36/05/09
تحمیل
الموضوع:- لزوم
الفحص إذا لزمت مخالفة كثيرة - قواعد وفوائد.
وقبل أن ننهي حديثنا عن هذه القاعدة نشير إلى قضيّة:- وهي أنّ متعلّق الخبر تارةً يكون حسّياً - يعني قابلاً لأن يتعلّق به الحسّ -، وأخرى يكون حدسياً، وثالثة يكون حدسيّاً ولكن آثاره حسيّة.
أمّا الأوّل كنزول المطر ومجيء زيد من السفر فلو أخبر شخص أنّ المطر قد نزل فهذا يمكن أن يتعلّق به الحسّ ويمكن أن يتعلّق به الحدس فيمكن أن يكون إخباره عن حسّ ويمكن أن يكون إخباره عن حدس وهذا هو القدر المتيقّن من مورد أصالة الحسّ - أي الذي يكون احتمال الحسّ فيه شيئاً وجيهاً كنزول المطر فإن الاستناد فيه إلى الحسّ شيء وجيه -.
وأمّا الثاني الذي لا يكون إلا حدسياً فكالإخبار عن الحكم الشرعي وأنّ الحكم شرعاً في المسالة الفلانية هو كذا فإنه حدسيّ لا محالة وليس حسّي، وهذا قدرٌ متيقّنٌ خروجه من أصالة الحسّ.
وأمّا الثالث فكالإخبار عن عدالة فلان أو اجتهاده أو أعلميته فهذا إخبارٌ ومتعلّق الخبر ليس حسّياً فإنّ العدالة غير محسوسة فكيف يكون نقل الإخبار بها والشهادة بها حجة ونحن نعرف أنّ الإخبار في الحدسيات شيء مرفوض وليس بحجة ؟!! والوجه في عدم الحجّية هو أنّ العقلاء يأخذون بخبر الشخص إذا كان حسّياً أما إذا كان حدسياً فلا يأخذون به ولكن هذا الخبر الذي هو من قبيل ( فلان عادل ) هو إخبارٌ عن شيءٍ حدسيّ فهذا يلزم أن لا يكون حجّة والحال أنّ الفقهاء يقولون بحجيّة الإخبار بذلك فكيف توجيهه ؟!!
والجواب:- التوجيه هو إنّ العقلاء يأخذون بالخبر في هذه الحالة، يعني ما إذا كان الشيء حدسياً ولكن له آثار حسيّة كالعدالة فإنّ لها آثاراً حسيّة كأن أراه مواظباً على لسانه وتصرفاته وصحبه في سفره وحضره فاكتشف وجود تلك الملكة عنده - هذا بناءً على تفسير العدالة بالملكة وأمّا إذا فسّرنا العدالة بعدم صدور المحرمّات وصدور الواجبات فسوف يصير هذا شيئاً حسّياً - فحينئذٍ يكون حجّة، وهكذا الاجتهاد فإنّ الاجتهاد ملكة ولكن له آثار فأنا ألاحظه حينما يدخل في المسألة ويخرج منها فإنه يخرج بنتائج طيّبة فيقبل ذلك، وما هو مستند القبول ؟ الدليل هو السيرة فإنها جارية على الشهادة والإخبار بالعدالة والاجتهاد وما شاكل ذلك مما يكون في حدّ ذاته حدسيّاً ولكن له آثار حسّية.
إذن مثل هذه الأمور تلحق أيضاً بالأمور الحسيّة فيكون الإخبار فيها حجّة كالإخبار عن الشيء الحسّي، وإذا دار الأمر بين أن يكون الإخبار عن مثل هذه الأشياء عن حسّ أو عن حدسٍ فحينئذٍ يبنى على أصالة الحسّ.
القاعدة الثالثة:- وجوب الفحص إذا لزمت المخالفة الكثيرة.
