36/06/24
تحمیل
الموضـوع:- مسألة (
10 ) - المكاسـب المحرمة -كتاب التجارة.
الوجه الثاني:- إنّ البيع غير صادق في مثل الحيوانات المذكورة لأنه مبادلة مال بمال وهذه الأشياء لأجل عدم وجود المنفعة فيها فهي ليست مالاً والبيع ليس بصادق عليها .
والجواب ما تقدّمت الاشارة اليه في أبحاث سابقة:- وهو أنّا لا نسلّم أنّ البيع مبادلة مال بمال والعرف ببابك فإنّه لو فرض وجود ورقةٍ عاديّة عند شخصٍ ورأيتُ فيها خطّ والدي مثلاً فانا أهتم بها فحينئذٍ لا مانع اشتريها منه والبيع صادقٌ عرفاً ولا نرى موجباً للتوقّف في ذلك، فاعتبار الماليّة إذن لا موجب له عرفاً . نعم المنقول عن مصباح الفيّومي أنه قال ( البيع مبادلة مال بمال )[1]ولكن أهل اللغة إنما نرجع إليهم إذا كنّا لا نشخّص المفهوم أما بعد الجزم بصدقه عرفاً خصوصاً وأن اللغوي قد لا يكون دقيقاً من زاوية أنّه تشترط الماليّة أو لا فلا موجب للعودة إليه والاعتماد عليه والتشكيك من هذه الناحية، نعم لو شكّكنا في صدق البيع فلا يجوز التمسّك آنذاك بالعمومات لأنّه من التمسّك بالعام في الشبهة الموضوعيّة . إذن لابدّ وأن تجزم أو تطمئنّ بأنّ البيع لا يلزم فيه ذلك.
هذا مضافاً إلى أنه لنسلّم أنّ البيع لا يصدق ولكن يكفينا ﴿ أوفوا بالعقود ﴾ [2]فإنّ العقد في مثل ذلك صادق إذ عنوان البيع لم يؤخذ في عنوان أوفوا بالعقود فنتمسّك به آنذاك، نعم أثار البيع لا تترتّب آنذاك إذ بعموم أوفوا بالعقود يثبت أنّ هذا عقدٌ ممضيّ أمّا أنّه بيعٌ فلا يثبت بذلك، فآثار البيع التي منها مثلاً خيار المجلس لا يثبت فإنّه خاصٌّ بالبيع .
وإذا سألتني وقلت أيّ معاملة هذه ؟ قلت:- إنّ الأسماء ليست مهمّة بل المهم أنها أُمضيت والاسم لا مدخليّة له ولا تأخذ بالتشكيك في شمول ﴿ أوفوا بالعقود ﴾ لأن هذه لا يصدق عليها اسم واحد.
إذن المناسب أن يجاب بهذين الجوابين.
وربما يقول قائل:- عندي دليل على أن البيع لا يتوقّف على ماليّة العوضين وهو مثل قوله تعالى:- ﴿ بئس ما شروا به أنفسهم ﴾ [3]، أو كقوله تعالى:- ﴿ إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم ﴾[4]وما شاكل ذلك، فالقران إذن استعمل كلمة الاشتراء في موردٍ ليس هو بمالٍ !!
إن قلت:- إنّ هذا استعمالٌ لكلمة الشّراء ونحن يهمنا البيع دون الشراء لأنّ الآية الكريمة تقول ﴿ أحلّ الله البيع ﴾[5]!!
قلت:- إنّ الشراء مقابل البيع وبالعكس فاذا ثبت أنّ الشراء يستعمل موضوعاً للمعنى الأعم ولا يشترط في متعلّقه الماليّة لا نحتمل آنذاك أنّ البيع يشترط فيه إذ هما ينصبّان على محلٍّ واحد، وهذا ما ذكره السيد الخوئي(قده) في مصباح الفقاهة.
ولكنّه كما ترى:- لما قرأنا في المعالم من أنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة وهذا جزماً استعمال مجازيّ فأن الشراء لا يستعمل للنفوس الحرّة لأنّها لا تشترى ولا معنى للاستشهاد به لأن القران فيه المجاز والكناية وغير ذلك.
