط الحكم السابق، قلنا أنه مبني على ضربٍ من المسامحة، وإلا الرواية تقول(لا يسقط) فهي ناظرة إلى الحكم السابق ودالة على بقائه وعدم سقوطه بضربٍ من المسامحة على ما تقدم، وهذا ينافي إطلاق دليل الجزئية الذي يقتضي سقوط الوجوب السابق ونفيه، فيقع بينهما التنافي.
خلاصة الاعتراض: قاعدة الميسور يُستفاد منها وجوب الإتيان بالباقي بلا إشكال، وهذا هو مفادها، لكن الكلام في أنها هل تدلّ على أنّ هذا وجوب جديد بملاكٍ جديدٍ، أو أنها تدلّ على بقاء الوجوب السابق وعدم سقوطه. الاعتراض يقول: أنّ مفاد القاعدة هو بقاء الوجوب السابق وعدم سقوطه، فتكون منافية لإطلاق دليل الجزئية.
هذا الاعتراض قد يكون واضحاً عندما يكون مستند القاعدة هو حديث(الميسور لا يسقط بالمعسور) وسرّه هو أنّه عُبّر عن ذلك بعدم السقوط، فيرِد هذا الاعتراض؛ لأنّ القاعدة هي تقول(لا يسقط)، فهي تشير إلى الحكم الثابت للمركب سابقاً، تقول أنّ هذا الحكم لا يسقط بتعذر بعض الأجزاء، وبذلك يحصل التنافي بين القاعدة وبين إطلاق دليل الجزئية.
وأما إذا كان مستند القاعدة هو الحديث الثالث(ما لا يدرك كلّه لا يُترك كلّه)، هذا هل فيه إشارة إلى الوجوب السابق ؟ وهل فيه إشارة إلى بقائه وعدم سقوطه حتى يقال بأنه يكون منافياً لإطلاق دليل الجزئية، أو ليس فيه إشارة إلى ذلك ؟ وإنما هو حكم بعدم جواز الترك الذي عبّرنا عنه بوجوب الإتيان بالباقي، في مثل هذا الحديث ليس هناك إشارة إلى الوجوب السابق وعدم سقوطه حتى يقال بأنّ هذا ينافي لما دلّ على سقوط ذلك الوجوب ونفيه، الذي هو عبارة عن إطلاق دليل الجزئية، ليس في الحديث إشارة إلى هذا، هو يقول الشيء الذي لا تدركه كله يجب عليك الإتيان بباقيه، ولم يعبّر بالبقاء وبعدم السقوط حتى يكون إشارة إلى وجوبٍ سابق، يقول: هذا يجب عليك الإتيان بالباقي بعد التعذر، ليس فيه إشارة إلى الوجوب السابق حتى يقال بأنّ هذا يكون منافياً لإطلاق دليل الجزئية، هو يقول وجوب جديد ثابت للباقي بملاكٍ جديدٍ، وبهذا يصح كلام المحقق النائيني(قدس سره) من أنه لا تنافي بين الدليلين. هذا الاعتراض له وجهٌ عندما يكون مستند قاعدة الميسور هو الرواية التي تقول(الميسور لا يسقط بالمعسور)، لكن عندما نستند إلى الرواية الثالثة، فهذا الكلام لا يكون واضحاً؛ بل أكثر من هذا، قد يقال: أنّ عدم التنافي ثابت حتى إذا كان المستند هو الحديث الثاني(الميسور لا يسقط بالمعسور)، حتى إذا كان المستند هو حديث (الميسور لا يسقط بالمعسور) هذه الرواية أيضاً ليست بصدد إبقاء الحكم السابق حقيقة وواقعاً، ليست بصدد بيان عدم سقوط الحكم السابق واقعاً وحقيقةً؛ لأننا قلنا أنّ الحكم بالبقاء وبعدم السقوط فيه شيء من المسامحة وفيه عناية، وإلا في الواقع والحقيقة الحكم الذي كان ثابتاً سابقاً سقط بتعذر بعض الأجزاء حتماً؛ لأنّ الحكم الذي كان ثابتاً سابقاً كان ثابتاً للمركب من عشرة أجزاء، وبتعذر بعض الأجزاء هذا الحكم يسقط لا محالة، وأنه على تقدير ثبوت وجوبٍ للباقي يكون هذا وجوباً آخراً وليس هو نفس الوجوب السابق، غاية الأمر أنّ الرواية عبّرت عن هذا الوجوب بالبقاء وبعدم السقوط، وهذا التعبير مبني على ضربٍ من المسامحة، وفي الواقع الوجوب الذي كان ثابتاً سابقاً ومتعلقاً بالمركب يسقط لا محالة بتعذر بعض الأجزاء، والوجوب الذي يراد إثباته للباقي بعد التعذر هو وجوب جديد وبملاكٍ جديد، حتى إذا كان الدليل هو لا يسقط الميسور بالمعسور، فضلاً عمّا إذا كان الدليل هو(ما لا يُدرك كلّه لا يترك كلّه)، ومعنى هذا الكلام في الحقيقة هو أنّ هذا الجزء المتعذّر يكون جزءً من المركب ودخيلاً في ملاك وجوب المركّب من عشرة أجزاء، وليس دخيلاً في ملاك وجوب مركبٍ من تسعة أجزاء. هذا الجزء المتعذر هو دخيل في ملاك وجوبٍ وليس دخيلاً في ملاك وجوبٍ آخر، الوجوب الذي يتعلق بالباقي، بالمركب من تسعة أجزاء بعد التعذر، الجزء المتعذر ليس دخيلاً في ملاك هذا الوجوب، بينما يكون دخيلاً في ملاك وجوبٍ يتعلق بعشرة أجزاء، هذا معنى هذا الكلام، وهذا معناه أنه ليس من الواضح أنّ القاعدة حتى على تقدير أن يكون المستند لها هو حديث(الميسور لا يسقط بالمعسور) أنها بصدد إثبات الوجوب السابق واقعاً وإبقائه حتى يقال حينئذٍ تكون القاعدة منافية لإطلاق دليل الجزئية؛ لأنّ إطلاق دليل الجزئية يقول الوجوب الثابت سابقاً يسقط، بينما القاعدة تقول يبقى، ليس هكذا، وإنما هي تثبت وجوباً جديداً بملاكٍ جديدٍ يتعلق بالباقي، والجزء المتعذر ليس دخيلاً في ملاك هذا الوجوب الجديد، وإنما يكون دخيلاً في ملاك الوجوب السابق المتعلق بالمركب من عشرة أجزاء.