نحن نعرف وجود فرق من ناحية لزوم الفحص بين الشبهات الحكميّة والشبهات الموضوعيّة، ففي الشبهة الحكمية يلزم الفحص، فلو فرض أن شخصاً سألني عن حكم التدخين هل هو حرام أو لا فلا أتمكن أن أطبّق له أصالة البراءة بضرسٍ قاطع إلا بعد الفحص غاية الأمر لعلّي قد فحصت قبل ذلك ولم أر دليلاً فأقول له هو حلال لأصالة البراءة لكن إذا لم يكن عندي فحصٌ مسبق في الأدلة فلا يجوز أن أجيب بالإباحة استناداً إلى الأصل، وهذه قضيّة متّفق عليها.
أما لماذا يجب الفحص في الشبهات الحكمية والحال أنّ أدلة البراءة في الشبهة الحكمية مطلقة فــ ( رفع عن امتي ما لا يعلمون ) الذي نطبقه في الشبهة الحكميّة مطلق ولم يقيّد بما بعد الفحص ؟ وهذا بحث سيأتي في موضعه المناسب في مبحث البراءة أو الفحص وأنا الآن أريد الإشارة فقط إلى أنّ الفحص في الشبهة الحكمية لازم باتفاق الفقهاء.
وقد بيّنت أنّه توجد بعض المسائل نتيجتها محسومة من البداية كمسألتنا فكلّ واحدٍ منّا يحسّ بالوجدان أنّ الفحص لازمٌ في الشبهة الحكمية غايته كيف نستدلّ استدلالاً علمياً على ذلك ؟ فتوجد بعض المسائل لا نتّبع فيها الدليل بل نحاول على أن نستدل على النتيجة المحسومة مثل طهارة الماء فنحن نسلّم أنه طاهر ومطهّر ولكن نحاول أن نستدلّ على ذلك، كما توجد بعض المسائل نتائجها ليست محسومة فنتّبع الدليل للوصول إلى النتيجة، ومسألة لزوم الفحص في الشبهة الحكميّة نتيجتها محسومة وهي لزوم الفحص ولكن ما هو الدليل ؟! فتلك قضيّة ثانية.
وأمّا الشبهة الموضوعيّة فلا يلزم فيها الفحص، فماء الشعير يباع في الأسواق فإذا كان مسكراً لا يجوز شربه ولا بيعه وإذا لم يكن كذلك فيجوز، هذه شبهة موضوعيّة وليست حكميّة وإلا فالحكم الكلّي معلوم فالمسكر لا يجوز بيعه ولا تناوله وأما غير المسكر فيجوز ولكن هذا نشكّ هل وصل إلى درجة الإسكار أو لا فهنا توجد شبهة موضوعيّة وقالوا إنّ الفحص ليس بلازم في الشبهة الموضوعيّة، وقد اتفقت الكلمة تقريباً على أنّ الفحص ليس بلازم، يعني نجري أصل البراءة بلا حاجة إلى فحصٍ تمسّكاً بإطلاق حديث ( رفع عن أمتي ما لا يعلمون )، نعم في الشبهة الحكميّة دلَّ الدليل الخارجي على لزوم الفحص أما في الموضوعيّة لم يدلّ على ذلك فنتمسّك بالاطلاق.
ولكن قد تستثنى بعض الموارد بالخصوص:-
منها:- ما أشار إليه الشيخ الأعظم في الرسائل حيث ذكر أن عدم الفحص إذا كان يؤدي إلى تحقق المخالفة كثيراً فيلزم الفحص، وكأن هذا قاعدة يمكن أن ننسبها إلى الشيخ الأعظم وهي ( أنه متى ما لزم من عدم الفحص في الشبهة الموضوعية تحقق المخالفة الكثيرة لزم الفحص ).
ومن أمثلة ذلك:- مسألة الاستطاعة في الحج فإنه الإنسان عادةً يشك أنّه مستطيع أو ليس بمستطيع ويحتاج إلى أن يحسب أمواله التي عنده هل تساوي مقدار الاستطاعة أو لا فلو فرض أنه ترك الفحص فيلزم من ذلك تحقّق المخالفة فأنا في هذه السنة لا يجب عليّ الحج لأجل أصل البراءة حيث لا أعلم أنّي مستطيع فبسبب عدم الفحص لا أعلم فلا يجب عليّ الحج وهكذا في السنة الثانية والثالثة، وهكذا أنت وهكذا الشخص الثالث والرابع والخامس فتلزم المخالفة الكثيرة فيلزم الفحص في موردٍ من هذا القبيل الذي يلزم فيه المخالفة الكثيرة.