ثم أنّه قد يرد بدليلٍ آخر - أعني أنّ البيع مبدلة مال بمال وهذه الحيوانات ليس مالاً -:- بأنّ هذه الحيوانات لها ماليّة باعتبار أنّه في زماننا توضع في حديقة الحيوانات أو للتشريح وغير ذلك فصارت ذات فائدة، فإذن يتنافس عليها العقلاء، وهكذا غير السبع من الحيوانات، فعلى هذا الأساس هذا الكلام مردودٌ.
قلت:- لو سلّمنا أنَّ جميع هذه الحيوانات هي كذلك - يعني يستفاد منها للتشريح وغيره - ولكنّ هذا خروجٌ عن محلّ الكلام، فنحن الآن نفترض أنّه لا فائدة لها ونقول لو لم تكن لها فائدة فلا يكون بيعها مالاً أمّا إذا افترضنا وجود فائدة فهذا خروجٌ عن محلّ الكلام، ونحن لا نريد أن نتنازع في الصغرى وإنما كلامنا في الكبرى فنقول لو لم تكن هذه - يعني أيّ حيوان - ذات فائدة فحينئذ لا يصدق عليه عنوان البيع على مبادلته أمّا أن تأتي وتقول هذا الحيوان له فائدة وذاك له فائدة .... وهكذا فهذا ليس محلّاً للنزاع.
وبهذا اتضح أنّ ما ذكرته بالنسبة إلى ردّ الوجه الأوّل على أنه لا يصدق عليه باطل لوجود فائدةٍ أتراجع عنه لأنّه خروجٌ عن محلّ الكلام . مضافاً إلى أنّ دعوى أنَّ جميع هذه الحيوانات لها فائدة حتى الخنفساء نقول هذا فرضٌ بعيدٌ وهو مناقشة في الموضوع لا داعي إليها.
الوجه الثالث:- إنّ هذه معاملة سفهيّة والبيع السفهيّ باطل.
وقد تقدّم الجواب عن ذلك:- وقلنا عادةً عندما يُقدِم الإنسان على بيع أو شراء أحد هذه الأمور فلابد من وجود غرضٍ شخصيّ له، نعم لا يوجد غرضٌ نوعيّ، وإذا كان يوجد غرض شخصيّ - ومثلّنا له بشراء صورة أحد أجدادي - فشرائي لا يعد سفهياً، نعم شراء غيري قد يعدّ سفهياً، وشرائي لها لا يصيّرها مالاً لأن ماليّة المال ليس بالتنافس الشخصي وإنما بالتنافس النوعي، فهذا البيع يخرج عن السفهيّة بعد وجود الغرض الشخصي.
إذن لا مشكلة في صحّة المعاملة من هذه الناحية.
وربما يجاب أيضاً:- بأنّ معاملة السفيه قد ثبت بالدليل بطلانها وأما المعاملة السفهيّة فلم يثبت بطلانها بدليلٍ، والمعاملة في المقام سفهيّة وليست من السفيه، فإذن لا دليل على بطلانها فهي قد صدرت من غير السفيه لغرضٍ شخصيٍّ.
ولكن يمكن أن يقال:- إنّ إطلاقات الأدلة لا يبعد انصرافها عن المعاملة السفهيّة، فإن قبلت بالانصراف فبها وإلّا فيأتي مبنانا في باب الإطلاق حيث نقول لو قال المتكلم إني أقصد المقيّد من هذا الاطلاق - يعني المعاملة الغير السفهيّة - لا يعاب عليه ولا يستهجن منه ذلك ولا يقال له لماذا لم تقيّد بشرط أن لا تكون المعاملة سفهيّة فإنه يقول إنَّ المعاملة السفهيّة لا تصدر عادةً من العقلاء فما الحاجة إلى التقييد !!، وعليه فالتمسّك بالإطلاق أمرٌ مشكل.
فالجواب الصحيح هو أن نقول:- إنّ هذه المعاملة ليست سفهيّة مادام يوجد غرضٌ شخصيٌّ في هذا الشراء، فأنت مثلاً عندك بنت وردان وأنا أريد وضعها في زجاجة لكي أُلاعب بها الأطفال - وهذا غرضٌ شخصيّ - وأنا لا استطيع الذهاب إلى مكانٍ للحصول عليها فهذه المعاملة لا تعدّ سفهيّة.
إذن لا يمكن أن نقول إنَّ المعاملة على مثل الحيوانات المذكورة التي لا فائدة فيها سفهية.