ومن هنا يظهر أنّ كلام المحقق النائيني (قدس سره) له وجهٌ، وهو أنه في المقام أصلاً لا يوجد تعارض بين قاعدة الميسور وبين إطلاق دليل الجزئية. لكن لو فرضنا أننا لم نوافق على هذا الطرح، وانتهينا إلى نتيجة التنافي والتعارض بين الدليلين؛ حينئذٍ ماذا نصنع ؟ هل يمكن الجمع بينهما بجمعٍ عرفي ؟ أو لا يمكن الجمع بينهما، فتصل النتيجة إلى استحكام التعارض، ولابدّ حينئذٍ من إعمال قواعد باب التعارض ؟
الذي يُدّعى في المقام أنّ التقديم يكون لقاعدة الميسور على أساس الحكومة، وبذلك نصل إلى نفس النتيجة التي وصل إليها المحقق النائيني(قدس سره)، فأنه بالنتيجة عمل بقاعدة الميسور حتى مع وجود إطلاق دليل الجزئية، باعتبار أنه يقول بعدم التنافي بينهما. الآن نقول يوجد تنافٍ بينهما، لكن التقديم يكون لقاعدة الميسور على أساس الحكومة.[1]
الوجه في الحكومة: أنّ قاعدة الميسور يُستفاد منها نفي الجزئية في حال التعذر، قاعدة الميسور عندما تحكم بوجوب الباقي بلسان عدم السقوط ـــــــــ مثلاً ــــــــــ أو لا يترك كله، هذا يقتضي أنّ هذا الجزء ليس جزءاً في حال التعذر، فإذن: هي تقتضي نفي الجزئية في حال التعذر، وإطلاق دليل الجزئية يقتضي إثبات الجزئية في حال التعذر، وبهذا تكون القاعدة ناظرة إلى دليل الجزئية ومخصصة له، يعني تقول أنّ جزئية الجزء تثبت فقط في حال التمكن، أما في حال التعذر فلا تثبت جزئية الجزء؛ لأن القاعدة تنفي جزئية الجزء في حال التعذر؛ ولذا أوجبت الباقي، وبهذا تكون ناظرة إلى دليل الجزئية، فدليل الجزئية يقول هذا الجزء جزء في حال التعذر وفي حال التمكن، بينما القاعدة تقول أنّ هذا الجزء ليس جزءاً في حال التعذر، وبذلك تكون هذه الحكومة موجبة لتخصيص دليل الجزئية في حال التمكن، فيكون هذا الجزء جزءاً في حال التمكن وليس جزءاً في حال التعذر، وتقدم على اساس الحكومة بهذا البيان.