وهناك مثال آخر:- وهو مسألة الزكاة والخمس، فأنا لا أعلم هل عندي أموال زائدة عن مقدار المؤونة وعن مقدار المال المخمّس في السنة السابقة أو لا فهنا يوجد شكّ في أصل وجود الزيادة فإذا لم أفحص لا يثبت وجود الزيادة فلا يجب عليّ الخمس في هذه السنة ولا في السنة الثانية ولا الثالثة وهكذا، وهكذا لا يجب عليك ولا على فلان ولا فلان، ونفس الشيء يأتي في وجوب الزكاة فوجوب الزكاة مشروطٌ بالنصاب فنشكّ هل بلغ المال مقدار النصاب أو لا فيأتي نفس الكلام.
ويوجد مثال ثالث:- وهو المسافة الشرعيّة الموجبة للتقصير، فأنا أريد الخروج إلى منطقة إلى أخرى - كالسفر من النجف إلى الكِفل - ولا أدري هل يوجد مسافة شرعيّة إلى هذه المنطقة أو لا فحينئذٍ إذا لم أفحص سوف أتمسك بالأصل وهو استصحاب عدم بلوغ المسافة الشرعيّة فإذا سرت من النجف لم أبلغ المسافة الشرعيّة جزماً ثم إذا سرت أيضاً أشك هل وصلت إلى المسافة الشرعيّة أو لا فأثبت بالاستصحاب أني لم أصل بَعدُ إلى المسافة الشرعيّة وهكذا سرت بعد ذلك إلى أن أصل إلى المقصد - أي منطقة الكِفل - فأشك هل قطعت المسافة الشرعيّة أو لا فسابقاً لم أقطعها والآن استصحب أنّي بَعدُ لم أقطعها فلا يجب عليّ القصر في هذا السفر ولا في السفر الثاني ولا الثالث وهكذا، ولا أنت ولا غيرنا فتلزم المخالفة الكثيرة.
هذه بعض الامثلة في هذا المجال، قال(قده):- ( ثم الذي يمكن أن يقال في وجوب الفحص أنّه إذا كان العلم بالموضوع المنوط به التكليف يتوقف كثيراً على الفحص بحيث لو أهمل الفحص لزم الوقوع في مخالفة التكليف كثيراً تعيّن هنا بحكم العقلاء اعتبار الفحص )[1].
وما هو الدليل على ذلك ؟
والجواب:- قد يستدلّ على ذلك بالأدلة الثلاثة التالية:-
الدليل الأول:- سيرة العقلاء، فلو فرض أن شخصاً قال ( أكرم الفضلاء في هذا الدرس ) فحينئذٍ هل يتمكنالشخص المأمور أن يترك الفحص ويقول أنا أشك في أن هذا من الفضلاء في هذا الدرس أو لا فاستصحب عدم كونه من الفضلاء لأنّه حينما جاء إلى الحوزة أوّلاً لم يكن فاضلاً فهذا عدم نعتي فهو كان متّصفاً بعدم الفضل والآن أشك هل انقلب هذا العدم النعتي إلى وجودٍ نعتي أو لا فاستصحب العدم، وهكذا في الثاني وفي الثالث والرابع ... وهكذا، فحينئذٍ هل يقبل المولى الذي قال ( أكرم الفضلاء ) هذا منه وهل يقبل العقلاء هذا منه أو يقولون عليك الفحص وملاحظة الفاضل منهم لا أنّك تطبّق الأصل كيفما اتفق ؟!! إنّ سيرة العقلاء قد جرت على لزوم الفحص في مثل المورد المذكور.
وتوجد عبارة لصاحب المعالم(قده) في هذا المجال حيث قال:- ( ألا ترى أنّ قول القائل اعط كلّ بالغ رشيد من هذه الجماعة مثلاً درهماً يقتضي إرادة السؤال والفحص عمّن جمع الوصف لا الاقتصار على من سبق العلم باجتماعهما فيه)[2].