الوجه الرابع:- إنّ مصدر ملكيّة هذه الأمور ليس إلّا الحيازة ومن قال إنّ الحيازة في مثل هذه الأمور التي ليس لها فائدة هي موجبة للملكية أو للاختصاص حتى تتمكن من بيعها ؟! إذن لا يصحّ البيع من باب أنها ليست ملكاً لك ولست مختصّاً.
وقد أجاب الشيخ الأعظم(قده) في المكاسب بجوابين:-
الأوّل:- يكفينا إطلاق أو عموم حديث:- ( من سبق إلى ما لم يسبق إليه أحد من المسلمين فهو أحقّ به )[6],
الثاني:- إنّ أخذ هذه الأمور قهراً من الغير يعدّ ظلماً وعدواناً عرفاً.
إذن هو(قده) أراد أن يثبت أنّ أخذ هذه الأمور يوجب الحقّ أو الاختصاص أو الملكيّة فيجوز البيع آنذاك.
ولكن نقول:-
أوّلاً:- كان من المناسب له التمّسك بالسيرة بأن يقول إنَّ السيرة لا تفرّق بين ما إذا حزت سمكةً من الماء أو أخذت نملةً أو فأرةً ولذلك لو أخذتُ نملةً فلا يصح لشخصٍ أن يأخذها منيّ والعرف لا يقبل منه ذلك.
ثانياً:- وأمّا حديث:- ( من سبق إلى ما لم يسبق إليه أحد من المسلمين فهو أحقّ به ) فلم يرد في مصادرنا فالتمسّك به حينئذٍ محلّ إشكال لعدم ثبوت سنده.
والمهمّ هو السيرة، ولا يبعد أنّ كلامه الثاني إشارة إلى السيرة لكن لا بالصراحة فإنه في كلامه الثاني قال إنّ الأخذ من يد الغير بالقهر يعدّ عدوناً وظالما في نظر العرف فلا يبعد أنّه يشر إلى السيرة، ولكن كان من المناسب أن يشير بالصراحة إلى السيرة، ولذلك قلنا أكثر من مرّة أنّ مدرك أنّ الحيازة موجبة للملكيّة أو الاختصاص ليس حديثاً.
الوجه الخامس:- ما أشار إليه صاحب الجواهر(قده)، وهو التمسّك بالإجماع على عدم جواز بيع هذه الحيوانات حيث قال:- ( بلا خلاف أجده فيه بل الإجماع بقسميه عليه )[7].
ويرد عليه:- إنّ هذا الاجماع لو تمّ فهو محتمل المدرك، فيحتمل أن يكون المدرك هو أحد الأمور التي أشرنا إليها فترجع القيمة للمدرك دون الإجماع المدّعى وقد عرفت أنّ هذه المدارك لا قيمة لها وهي قابلة للمناقشة.
إذن من خلال هذا كلّه اتضح أنّ هذه الحيوانات حتى إذا لم تكن لها فائدة معتدّ بها لا مانع من التعامل عليها - أي أعم من البيع أو غيره - للتمسّك بعموم ﴿ أوفوا بالعقود ﴾.
بل يوجد ما يدلّ على صحّة بيع هذه الحيوانات:-
من قبيل:- صحيحة العيص بن القاسم:- ( سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الفهود وسباع الطير هل يلتمس التجارة فيها ؟ قال:- نعم ) [8]، بتقريب أنّه عليه السلام لم يستفصل بل أطلق، فإذن من دون فرق كلها يجوز التجارة بها.
ومن قبيل:- صحيحة أو رواية أبي مخلّد السرّاج قال:- ( كنت عند أبي عبد الله عليه السلام إذ دخل عليه معتب فقال:- بالباب رجلان، فقال - يعني الإمام - أدخلهما فدخلا، فقال أحدهما:- إنّي رجل سرّاج أبيع جلود النمر، فقال:- مدبوغة هي ؟ قال:- نعم، قال:- ليس به بأس ) [9]، بتقريب أنّه عليه السلام لم يستفصل أيضاً بين أن يكون لجلود النمر فائد أو لا فبعدم الاستفصال يثبت المطلوب.
وإنّما ردّدنا بين أن تكون هذه رواية أو صحيحة باعتبار أنّ أبا مخلّد السرّاج لم يرد في حقّه توثيق وإنما هو ممّن روى عنه ابن أبي عمير - على المبنى - فمن يقبل بذلك تكون الرواية صحيحة وأمّا من يرفض فسوف تكون روايةً.