اعتُرض على هذا البيان للحكومة: بعدم وجود الحكومة في المقام بين قاعدة الميسور وبين دليل الجزئية المطلقة، أي الثابتة في حال التمكن وفي حال التعذر، لا توجد حكومة بينهما؛ بل هما متعارضان، والسر في ذلك هو أنّ قاعدة الميسور بمدلولها المطابقي لا علاقة لها بالجزئية، مدلولها المطابقي هو عبارة عن بقاء الحكم السابق وعدم سقوطه، وهذا معناه أنّ القاعدة بمدلولها المطابقي ليست ناظرة إلى دليل الجزئية، لو كان مدلولها المطابقي هو نفي الجزئية في حال التعذر، نقول أنها ناظرة إلى دليل الجزئية، دليل الجزئية يثبت الجزئية في حال التعذر، وقاعدة الميسور تنفي الجزئية في حال التعذر، فتكون القاعدة ناظرة إلى دليل الجزئية وحاكمة عليه، لكن مدلولها المطابقي ليس هذا، وإنما هو بقاء الحكم السابق وعدم السقوط، وبهذا لا تكون حاكمة على دليل الجزئية ولا متوقفة على وجوده، يعني ليس لها معنى معقول إلا إذا فرضنا وجود دليل الجزئية. نعم، قاعدة الميسور بالنسبة إلى دليل الواجب تكون هكذا، يعني تكون حاكمة عليه، الدليل الذي يدل على وجوب الصلاة ـــــــــــ مثلاً ــــــــــ قاعدة الميسور تكون ناظرة إليه ومتفرعة عليه، لوضوح أنه لا معنى للحكم ببقاء الوجوب وعدم سقوطه إلا إذا افترضنا في مرحلة سابقة وجود دليل يدل على الوجوب، أصلاً تعقّل قاعدة الميسور مبني على افتراض وجود دليل يدل على المركب، القاعدة تقول أنّ هذا الوجوب باقٍ بالرغم من تعذر بعض الأجزاء، فتكون متفرعة على وجود دليل يدل على وجوب الواجب في طوله وناظره إليه وحاكمة عليه، حاكمة على الدليل الدال على وجوب ذلك الواجب، لكن إذا لاحظنا بالنسبة إلى دليل الجزئية، الدليل الذي يقول أنّ التشهد جزءٌ من الصلاة والفاتحة جزءٌ من الصلاة، هي ليست ناظرة إليه. نعم قاعدة الميسور بالدلالة الالتزامية تدل على نفي الجزئية في حالة التعذر، لكن هذا ليس مدلولها المطابقي، مدلولها المطابقي هو عدم السقوط، ولازم عدم السقوط هو نفي الجزئية في حالة التعذر؛ للملازمة الواضحة بين بقاء الوجوب الذي كان ثابتاً سابقاً وعدم سقوطه وبين عدم كون الجزء جزءاً في حال التعذر، فإذن: مدلول قاعدة الميسور المطابقي الذي هو عبارة عن بقاء الحكم السابق وعدم سقوطه، وهي بهذا المدلول المطابقي لا تكون حاكمة على دليل الجزئية. نعم، لها مدلول التزامي عبارة عن سقوط الجزئية في حال التعذّر، لكن ملاك الحكومة هو المدلول المطابقي، هذا الدليل لابدّ أن يكون بمدلوله المطابقي ناظر إلى دليلٍ آخر، فيكون حاكماً عليه، ليس بالملازمات، قاعدة الميسور بمدلولها المطابقي ليست ناظرة إلى دليل الجزئية؛ ولذا لا تكون حاكمة عليه. نعم، هي ناظرة بمدلولها المطابقي إلى دليل وجوب ذلك الواجب، لما قلناه من أننا لا نتعقّل معنى لقاعدة الميسور من دون افتراض وجود دليل يدل على وجوب المركب، حتى تأتي القاعدة وتقول أن هذا الوجوب باق وليس ساقطاً، وإلا لا معنى لأن يأتي دليل يقول أنّ الوجوب ليس ساقطاً مع عدم افتراض دليل يدل على ذلك الوجوب سابقاً، وبذلك لا تكون القاعدة حاكمة على دليل الجزئية؛ بل في الحقيقة يقع التعارض بين قاعدة الميسور وبين دليل الجزئية، والتعارض يكون بهذا البيان: صحيح هما يختلفان في مدلولهما المطابقي وفي مدلولهما الالتزامي، لكن كل واحدٍ منهما بمدلوله المطابقي يكون منافياً للمدلول الالتزامي للآخر.
توضيح ذلك: إنّ قاعدة الميسور مدلولها المطابقي هو عدم السقوط وبقاء الحكم السابق. ومدلولها الالتزامي هو نفي الجزئية في حال التعذر. والمدلول المطابقي لإطلاق دليل الجزئية هو إثبات الجزئية في حال التعذر، وهذا ينافي المدلول الالتزامي لقاعدة الميسور؛ لأنّ المدلول الالتزامي لقاعدة الميسور ينفي الجزئية في حال التعذر، المدلول الالتزامي لدليل الجزئية هو أنه إذا كانت الجزئية ثابتة حتى في حال التعذر، فالمدلول الالتزامي هو سقوط الوجوب، وسقوط الوجوب يتنافى مع المدلول المطابقي لقاعدة الميسور؛ لأنّ المدلول المطابقي للقاعدة هو عدم سقوط الوجوب، بينما دليل الجزئية بدلالته الالتزامية يدل على سقوط الوجوب، فيقع التنافي بينهما بأن يكون المدلول المطابقي لكلٍ منهما متنافياً مع المدلول الالتزامي للأخر بلا حكومة بينهما، وهذا معناه أنّ التعارض مستقر، ولابدّ أن نرجع حينئذٍ إلى قواعد باب التعارض. هذه المناقشة في دعوى حكومة قاعدة الميسور على دليل الجزئية.