ونقل الشيخ الأعظم(قده) عن بعضٍ التمثيل بما لو أمر المولى بإحضار علماء البلد أو إضافتهم أو إعطاء كلّ واحد دينار فحينئذٍ جرت السيرة العقلائية على لزوم الفحص لا أنّه يجري الاستصحاب لأنّ كلّ واحدٍ منهم حينما ولِدَ لم يكن عالماً بل يلزم الفحص فالسيرة جارية على لزومه.
الدليل الثاني:- ما ربما يظهر من كلمات الشيخ الأعظم(قده) في عبارته السابقة حيث ذكر أنه يلزم من عدم الفحص المخالفة الكثيرة، وماذا يقصد من المخالفة الكثيرة ؟ فهو لم يفصح عن ذلك بل بيّن أنّه سوف تلزم المخالفة الكثيرة للحكم الشرعي جزماً وكأن هذا هو بنفسة محذور فيلزم الفحص تخلّصاً من المخالفة الكثيرة.
الدليل الثالث:- ما ربما يظهر من صاحب القوانين(قده) وحاصله:- أنّ هذه الأحكام مشروطة بالوجود الواقعي للشرط وليس بالوجود العلمي، فوجوب الحجّ مشروطٌ بالاستطاعة الواقعيّة لا بالاستطاعة المعلومة، وهكذا وجوب القصر مشروط بالمسافة الواقعية لا بالمسافة المعلومة، وهكذا في بقيّة الأمثلة، ومادام الوجوب مشروطاً بالشرط الواقعي فيلزم آنذاك الفحص، قال(قده):- ( إنّ الواجبات المشروطة بوجود شيءٍ إنما يتوقف وجوبها على وجود الشرط[3]لا على العلم بوجوده فبالنسبة إلى العلم مطلقٌ لا مشروطٌ مثل أن من شك في كون ماله بمقدار استطاعة الحج لعدم علمه بمقدار المال لا يمكنه أن يقول إنّي لا أعلم أنّي مستطيع ولا يجب عليّ شيء بل يجب عليه محاسبة ماله ليعلم أنّه واجدٌ للاستطاعة أو فاقدٌ لها نعم لو شك بعد المحاسبة في أنّ هذا المال هل يكفيه في الاستطاعة أم لا فالأصل عدم الوجوب حينئذٍ )[4].
وقبل أن ننهي حديثنا عن هذه القاعدة نشير إلى قضيّة:- وهي أنّ متعلّق الخبر تارةً يكون حسّياً - يعني قابلاً لأن يتعلّق به الحسّ -، وأخرى يكون حدسياً، وثالثة يكون حدسيّاً ولكن آثاره حسيّة.
أمّا الأوّل كنزول المطر ومجيء زيد من السفر فلو أخبر شخص أنّ المطر قد نزل فهذا يمكن أن يتعلّق به الحسّ ويمكن أن يتعلّق به الحدس فيمكن أن يكون إخباره عن حسّ ويمكن أن يكون إخباره عن حدس وهذا هو القدر المتيقّن من مورد أصالة الحسّ - أي الذي يكون احتمال الحسّ فيه شيئاً وجيهاً كنزول المطر فإن الاستناد فيه إلى الحسّ شيء وجيه -.
وأمّا الثاني الذي لا يكون إلا حدسياً فكالإخبار عن الحكم الشرعي وأنّ الحكم شرعاً في المسالة الفلانية هو كذا فإنه حدسيّ لا محالة وليس حسّي، وهذا قدرٌ متيقّنٌ خروجه من أصالة الحسّ.
وأمّا الثالث فكالإخبار عن عدالة فلان أو اجتهاده أو أعلميته فهذا إخبارٌ ومتعلّق الخبر ليس حسّياً فإنّ العدالة غير محسوسة فكيف يكون نقل الإخبار بها والشهادة بها حجة ونحن نعرف أنّ الإخبار في الحدسيات شيء مرفوض وليس بحجة ؟!! والوجه في عدم الحجّية هو أنّ العقلاء يأخذون بخبر الشخص إذا كان حسّياً أما إذا كان حدسياً فلا يأخذون به ولكن هذا الخبر الذي هو من قبيل ( فلان عادل ) هو إخبارٌ عن شيءٍ حدسيّ فهذا يلزم أن لا يكون حجّة والحال أنّ الفقهاء يقولون بحجيّة الإخبار بذلك فكيف توجيهه ؟!!