ولعلّه توجد روايات أخرى في هذا المجال.
إن قلت:- نسلّم بتماميّة هذه الروايات سنداً ودلالة ولكن هذا لا تنفع مقابل تلك الأدلة التي أشرنا إليها فإنّ بعضها لو تمّ - وكلامنا هذا تنزّلا يعني لو فرضنا أنّه تمت تلك الأدلة - فيوجد عندنا دليل على الجواز فيقال إنّ بعض تلك الأدلة يمتنع فيه التخصيص مثل الدليل الأوّل الذي يقول ﴿ لا تأكلوا اموالكم بينكم بالباطل ﴾[10]فإنّ المنع من أكل الباطل لا يقبل التخصيص فلا يمكن أن يقال لا تأكلوا أموالكم بالباطل إلا في هذا المورد فكلوه بالباطل فهذا أبيٌّ عن التخصيص فالباطل كيف يحكم بنفوذه وصحته ؟!! وعلى هذا الأساس هذه الروايات لا يمكن أن تخصّص تلك الأدلة لو تمّت.
قلت:- ما هو المقصود من الباطل هل هو مقابل الحقّ ؟ فإن كان الأمر كذلك فما أفدته صحيحٌ فإنّه فكيف يمضى غير الحقّ ؟!! فإذا قلت لك ( كلّ باطلٍ لا تأخذ به إلّا هذا الباطل ) فهذا من قبيل ( كلّ ظلم لا تأخذ به ولا تركن إليه إلّا هذا الظلم ) فإنه غير قابل للتخصيص وهنا كذلك إذ هو باطلٌ فكيف تقول خذ به وهو نافذ ؟!! فالباطل ليس في مقابل الحقّ وإنما هو بمعنى العدم أي لا تأكلوا أموالكم بالباطل بمعنى مقابل اللاشيء.
فإذن لا مانع أن نقول ( لا تأكل مالاً مقابل اللاشيء إلا في هذا المورد فيجوز ) فإنّ هذا قابلٌ للتخصيص، وإنما الذي لا يقبل التخصيص هو ما إذا كان المقصود من الباطل ما يقابل الحقّ، أمّا إذا كان المقصود من الباطل بمعنى اللاشيء فهو قابلٌ للتخصيص ولا مانع.
الوجه الثاني:- إنّ البيع غير صادق في مثل الحيوانات المذكورة لأنه مبادلة مال بمال وهذه الأشياء لأجل عدم وجود المنفعة فيها فهي ليست مالاً والبيع ليس بصادق عليها .
والجواب ما تقدّمت الاشارة اليه في أبحاث سابقة:- وهو أنّا لا نسلّم أنّ البيع مبادلة مال بمال والعرف ببابك فإنّه لو فرض وجود ورقةٍ عاديّة عند شخصٍ ورأيتُ فيها خطّ والدي مثلاً فانا أهتم بها فحينئذٍ لا مانع اشتريها منه والبيع صادقٌ عرفاً ولا نرى موجباً للتوقّف في ذلك، فاعتبار الماليّة إذن لا موجب له عرفاً . نعم المنقول عن مصباح الفيّومي أنه قال ( البيع مبادلة مال بمال )[1]ولكن أهل اللغة إنما نرجع إليهم إذا كنّا لا نشخّص المفهوم أما بعد الجزم بصدقه عرفاً خصوصاً وأن اللغوي قد لا يكون دقيقاً من زاوية أنّه تشترط الماليّة أو لا فلا موجب للعودة إليه والاعتماد عليه والتشكيك من هذه الناحية، نعم لو شكّكنا في صدق البيع فلا يجوز التمسّك آنذاك بالعمومات لأنّه من التمسّك بالعام في الشبهة الموضوعيّة . إذن لابدّ وأن تجزم أو تطمئنّ بأنّ البيع لا يلزم فيه ذلك.
هذا مضافاً إلى أنه لنسلّم أنّ البيع لا يصدق ولكن يكفينا ﴿ أوفوا بالعقود ﴾ [2]فإنّ العقد في مثل ذلك صادق إذ عنوان البيع لم يؤخذ في عنوان أوفوا بالعقود فنتمسّك به آنذاك، نعم أثار البيع لا تترتّب آنذاك إذ بعموم أوفوا بالعقود يثبت أنّ هذا عقدٌ ممضيّ أمّا أنّه بيعٌ فلا يثبت بذلك، فآثار البيع التي منها مثلاً خيار المجلس لا يثبت فإنّه خاصٌّ بالبيع .