قد يقال: أننا لا نحتاج إلى الحكومة، حتى ندخل في هذا المدخل ونقول أنّ القاعدة ليست ناظرة إلى دليل الجزئية، وبالتالي لا تكون حاكمة عليها؛ لأنّ مفاد مدلولها المطابقي شيء آخر غير مفاد دليل الجزئية، وإنما تتقدم قاعدة الميسور بالأخصّية، بمعنى أنّ دليل الجزئية يثبت الجزئية مطلقاً في حال التمكّن وفي حال التعذّر، نحن نتكلّم عن إطلاق دليل الجزئية، هذا الدليل يقول أنّ الفاتحة جزءٌ من الصلاة، ومقتضى إطلاقه أنه جزء من الصلاة في حال التمكّن، وجزء من الصلاة أيضاً في حال التعذر. قاعدة الميسور تقتضي نفي الجزئية في حال التعذر، فتكون أخص مطلقاً من دليل الجزئية، دليل الجزئية يثبت الجزئية في حال التمكّن والتعذّر، وقاعدة الميسور تقتضي نفي الجزئية في حالةٍ واحدة وهي حالة التعذر، ومقتضى الصناعة هو حمل دليل الجزئية على حالة التمكّن، ويلتزم في حالة التعذر بسقوط الجزئية. وهذا التقديم بالأخصّية لا يتوقف على النظر، المسألة ليست مسألة حكومة، وإنما مسألة دليلين بينهما عموم وخصوص مطلق، والدليل الأخص مطلقاً يتقدم على الدليل الأعم مطلقاً. صحيح أنّ المدلول المطابقي لقاعدة الميسور ليس هو نفي الجزئية، وإنما هو عدم السقوط وبقاء الحكم السابق، وهي تقتضي نفي الجزئية في حالة التعذر. إذن: قاعدة الميسور لها مدلول، وإن كان التزامي، مفاده نفي الجزئية في حالة التعذر، إذا سلّمنا بهذا المدلول الالتزامي، فأنها تكون حجّة فيه، أي في هذا المدلول الالتزامي كما تكون حجّة في المدلول المطابقي. نعم، ليس لها نظر إلى ذاك الدليل، ولكننا لا نحتاج النظر لأننا نتكلّم في الأخصّية وليس في الحكومة، فإذا كانت حجّة في مدلولها الالتزامي الذي هو نفي الجزئية في حال التعذر؛ حينئذٍ تتقدم على الدليل الذي يثبت الجزئية حتى في حال التعذر، كلٌ منهما حجّة؛ وحينئذٍ لابدّ من تقديم الأخص على الأعم.
هذا الوجه، أو الوجه السابق، أو ما ادّعاه المحقق النائيني(قدّس سرّه) من عدم التعارض، بالنتيجة كلّها تنتج نتيجة واحدة، وهي أنّ قاعدة الميسور تجري، ويؤخذ بها لو تمّت، حتى لو فرضنا وجود إطلاقٍ في دليل الجزئية؛ لأنّ دليل الجزئية ليس دائماً فيه إطلاق، فأنّ دليل الجزئية قد يكون إجماعاً، قد يكون دليلاً لبياً ليس فيه إطلاق، لكن حتى لو فرضنا وجود إطلاقٍ في دليل الجزئية لا مانع من العمل بقاعدة الميسور إذا تمّت، إمّا على اساس عدم ووجود تنافٍ وتعارض بينهما كما يقول المحقق النائيني(قدّس سرّه) وليس بالبعيد، وإمّا على أساس الأخصّية التي ذكرناها أخيراً.
في الدرس السابق نقلنا عن المحقق النائيني(قدس سره) كما ورد في فوائد الأصول أنه يرى بأنّ قاعدة الميسور تجري حتى على تقدير وجود إطلاق في دليل الجزئية، صرّح بأنّ قاعدة الميسور تجري سواء كان هناك إطلاق، أو لم يكن هناك إطلاق، وهذا يُفهم منه أنّه يرى أنّ قاعدة الميسور إمّا مقدمة على إطلاق دليل الجزئية، أو أنه أصلاً لا تعارض بينهما، لكنه يصرّح بأنه أساساً لا تعارض بينهما؛ ولذا هو يرى عدم وجود تعارض بين الدليلين، وعُللّ ذلك في كلامه بأنّ ما يثبت بإطلاق دليل الجزئية هو ثبوت الجزئية حتى في حال التعذّر، وصحيح أنّ مقتضى ثبوت الجزئية حتى في حال التعذّر هو سقوط الوجوب السابق ونفيه، لكنّ نفي الوجوب السابق المستفاد من إطلاق دليل الجزئية لا ينافي ثبوت وجوبٍ جديد على الباقي بملاكٍ جديد، هو يقول أنّ الوجوب السابق ينتفي بالتعذّر؛ لأنّ الجزء جزءٌ حتى في حال التعذر، ولازمه سقوط الوجوب السابق المتعلّق بالمركب. يقول: هذا لا ينافي ثبوت وجوبٍ جديد يتعلق بالباقي من الأجزاء بملاكٍ جديد، فإذا دلّ دليلٌ على وجوبٍ جديد يتعلّق بالباقي، هذا لا يكون منافياً لإطلاق دليل الجزئية، ذاك ينفي وجوب، والدليل الآخر يثبت وجوباً آخر ولا يثبت نفس الوجوب السابق حتى يقع التعارض والتنافي بين الدليلين.