والجواب:- التوجيه هو إنّ العقلاء يأخذون بالخبر في هذه الحالة، يعني ما إذا كان الشيء حدسياً ولكن له آثار حسيّة كالعدالة فإنّ لها آثاراً حسيّة كأن أراه مواظباً على لسانه وتصرفاته وصحبه في سفره وحضره فاكتشف وجود تلك الملكة عنده - هذا بناءً على تفسير العدالة بالملكة وأمّا إذا فسّرنا العدالة بعدم صدور المحرمّات وصدور الواجبات فسوف يصير هذا شيئاً حسّياً - فحينئذٍ يكون حجّة، وهكذا الاجتهاد فإنّ الاجتهاد ملكة ولكن له آثار فأنا ألاحظه حينما يدخل في المسألة ويخرج منها فإنه يخرج بنتائج طيّبة فيقبل ذلك، وما هو مستند القبول ؟ الدليل هو السيرة فإنها جارية على الشهادة والإخبار بالعدالة والاجتهاد وما شاكل ذلك مما يكون في حدّ ذاته حدسيّاً ولكن له آثار حسّية.
إذن مثل هذه الأمور تلحق أيضاً بالأمور الحسيّة فيكون الإخبار فيها حجّة كالإخبار عن الشيء الحسّي، وإذا دار الأمر بين أن يكون الإخبار عن مثل هذه الأشياء عن حسّ أو عن حدسٍ فحينئذٍ يبنى على أصالة الحسّ.
القاعدة الثالثة:- وجوب الفحص إذا لزمت المخالفة الكثيرة.
نحن نعرف وجود فرق من ناحية لزوم الفحص بين الشبهات الحكميّة والشبهات الموضوعيّة، ففي الشبهة الحكمية يلزم الفحص، فلو فرض أن شخصاً سألني عن حكم التدخين هل هو حرام أو لا فلا أتمكن أن أطبّق له أصالة البراءة بضرسٍ قاطع إلا بعد الفحص غاية الأمر لعلّي قد فحصت قبل ذلك ولم أر دليلاً فأقول له هو حلال لأصالة البراءة لكن إذا لم يكن عندي فحصٌ مسبق في الأدلة فلا يجوز أن أجيب بالإباحة استناداً إلى الأصل، وهذه قضيّة متّفق عليها.
أما لماذا يجب الفحص في الشبهات الحكمية والحال أنّ أدلة البراءة في الشبهة الحكمية مطلقة فــ ( رفع عن امتي ما لا يعلمون ) الذي نطبقه في الشبهة الحكميّة مطلق ولم يقيّد بما بعد الفحص ؟ وهذا بحث سيأتي في موضعه المناسب في مبحث البراءة أو الفحص وأنا الآن أريد الإشارة فقط إلى أنّ الفحص في الشبهة الحكمية لازم باتفاق الفقهاء.
وقد بيّنت أنّه توجد بعض المسائل نتيجتها محسومة من البداية كمسألتنا فكلّ واحدٍ منّا يحسّ بالوجدان أنّ الفحص لازمٌ في الشبهة الحكمية غايته كيف نستدلّ استدلالاً علمياً على ذلك ؟ فتوجد بعض المسائل لا نتّبع فيها الدليل بل نحاول على أن نستدل على النتيجة المحسومة مثل طهارة الماء فنحن نسلّم أنه طاهر ومطهّر ولكن نحاول أن نستدلّ على ذلك، كما توجد بعض المسائل نتائجها ليست محسومة فنتّبع الدليل للوصول إلى النتيجة، ومسألة لزوم الفحص في الشبهة الحكميّة نتيجتها محسومة وهي لزوم الفحص ولكن ما هو الدليل ؟! فتلك قضيّة ثانية.