وإذا سألتني وقلت أيّ معاملة هذه ؟ قلت:- إنّ الأسماء ليست مهمّة بل المهم أنها أُمضيت والاسم لا مدخليّة له ولا تأخذ بالتشكيك في شمول ﴿ أوفوا بالعقود ﴾ لأن هذه لا يصدق عليها اسم واحد.
إذن المناسب أن يجاب بهذين الجوابين.
وربما يقول قائل:- عندي دليل على أن البيع لا يتوقّف على ماليّة العوضين وهو مثل قوله تعالى:- ﴿ بئس ما شروا به أنفسهم ﴾ [3]، أو كقوله تعالى:- ﴿ إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم ﴾[4]وما شاكل ذلك، فالقران إذن استعمل كلمة الاشتراء في موردٍ ليس هو بمالٍ !!
إن قلت:- إنّ هذا استعمالٌ لكلمة الشّراء ونحن يهمنا البيع دون الشراء لأنّ الآية الكريمة تقول ﴿ أحلّ الله البيع ﴾[5]!!
قلت:- إنّ الشراء مقابل البيع وبالعكس فاذا ثبت أنّ الشراء يستعمل موضوعاً للمعنى الأعم ولا يشترط في متعلّقه الماليّة لا نحتمل آنذاك أنّ البيع يشترط فيه إذ هما ينصبّان على محلٍّ واحد، وهذا ما ذكره السيد الخوئي(قده) في مصباح الفقاهة.
ولكنّه كما ترى:- لما قرأنا في المعالم من أنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة وهذا جزماً استعمال مجازيّ فأن الشراء لا يستعمل للنفوس الحرّة لأنّها لا تشترى ولا معنى للاستشهاد به لأن القران فيه المجاز والكناية وغير ذلك.
ثم أنّه قد يرد بدليلٍ آخر - أعني أنّ البيع مبدلة مال بمال وهذه الحيوانات ليس مالاً -:- بأنّ هذه الحيوانات لها ماليّة باعتبار أنّه في زماننا توضع في حديقة الحيوانات أو للتشريح وغير ذلك فصارت ذات فائدة، فإذن يتنافس عليها العقلاء، وهكذا غير السبع من الحيوانات، فعلى هذا الأساس هذا الكلام مردودٌ.
قلت:- لو سلّمنا أنَّ جميع هذه الحيوانات هي كذلك - يعني يستفاد منها للتشريح وغيره - ولكنّ هذا خروجٌ عن محلّ الكلام، فنحن الآن نفترض أنّه لا فائدة لها ونقول لو لم تكن لها فائدة فلا يكون بيعها مالاً أمّا إذا افترضنا وجود فائدة فهذا خروجٌ عن محلّ الكلام، ونحن لا نريد أن نتنازع في الصغرى وإنما كلامنا في الكبرى فنقول لو لم تكن هذه - يعني أيّ حيوان - ذات فائدة فحينئذ لا يصدق عليه عنوان البيع على مبادلته أمّا أن تأتي وتقول هذا الحيوان له فائدة وذاك له فائدة .... وهكذا فهذا ليس محلّاً للنزاع.
وبهذا اتضح أنّ ما ذكرته بالنسبة إلى ردّ الوجه الأوّل على أنه لا يصدق عليه باطل لوجود فائدةٍ أتراجع عنه لأنّه خروجٌ عن محلّ الكلام . مضافاً إلى أنّ دعوى أنَّ جميع هذه الحيوانات لها فائدة حتى الخنفساء نقول هذا فرضٌ بعيدٌ وهو مناقشة في الموضوع لا داعي إليها.
الوجه الثالث:- إنّ هذه معاملة سفهيّة والبيع السفهيّ باطل.
وقد تقدّم الجواب عن ذلك:- وقلنا عادةً عندما يُقدِم الإنسان على بيع أو شراء أحد هذه الأمور فلابد من وجود غرضٍ شخصيّ له، نعم لا يوجد غرضٌ نوعيّ، وإذا كان يوجد غرض شخصيّ - ومثلّنا له بشراء صورة أحد أجدادي - فشرائي لا يعد سفهياً، نعم شراء غيري قد يعدّ سفهياً، وشرائي لها لا يصيّرها مالاً لأن ماليّة المال ليس بالتنافس الشخصي وإنما بالتنافس النوعي، فهذا البيع يخرج عن السفهيّة بعد وجود الغرض الشخصي.