يُلاحظ على هذا الكلام: أنّه قد يكون تامّاً كبروياً، بمعنى أنه إذا فرضنا وجود دليلٍ يدل على وجوب جديدٍ بملاكٍ جديدٍ يتعلق بالباقي؛ حينئذٍ لا يكون منافياً لإطلاق دليل الجزئية الدال على سقوط الوجوب السابق المتعلق بالمركب، لكنّ الكلام في صغراه. نحن لا نتكلّم عن قضية فرضية، وإنما نتكلّم عن قاعدة الميسور، هذه القاعدة هل هي منافية لإطلاق دليل الجزئية، أو لا ؟ هذا محل كلامنا. هل يُستفاد من قاعدة الميسور إثبات وجوبٍ جديدٍ للباقي بملاكٍ جديد حتى نقول أنّ قاعدة الميسور لا تنافي إطلاق دليل الجزئية؛ لأنّ إطلاق دليل الجزئية ينفي الوجوب السابق المتعلق بالمركب وقاعدة الميسور تثبت وجوباً جديداً يتعلق بالباقي بملاك جديد. هل يُستفاد ذلك من قاعدة الميسور، أو أنها ناظرة إلى الوجوب السابق ؟ أي أنها تدلّ على بقاء الوجوب السابق وعدم سقوطه، هي تتحدث عن الوجوب السابق، وتقول إنه لا يسقط. إذن: هي ليست ناظرة إلى وجوب جديد يتعلق بالباقي، وإنما تقول أن الوجوب السابق لا يسقط، بينما إطلاق دليل الجزئية يقول أن الوجوب السابق يسقط، فكيف لا يكون بينهما تنافٍ ؟! القاعدة وردت بلسان الميسور لا يسقط بالمعسور، بعنوان(لا يسقط)، عدم السقوط هذا معناه عدم سقوط الحكم الذي كان ثابتاً سابقاً، وبقاء الحكم الذي كان ثابتاً سابقاً. إذن: مفاد قاعدة الميسور هو بقاء الحكم السابق، بينما إطلاق دليل الجزئية ــــــــ بحسب الفرض ـــــــــ يقتضي نفي الحكم السابق وسقوطه، فيحصل بينهما تنافٍ، غاية الأمر أنّ الحكم بالبقاء وعدم سقوط الحكم السابق، قلنا أنه مبني على ضربٍ من المسامحة، وإلا الرواية تقول(لا يسقط) فهي ناظرة إلى الحكم السابق ودالة على بقائه وعدم سقوطه بضربٍ من المسامحة على ما تقدم، وهذا ينافي إطلاق دليل الجزئية الذي يقتضي سقوط الوجوب السابق ونفيه، فيقع بينهما التنافي.
خلاصة الاعتراض: قاعدة الميسور يُستفاد منها وجوب الإتيان بالباقي بلا إشكال، وهذا هو مفادها، لكن الكلام في أنها هل تدلّ على أنّ هذا وجوب جديد بملاكٍ جديدٍ، أو أنها تدلّ على بقاء الوجوب السابق وعدم سقوطه. الاعتراض يقول: أنّ مفاد القاعدة هو بقاء الوجوب السابق وعدم سقوطه، فتكون منافية لإطلاق دليل الجزئية.
هذا الاعتراض قد يكون واضحاً عندما يكون مستند القاعدة هو حديث(الميسور لا يسقط بالمعسور) وسرّه هو أنّه عُبّر عن ذلك بعدم السقوط، فيرِد هذا الاعتراض؛ لأنّ القاعدة هي تقول(لا يسقط)، فهي تشير إلى الحكم الثابت للمركب سابقاً، تقول أنّ هذا الحكم لا يسقط بتعذر بعض الأجزاء، وبذلك يحصل التنافي بين القاعدة وبين إطلاق دليل الجزئية.
وأما إذا كان مستند القاعدة هو الحديث الثالث(ما لا يدرك كلّه لا يُترك كلّه)، هذا هل فيه إشارة إلى الوجوب السابق ؟ وهل فيه إشارة إلى بقائه وعدم سقوطه حتى يقال بأنه يكون منافياً لإطلاق دليل الجزئية، أو ليس فيه إشارة إلى ذلك ؟ وإنما هو حكم بعدم جواز الترك الذي عبّرنا عنه بوجوب الإتيان بالباقي، في مثل هذا الحديث ليس هناك إشارة إلى الوجوب السابق وعدم سقوطه حتى يقال بأنّ هذا ينافي لما دلّ على سقوط ذلك الوجوب ونفيه، الذي هو عبارة عن إطلاق دليل الجزئية، ليس في الحديث إشارة إلى هذا، هو يقول الشيء الذي لا تدركه كله يجب عليك الإتيان بباقيه، ولم يعبّر بالبقاء وبعدم السقوط حتى يكون إشارة إلى وجوبٍ سابق، يقول: هذا يجب عليك الإتيان بالباقي بعد التعذر، ليس فيه إشارة إلى الوجوب السابق حتى يقال بأنّ هذا يكون منافياً لإطلاق دليل الجزئية، هو يقول وجوب جديد ثابت للباقي بملاكٍ جديدٍ، وبهذا يصح كلام المحقق النائيني(قدس سره) من أنه لا تنافي بين الدليلين. هذا الاعتراض له وجهٌ عندما يكون مستند قاعدة الميسور هو الرواية التي تقول(الميسور لا يسقط بالمعسور)، لكن عندما نستند إلى الرواية الثالثة، فهذا الكلام لا يكون واضحاً؛ بل أكثر من هذا، قد يقال: أنّ عدم التنافي ثابت حتى إذا كان المستند هو الحديث الثاني(الميسور لا يسقط بالمعسور)، حتى إذا كان المستند هو حديث (الميسور لا يسقط بالمعسور) هذه الرواية أيضاً ليست بصدد إبقاء الحكم السابق حقيقة وواقعاً، ليست بصدد بيان عدم سقوط الحكم السابق واقعاً وحقيقةً؛ لأننا قلنا أنّ الحكم بالبقاء وبعدم السقوط فيه شيء من المسامحة وفيه عناية، وإلا في الواقع والحقيقة الحكم الذي كان ثابتاً سابقاً سقط بتعذر بعض الأجزاء حتماً؛ لأنّ الحكم الذي كان ثابتاً سابقاً كان ثابتاً للمركب من عشرة أجزاء، وبتعذر بعض الأجزاء هذا الحكم يسقط لا محالة، وأنه على تقدير ثبوت وجوبٍ للباقي يكون هذا وجوباً آخراً وليس هو نفس الوجوب السابق، غاية الأمر أنّ الرواية عبّرت عن هذا الوجوب بالبقاء وبعدم السقوط، وهذا التعبير مبني على ضربٍ من المسامحة، وفي الواقع الوجوب الذي كان ثابتاً سابقاً ومتعلقاً بالمركب يسقط لا محالة بتعذر بعض الأجزاء، والوجوب الذي يراد إثباته للباقي بعد التعذر هو وجوب جديد وبملاكٍ جديد، حتى إذا كان الدليل هو لا يسقط الميسور بالمعسور، فضلاً عمّا إذا كان الدليل هو(ما لا يُدرك كلّه لا يترك كلّه)، ومعنى هذا الكلام في الحقيقة هو أنّ هذا الجزء المتعذّر يكون جزءً من المركب ودخيلاً في ملاك وجوب المركّب من عشرة أجزاء، وليس دخيلاً في ملاك وجوب مركبٍ من تسعة أجزاء. هذا الجزء المتعذر هو دخيل في ملاك وجوبٍ وليس دخيلاً في ملاك وجوبٍ آخر، الوجوب الذي يتعلق بالباقي، بالمركب من تسعة أجزاء بعد التعذر، الجزء المتعذر ليس دخيلاً في ملاك هذا الوجوب، بينما يكون دخيلاً في ملاك وجوبٍ يتعلق بعشرة أجزاء، هذا معنى هذا الكلام، وهذا معناه أنه ليس من الواضح أنّ القاعدة حتى على تقدير أن يكون المستند لها هو حديث(الميسور لا يسقط بالمعسور) أنها بصدد إثبات الوجوب السابق واقعاً وإبقائه حتى يقال حينئذٍ تكون القاعدة منافية لإطلاق دليل الجزئية؛ لأنّ إطلاق دليل الجزئية يقول الوجوب الثابت سابقاً يسقط، بينما القاعدة تقول يبقى، ليس هكذا، وإنما هي تثبت وجوباً جديداً بملاكٍ جديدٍ يتعلق بالباقي، والجزء المتعذر ليس دخيلاً في ملاك هذا الوجوب الجديد، وإنما يكون دخيلاً في ملاك الوجوب السابق المتعلق بالمركب من عشرة أجزاء.
ومن هنا يظهر أنّ كلام المحقق النائيني (قدس سره) له وجهٌ، وهو أنه في المقام أصلاً لا يوجد تعارض بين قاعدة الميسور وبين إطلاق دليل الجزئية. لكن لو فرضنا أننا لم نوافق على هذا الطرح، وانتهينا إلى نتيجة التنافي والتعارض بين الدليلين؛ حينئذٍ ماذا نصنع ؟ هل يمكن الجمع بينهما بجمعٍ عرفي ؟ أو لا يمكن الجمع بينهما، فتصل النتيجة إلى استحكام التعارض، ولابدّ حينئذٍ من إعمال قواعد باب التعارض ؟
الذي يُدّعى في المقام أنّ التقديم يكون لقاعدة الميسور على أساس الحكومة، وبذلك نصل إلى نفس النتيجة التي وصل إليها المحقق النائيني(قدس سره)، فأنه بالنتيجة عمل بقاعدة الميسور حتى مع وجود إطلاق دليل الجزئية، باعتبار أنه يقول بعدم التنافي بينهما. الآن نقول يوجد تنافٍ بينهما، لكن التقديم يكون لقاعدة الميسور على أساس الحكومة.[1]
الوجه في الحكومة: أنّ قاعدة الميسور يُستفاد منها نفي الجزئية في حال التعذر، قاعدة الميسور عندما تحكم بوجوب الباقي بلسان عدم السقوط ـــــــــ مثلاً ــــــــــ أو لا يترك كله، هذا يقتضي أنّ هذا الجزء ليس جزءاً في حال التعذر، فإذن: هي تقتضي نفي الجزئية في حال التعذر، وإطلاق دليل الجزئية يقتضي إثبات الجزئية في حال التعذر، وبهذا تكون القاعدة ناظرة إلى دليل الجزئية ومخصصة له، يعني تقول أنّ جزئية الجزء تثبت فقط في حال التمكن، أما في حال التعذر فلا تثبت جزئية الجزء؛ لأن القاعدة تنفي جزئية الجزء في حال التعذر؛ ولذا أوجبت الباقي، وبهذا تكون ناظرة إلى دليل الجزئية، فدليل الجزئية يقول هذا الجزء جزء في حال التعذر وفي حال التمكن، بينما القاعدة تقول أنّ هذا الجزء ليس جزءاً في حال التعذر، وبذلك تكون هذه الحكومة موجبة لتخصيص دليل الجزئية في حال التمكن، فيكون هذا الجزء جزءاً في حال التمكن وليس جزءاً في حال التعذر، وتقدم على اساس الحكومة بهذا البيان.