وأمّا الشبهة الموضوعيّة فلا يلزم فيها الفحص، فماء الشعير يباع في الأسواق فإذا كان مسكراً لا يجوز شربه ولا بيعه وإذا لم يكن كذلك فيجوز، هذه شبهة موضوعيّة وليست حكميّة وإلا فالحكم الكلّي معلوم فالمسكر لا يجوز بيعه ولا تناوله وأما غير المسكر فيجوز ولكن هذا نشكّ هل وصل إلى درجة الإسكار أو لا فهنا توجد شبهة موضوعيّة وقالوا إنّ الفحص ليس بلازم في الشبهة الموضوعيّة، وقد اتفقت الكلمة تقريباً على أنّ الفحص ليس بلازم، يعني نجري أصل البراءة بلا حاجة إلى فحصٍ تمسّكاً بإطلاق حديث ( رفع عن أمتي ما لا يعلمون )، نعم في الشبهة الحكميّة دلَّ الدليل الخارجي على لزوم الفحص أما في الموضوعيّة لم يدلّ على ذلك فنتمسّك بالاطلاق.
ولكن قد تستثنى بعض الموارد بالخصوص:-
منها:- ما أشار إليه الشيخ الأعظم في الرسائل حيث ذكر أن عدم الفحص إذا كان يؤدي إلى تحقق المخالفة كثيراً فيلزم الفحص، وكأن هذا قاعدة يمكن أن ننسبها إلى الشيخ الأعظم وهي ( أنه متى ما لزم من عدم الفحص في الشبهة الموضوعية تحقق المخالفة الكثيرة لزم الفحص ).
ومن أمثلة ذلك:- مسألة الاستطاعة في الحج فإنه الإنسان عادةً يشك أنّه مستطيع أو ليس بمستطيع ويحتاج إلى أن يحسب أمواله التي عنده هل تساوي مقدار الاستطاعة أو لا فلو فرض أنه ترك الفحص فيلزم من ذلك تحقّق المخالفة فأنا في هذه السنة لا يجب عليّ الحج لأجل أصل البراءة حيث لا أعلم أنّي مستطيع فبسبب عدم الفحص لا أعلم فلا يجب عليّ الحج وهكذا في السنة الثانية والثالثة، وهكذا أنت وهكذا الشخص الثالث والرابع والخامس فتلزم المخالفة الكثيرة فيلزم الفحص في موردٍ من هذا القبيل الذي يلزم فيه المخالفة الكثيرة.
وهناك مثال آخر:- وهو مسألة الزكاة والخمس، فأنا لا أعلم هل عندي أموال زائدة عن مقدار المؤونة وعن مقدار المال المخمّس في السنة السابقة أو لا فهنا يوجد شكّ في أصل وجود الزيادة فإذا لم أفحص لا يثبت وجود الزيادة فلا يجب عليّ الخمس في هذه السنة ولا في السنة الثانية ولا الثالثة وهكذا، وهكذا لا يجب عليك ولا على فلان ولا فلان، ونفس الشيء يأتي في وجوب الزكاة فوجوب الزكاة مشروطٌ بالنصاب فنشكّ هل بلغ المال مقدار النصاب أو لا فيأتي نفس الكلام.
ويوجد مثال ثالث:- وهو المسافة الشرعيّة الموجبة للتقصير، فأنا أريد الخروج إلى منطقة إلى أخرى - كالسفر من النجف إلى الكِفل - ولا أدري هل يوجد مسافة شرعيّة إلى هذه المنطقة أو لا فحينئذٍ إذا لم أفحص سوف أتمسك بالأصل وهو استصحاب عدم بلوغ المسافة الشرعيّة فإذا سرت من النجف لم أبلغ المسافة الشرعيّة جزماً ثم إذا سرت أيضاً أشك هل وصلت إلى المسافة الشرعيّة أو لا فأثبت بالاستصحاب أني لم أصل بَعدُ إلى المسافة الشرعيّة وهكذا سرت بعد ذلك إلى أن أصل إلى المقصد - أي منطقة الكِفل - فأشك هل قطعت المسافة الشرعيّة أو لا فسابقاً لم أقطعها والآن استصحب أنّي بَعدُ لم أقطعها فلا يجب عليّ القصر في هذا السفر ولا في السفر الثاني ولا الثالث وهكذا، ولا أنت ولا غيرنا فتلزم المخالفة الكثيرة.