إذن لا مشكلة في صحّة المعاملة من هذه الناحية.
وربما يجاب أيضاً:- بأنّ معاملة السفيه قد ثبت بالدليل بطلانها وأما المعاملة السفهيّة فلم يثبت بطلانها بدليلٍ، والمعاملة في المقام سفهيّة وليست من السفيه، فإذن لا دليل على بطلانها فهي قد صدرت من غير السفيه لغرضٍ شخصيٍّ.
ولكن يمكن أن يقال:- إنّ إطلاقات الأدلة لا يبعد انصرافها عن المعاملة السفهيّة، فإن قبلت بالانصراف فبها وإلّا فيأتي مبنانا في باب الإطلاق حيث نقول لو قال المتكلم إني أقصد المقيّد من هذا الاطلاق - يعني المعاملة الغير السفهيّة - لا يعاب عليه ولا يستهجن منه ذلك ولا يقال له لماذا لم تقيّد بشرط أن لا تكون المعاملة سفهيّة فإنه يقول إنَّ المعاملة السفهيّة لا تصدر عادةً من العقلاء فما الحاجة إلى التقييد !!، وعليه فالتمسّك بالإطلاق أمرٌ مشكل.
فالجواب الصحيح هو أن نقول:- إنّ هذه المعاملة ليست سفهيّة مادام يوجد غرضٌ شخصيٌّ في هذا الشراء، فأنت مثلاً عندك بنت وردان وأنا أريد وضعها في زجاجة لكي أُلاعب بها الأطفال - وهذا غرضٌ شخصيّ - وأنا لا استطيع الذهاب إلى مكانٍ للحصول عليها فهذه المعاملة لا تعدّ سفهيّة.
إذن لا يمكن أن نقول إنَّ المعاملة على مثل الحيوانات المذكورة التي لا فائدة فيها سفهية.
الوجه الرابع:- إنّ مصدر ملكيّة هذه الأمور ليس إلّا الحيازة ومن قال إنّ الحيازة في مثل هذه الأمور التي ليس لها فائدة هي موجبة للملكية أو للاختصاص حتى تتمكن من بيعها ؟! إذن لا يصحّ البيع من باب أنها ليست ملكاً لك ولست مختصّاً.
وقد أجاب الشيخ الأعظم(قده) في المكاسب بجوابين:-
الأوّل:- يكفينا إطلاق أو عموم حديث:- ( من سبق إلى ما لم يسبق إليه أحد من المسلمين فهو أحقّ به )[6],
الثاني:- إنّ أخذ هذه الأمور قهراً من الغير يعدّ ظلماً وعدواناً عرفاً.
إذن هو(قده) أراد أن يثبت أنّ أخذ هذه الأمور يوجب الحقّ أو الاختصاص أو الملكيّة فيجوز البيع آنذاك.
ولكن نقول:-
أوّلاً:- كان من المناسب له التمّسك بالسيرة بأن يقول إنَّ السيرة لا تفرّق بين ما إذا حزت سمكةً من الماء أو أخذت نملةً أو فأرةً ولذلك لو أخذتُ نملةً فلا يصح لشخصٍ أن يأخذها منيّ والعرف لا يقبل منه ذلك.
ثانياً:- وأمّا حديث:- ( من سبق إلى ما لم يسبق إليه أحد من المسلمين فهو أحقّ به ) فلم يرد في مصادرنا فالتمسّك به حينئذٍ محلّ إشكال لعدم ثبوت سنده.
والمهمّ هو السيرة، ولا يبعد أنّ كلامه الثاني إشارة إلى السيرة لكن لا بالصراحة فإنه في كلامه الثاني قال إنّ الأخذ من يد الغير بالقهر يعدّ عدوناً وظالما في نظر العرف فلا يبعد أنّه يشر إلى السيرة، ولكن كان من المناسب أن يشير بالصراحة إلى السيرة، ولذلك قلنا أكثر من مرّة أنّ مدرك أنّ الحيازة موجبة للملكيّة أو الاختصاص ليس حديثاً.
الوجه الخامس:- ما أشار إليه صاحب الجواهر(قده)، وهو التمسّك بالإجماع على عدم جواز بيع هذه الحيوانات حيث قال:- ( بلا خلاف أجده فيه بل الإجماع بقسميه عليه )[7].