اعتُرض على هذا البيان للحكومة: بعدم وجود الحكومة في المقام بين قاعدة الميسور وبين دليل الجزئية المطلقة، أي الثابتة في حال التمكن وفي حال التعذر، لا توجد حكومة بينهما؛ بل هما متعارضان، والسر في ذلك هو أنّ قاعدة الميسور بمدلولها المطابقي لا علاقة لها بالجزئية، مدلولها المطابقي هو عبارة عن بقاء الحكم السابق وعدم سقوطه، وهذا معناه أنّ القاعدة بمدلولها المطابقي ليست ناظرة إلى دليل الجزئية، لو كان مدلولها المطابقي هو نفي الجزئية في حال التعذر، نقول أنها ناظرة إلى دليل الجزئية، دليل الجزئية يثبت الجزئية في حال التعذر، وقاعدة الميسور تنفي الجزئية في حال التعذر، فتكون القاعدة ناظرة إلى دليل الجزئية وحاكمة عليه، لكن مدلولها المطابقي ليس هذا، وإنما هو بقاء الحكم السابق وعدم السقوط، وبهذا لا تكون حاكمة على دليل الجزئية ولا متوقفة على وجوده، يعني ليس لها معنى معقول إلا إذا فرضنا وجود دليل الجزئية. نعم، قاعدة الميسور بالنسبة إلى دليل الواجب تكون هكذا، يعني تكون حاكمة عليه، الدليل الذي يدل على وجوب الصلاة ـــــــــــ مثلاً ــــــــــ قاعدة الميسور تكون ناظرة إليه ومتفرعة عليه، لوضوح أنه لا معنى للحكم ببقاء الوجوب وعدم سقوطه إلا إذا افترضنا في مرحلة سابقة وجود دليل يدل على الوجوب، أصلاً تعقّل قاعدة الميسور مبني على افتراض وجود دليل يدل على المركب، القاعدة تقول أنّ هذا الوجوب باقٍ بالرغم من تعذر بعض الأجزاء، فتكون متفرعة على وجود دليل يدل على وجوب الواجب في طوله وناظره إليه وحاكمة عليه، حاكمة على الدليل الدال على وجوب ذلك الواجب، لكن إذا لاحظنا بالنسبة إلى دليل الجزئية، الدليل الذي يقول أنّ التشهد جزءٌ من الصلاة والفاتحة جزءٌ من الصلاة، هي ليست ناظرة إليه. نعم قاعدة الميسور بالدلالة الالتزامية تدل على نفي الجزئية في حالة التعذر، لكن هذا ليس مدلولها المطابقي، مدلولها المطابقي هو عدم السقوط، ولازم عدم السقوط هو نفي الجزئية في حالة التعذر؛ للملازمة الواضحة بين بقاء الوجوب الذي كان ثابتاً سابقاً وعدم سقوطه وبين عدم كون الجزء جزءاً في حال التعذر، فإذن: مدلول قاعدة الميسور المطابقي الذي هو عبارة عن بقاء الحكم السابق وعدم سقوطه، وهي بهذا المدلول المطابقي لا تكون حاكمة على دليل الجزئية. نعم، لها مدلول التزامي عبارة عن سقوط الجزئية في حال التعذّر، لكن ملاك الحكومة هو المدلول المطابقي، هذا الدليل لابدّ أن يكون بمدلوله المطابقي ناظر إلى دليلٍ آخر، فيكون حاكماً عليه، ليس بالملازمات، قاعدة الميسور بمدلولها المطابقي ليست ناظرة إلى دليل الجزئية؛ ولذا لا تكون حاكمة عليه. نعم، هي ناظرة بمدلولها المطابقي إلى دليل وجوب ذلك الواجب، لما قلناه من أننا لا نتعقّل معنى لقاعدة الميسور من دون افتراض وجود دليل يدل على وجوب المركب، حتى تأتي القاعدة وتقول أن هذا الوجوب باق وليس ساقطاً، وإلا لا معنى لأن يأتي دليل يقول أنّ الوجوب ليس ساقطاً مع عدم افتراض دليل يدل على ذلك الوجوب سابقاً، وبذلك لا تكون القاعدة حاكمة على دليل الجزئية؛ بل في الحقيقة يقع التعارض بين قاعدة الميسور وبين دليل الجزئية، والتعارض يكون بهذا البيان: صحيح هما يختلفان في مدلولهما المطابقي وفي مدلولهما الالتزامي، لكن كل واحدٍ منهما بمدلوله المطابقي يكون منافياً للمدلول الالتزامي للآخر.