هذه بعض الامثلة في هذا المجال، قال(قده):- ( ثم الذي يمكن أن يقال في وجوب الفحص أنّه إذا كان العلم بالموضوع المنوط به التكليف يتوقف كثيراً على الفحص بحيث لو أهمل الفحص لزم الوقوع في مخالفة التكليف كثيراً تعيّن هنا بحكم العقلاء اعتبار الفحص )[1].
وما هو الدليل على ذلك ؟
والجواب:- قد يستدلّ على ذلك بالأدلة الثلاثة التالية:-
الدليل الأول:- سيرة العقلاء، فلو فرض أن شخصاً قال ( أكرم الفضلاء في هذا الدرس ) فحينئذٍ هل يتمكنالشخص المأمور أن يترك الفحص ويقول أنا أشك في أن هذا من الفضلاء في هذا الدرس أو لا فاستصحب عدم كونه من الفضلاء لأنّه حينما جاء إلى الحوزة أوّلاً لم يكن فاضلاً فهذا عدم نعتي فهو كان متّصفاً بعدم الفضل والآن أشك هل انقلب هذا العدم النعتي إلى وجودٍ نعتي أو لا فاستصحب العدم، وهكذا في الثاني وفي الثالث والرابع ... وهكذا، فحينئذٍ هل يقبل المولى الذي قال ( أكرم الفضلاء ) هذا منه وهل يقبل العقلاء هذا منه أو يقولون عليك الفحص وملاحظة الفاضل منهم لا أنّك تطبّق الأصل كيفما اتفق ؟!! إنّ سيرة العقلاء قد جرت على لزوم الفحص في مثل المورد المذكور.
وتوجد عبارة لصاحب المعالم(قده) في هذا المجال حيث قال:- ( ألا ترى أنّ قول القائل اعط كلّ بالغ رشيد من هذه الجماعة مثلاً درهماً يقتضي إرادة السؤال والفحص عمّن جمع الوصف لا الاقتصار على من سبق العلم باجتماعهما فيه)[2].
ونقل الشيخ الأعظم(قده) عن بعضٍ التمثيل بما لو أمر المولى بإحضار علماء البلد أو إضافتهم أو إعطاء كلّ واحد دينار فحينئذٍ جرت السيرة العقلائية على لزوم الفحص لا أنّه يجري الاستصحاب لأنّ كلّ واحدٍ منهم حينما ولِدَ لم يكن عالماً بل يلزم الفحص فالسيرة جارية على لزومه.
الدليل الثاني:- ما ربما يظهر من كلمات الشيخ الأعظم(قده) في عبارته السابقة حيث ذكر أنه يلزم من عدم الفحص المخالفة الكثيرة، وماذا يقصد من المخالفة الكثيرة ؟ فهو لم يفصح عن ذلك بل بيّن أنّه سوف تلزم المخالفة الكثيرة للحكم الشرعي جزماً وكأن هذا هو بنفسة محذور فيلزم الفحص تخلّصاً من المخالفة الكثيرة.
الدليل الثالث:- ما ربما يظهر من صاحب القوانين(قده) وحاصله:- أنّ هذه الأحكام مشروطة بالوجود الواقعي للشرط وليس بالوجود العلمي، فوجوب الحجّ مشروطٌ بالاستطاعة الواقعيّة لا بالاستطاعة المعلومة، وهكذا وجوب القصر مشروط بالمسافة الواقعية لا بالمسافة المعلومة، وهكذا في بقيّة الأمثلة، ومادام الوجوب مشروطاً بالشرط الواقعي فيلزم آنذاك الفحص، قال(قده):- ( إنّ الواجبات المشروطة بوجود شيءٍ إنما يتوقف وجوبها على وجود الشرط[3]لا على العلم بوجوده فبالنسبة إلى العلم مطلقٌ لا مشروطٌ مثل أن من شك في كون ماله بمقدار استطاعة الحج لعدم علمه بمقدار المال لا يمكنه أن يقول إنّي لا أعلم أنّي مستطيع ولا يجب عليّ شيء بل يجب عليه محاسبة ماله ليعلم أنّه واجدٌ للاستطاعة أو فاقدٌ لها نعم لو شك بعد المحاسبة في أنّ هذا المال هل يكفيه في الاستطاعة أم لا فالأصل عدم الوجوب حينئذٍ )[4].