ويرد عليه:- إنّ هذا الاجماع لو تمّ فهو محتمل المدرك، فيحتمل أن يكون المدرك هو أحد الأمور التي أشرنا إليها فترجع القيمة للمدرك دون الإجماع المدّعى وقد عرفت أنّ هذه المدارك لا قيمة لها وهي قابلة للمناقشة.
إذن من خلال هذا كلّه اتضح أنّ هذه الحيوانات حتى إذا لم تكن لها فائدة معتدّ بها لا مانع من التعامل عليها - أي أعم من البيع أو غيره - للتمسّك بعموم ﴿ أوفوا بالعقود ﴾.
بل يوجد ما يدلّ على صحّة بيع هذه الحيوانات:-
من قبيل:- صحيحة العيص بن القاسم:- ( سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الفهود وسباع الطير هل يلتمس التجارة فيها ؟ قال:- نعم ) [8]، بتقريب أنّه عليه السلام لم يستفصل بل أطلق، فإذن من دون فرق كلها يجوز التجارة بها.
ومن قبيل:- صحيحة أو رواية أبي مخلّد السرّاج قال:- ( كنت عند أبي عبد الله عليه السلام إذ دخل عليه معتب فقال:- بالباب رجلان، فقال - يعني الإمام - أدخلهما فدخلا، فقال أحدهما:- إنّي رجل سرّاج أبيع جلود النمر، فقال:- مدبوغة هي ؟ قال:- نعم، قال:- ليس به بأس ) [9]، بتقريب أنّه عليه السلام لم يستفصل أيضاً بين أن يكون لجلود النمر فائد أو لا فبعدم الاستفصال يثبت المطلوب.
وإنّما ردّدنا بين أن تكون هذه رواية أو صحيحة باعتبار أنّ أبا مخلّد السرّاج لم يرد في حقّه توثيق وإنما هو ممّن روى عنه ابن أبي عمير - على المبنى - فمن يقبل بذلك تكون الرواية صحيحة وأمّا من يرفض فسوف تكون روايةً.
ولعلّه توجد روايات أخرى في هذا المجال.
إن قلت:- نسلّم بتماميّة هذه الروايات سنداً ودلالة ولكن هذا لا تنفع مقابل تلك الأدلة التي أشرنا إليها فإنّ بعضها لو تمّ - وكلامنا هذا تنزّلا يعني لو فرضنا أنّه تمت تلك الأدلة - فيوجد عندنا دليل على الجواز فيقال إنّ بعض تلك الأدلة يمتنع فيه التخصيص مثل الدليل الأوّل الذي يقول ﴿ لا تأكلوا اموالكم بينكم بالباطل ﴾[10]فإنّ المنع من أكل الباطل لا يقبل التخصيص فلا يمكن أن يقال لا تأكلوا أموالكم بالباطل إلا في هذا المورد فكلوه بالباطل فهذا أبيٌّ عن التخصيص فالباطل كيف يحكم بنفوذه وصحته ؟!! وعلى هذا الأساس هذه الروايات لا يمكن أن تخصّص تلك الأدلة لو تمّت.
قلت:- ما هو المقصود من الباطل هل هو مقابل الحقّ ؟ فإن كان الأمر كذلك فما أفدته صحيحٌ فإنّه فكيف يمضى غير الحقّ ؟!! فإذا قلت لك ( كلّ باطلٍ لا تأخذ به إلّا هذا الباطل ) فهذا من قبيل ( كلّ ظلم لا تأخذ به ولا تركن إليه إلّا هذا الظلم ) فإنه غير قابل للتخصيص وهنا كذلك إذ هو باطلٌ فكيف تقول خذ به وهو نافذ ؟!! فالباطل ليس في مقابل الحقّ وإنما هو بمعنى العدم أي لا تأكلوا أموالكم بالباطل بمعنى مقابل اللاشيء.
فإذن لا مانع أن نقول ( لا تأكل مالاً مقابل اللاشيء إلا في هذا المورد فيجوز ) فإنّ هذا قابلٌ للتخصيص، وإنما الذي لا يقبل التخصيص هو ما إذا كان المقصود من الباطل ما يقابل الحقّ، أمّا إذا كان المقصود من الباطل بمعنى اللاشيء فهو قابلٌ للتخصيص ولا مانع.