توضيح ذلك: إنّ قاعدة الميسور مدلولها المطابقي هو عدم السقوط وبقاء الحكم السابق. ومدلولها الالتزامي هو نفي الجزئية في حال التعذر. والمدلول المطابقي لإطلاق دليل الجزئية هو إثبات الجزئية في حال التعذر، وهذا ينافي المدلول الالتزامي لقاعدة الميسور؛ لأنّ المدلول الالتزامي لقاعدة الميسور ينفي الجزئية في حال التعذر، المدلول الالتزامي لدليل الجزئية هو أنه إذا كانت الجزئية ثابتة حتى في حال التعذر، فالمدلول الالتزامي هو سقوط الوجوب، وسقوط الوجوب يتنافى مع المدلول المطابقي لقاعدة الميسور؛ لأنّ المدلول المطابقي للقاعدة هو عدم سقوط الوجوب، بينما دليل الجزئية بدلالته الالتزامية يدل على سقوط الوجوب، فيقع التنافي بينهما بأن يكون المدلول المطابقي لكلٍ منهما متنافياً مع المدلول الالتزامي للأخر بلا حكومة بينهما، وهذا معناه أنّ التعارض مستقر، ولابدّ أن نرجع حينئذٍ إلى قواعد باب التعارض. هذه المناقشة في دعوى حكومة قاعدة الميسور على دليل الجزئية.
قد يقال: أننا لا نحتاج إلى الحكومة، حتى ندخل في هذا المدخل ونقول أنّ القاعدة ليست ناظرة إلى دليل الجزئية، وبالتالي لا تكون حاكمة عليها؛ لأنّ مفاد مدلولها المطابقي شيء آخر غير مفاد دليل الجزئية، وإنما تتقدم قاعدة الميسور بالأخصّية، بمعنى أنّ دليل الجزئية يثبت الجزئية مطلقاً في حال التمكّن وفي حال التعذّر، نحن نتكلّم عن إطلاق دليل الجزئية، هذا الدليل يقول أنّ الفاتحة جزءٌ من الصلاة، ومقتضى إطلاقه أنه جزء من الصلاة في حال التمكّن، وجزء من الصلاة أيضاً في حال التعذر. قاعدة الميسور تقتضي نفي الجزئية في حال التعذر، فتكون أخص مطلقاً من دليل الجزئية، دليل الجزئية يثبت الجزئية في حال التمكّن والتعذّر، وقاعدة الميسور تقتضي نفي الجزئية في حالةٍ واحدة وهي حالة التعذر، ومقتضى الصناعة هو حمل دليل الجزئية على حالة التمكّن، ويلتزم في حالة التعذر بسقوط الجزئية. وهذا التقديم بالأخصّية لا يتوقف على النظر، المسألة ليست مسألة حكومة، وإنما مسألة دليلين بينهما عموم وخصوص مطلق، والدليل الأخص مطلقاً يتقدم على الدليل الأعم مطلقاً. صحيح أنّ المدلول المطابقي لقاعدة الميسور ليس هو نفي الجزئية، وإنما هو عدم السقوط وبقاء الحكم السابق، وهي تقتضي نفي الجزئية في حالة التعذر. إذن: قاعدة الميسور لها مدلول، وإن كان التزامي، مفاده نفي الجزئية في حالة التعذر، إذا سلّمنا بهذا المدلول الالتزامي، فأنها تكون حجّة فيه، أي في هذا المدلول الالتزامي كما تكون حجّة في المدلول المطابقي. نعم، ليس لها نظر إلى ذاك الدليل، ولكننا لا نحتاج النظر لأننا نتكلّم في الأخصّية وليس في الحكومة، فإذا كانت حجّة في مدلولها الالتزامي الذي هو نفي الجزئية في حال التعذر؛ حينئذٍ تتقدم على الدليل الذي يثبت الجزئية حتى في حال التعذر، كلٌ منهما حجّة؛ وحينئذٍ لابدّ من تقديم الأخص على الأعم.
هذا الوجه، أو الوجه السابق، أو ما ادّعاه المحقق النائيني(قدّس سرّه) من عدم التعارض، بالنتيجة كلّها تنتج نتيجة واحدة، وهي أنّ قاعدة الميسور تجري، ويؤخذ بها لو تمّت، حتى لو فرضنا وجود إطلاقٍ في دليل الجزئية؛ لأنّ دليل الجزئية ليس دائماً فيه إطلاق، فأنّ دليل الجزئية قد يكون إجماعاً، قد يكون دليلاً لبياً ليس فيه إطلاق، لكن حتى لو فرضنا وجود إطلاقٍ في دليل الجزئية لا مانع من العمل بقاعدة الميسور إذا تمّت، إمّا على اساس عدم ووجود تنافٍ وتعارض بينهما كما يقول المحقق النائيني(قدّس سرّه) وليس بالبعيد، وإمّا على أساس الأخصّية التي ذكرناها أخيراً.