36/08/12
تحمیل
الموضوع:- تأثير الزمان والمكان على عملية الاستنباط -قواعد وفوائد.
الحالة الثالثة:- وهي التي يمكن فيها كلّا الاحتمالين - يعني لا أتمكن أن أقول ينغي أن نتفق على تأثير الزمان فيها أو ينبغي أن نتّقف على عدم تأثير الزمان فيها، بل هو احتمالٌ وجيهٌ فبالإمكان أن يقال بتأثير الزمان فيها وبالإمكان أن لا يقال بتأثيره -، ونذكر مجموعة أمثلة والأمر إليك:-
المثال الأوّل:- ما دلّ على تكثير النسل، ففي الحديث الشريف عنه صلى الله عليه وآله:- ( تزوجوا فإني مكاثرٌ بكم الأمم غداً في القيامة حتى أن السقط يقف محبنطئاً[1]على باب الجنة فيقال له ادخل فيوقل لا حتى يدخل ابواي قبلي )[2].
ومن باب الفائدة الجانبية نقول:- إنّ محبنطئاً على ما جاء في معاني الأخبار للصدوق(قده)[3] هو أنَّ ( المحبنطي بغير همزٍ المتغرِّب المستبطئ للشيء ) وكأن هذا السقط يقف غاضباً على تأخر أبواه، ( وأمّا المحبنطئ بالهمز العظيم البطن المنتفخ ) وذلك كناية عن شدّة عضبه كأنّه تنتفخ بطنه، وهذا ليس بمهمّ، والشاهد هو قوله ( تزوّجوا فإني مكاثرٌ بكم الأمم غداً في القيامة ) ،فمن الأشياء المسلّمة في تعاليم الإسلام كثرة النسل فإنها محبّذة لهذا الحديث ولغيره، ولكن هل يمكن لقائل أن يقول إنَّ هذا الحديث وما شاكله ناظر إلى الزمان القديم الذي كان فيه المسلمون قليل فأراد النبي صلى الله عليه وآله أن يكثر المسلمون في مقابل بقيّة الأمم ولا يشمل مثل زماننا ؟!
وقد يضاف إلى ذلك شيء آخر وهو أنّ الحياة في ذلك الزمن كانت حياةً بدائية فالنسل يأتي وهو في البيت أو الزقاق أو في الشارع وتنقضي الحياة بهذا الشكل، ولكن في زماننا أصبحت الحياة معقّدة فيحتاج إلى مدارس ومستشفيات وإلى دار بوصف كذا وغير ذلك وإذا فتحنا الباب على مصراعيه فحينئذٍ يصعب القيام بخدمة هؤلاء، فتبقى حينئذٍ شريحة من الناس بلا مستشفيات ولا تعليم ولا غير ذلك، إنه قد يقول البعض ذلك، فإمّا أن يكون ناظراً إلى ذلك الزمان الذي كان فيه المسلمون قليل أو هو ناظر إلى ذلك الزمان الذي لم تكن فيه حاجة إلى المدارس وغيرها ولا يشمل مثل زماننا، وهذه قضيّة قابلة للأخذ والعطاء، فليس هذا من مورد ما ينبغي الاتّفاق على تأثير الزمان فيه أو ينبغي الاتفاق على عدم تأثير الزمان فيه بل هو شيءٌ محتملٌ ولكن هذا مجرّد احتمال وجيهٌ وليس له مثبت.
المثال الثاني:- ما دلّ على أنّ كلّ رايةٍ تخرج قبل قيام المولى فهي راية ظلال، كما في صحيحة أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام:- ( كلّ رايةٍ ترفع قبل قيام القائم فصاحبها طاغوت يعبد من دون الله عزّ وجلّ )[4]، فإنه قد يقال إنَّ هذه الرواية ناظرة إلى ذلك الزمان الذي كان فيه أصحاب الرايات يخرجون لأهدافٍ غير صحيحة - أعني بهدف الدعوة إلى نفسه -، فهي ناظرة إلى مثل ذلك الزمان، أما لو فرض أنه خرج في زماننا شخصٌ لا يدعو إلى نفسه بل يدعو لإسقاط النظام الظالم من دون دعوةٍ إلى النفس ثم بعد ذلك تُشكَّل حكومة فمثل هذا لا يكون مشمولاً لهذه الرواية لأنّ هذا نحوٌ من الأمر بالمعروف والأمر بالمعروف لا يسقط فهو موجودٌ في كلّ زمانٍ ومن أحد أنحاء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو أن يكون احتمال نجاحنا عقلائياً بدرجةٍ معتدٍّ بها لا أننا نعطي الضحايا كما في بعض الدول ولا يعرف ما هي العاقبة، كلّا بل يفترض أنه يوجد عندنا عدّة وعدد وقال الخبراء إنَّ هذا الشيء مضمون وأنا أيضاً لا أدعو إلى نفسي بل أعطي القيادة إلى شخصٍ من دون أن يدعوا إلى نفسه وإنما يدعو إلى إقامة الحق ثم بعد ذلك يختارون شخصاً من خلال الانتخابات أو غير ذلك، ومثل هذا في الحقيقة هو إقامة للعدل، فهذه الروايات لا تكون شاملة لمثل هذا . هكذا قد يقال، وهل هو شيء مقبول ؟ إنّه شيء وجيهٌ ولا بأس به.
المثال الثالث:- ما دلّ على حرمة بيع الدم أو بيع غير ذلك من الأعيان النجسة . فالدم في زماننا أصبح ذا فائدة كبيرة وتتوقّف عليه حياة الكثير، وحينئذٍ يمكن أن يقال إن الروايات الناهية عن بيع الدم ناظرة إلى تلك الفترة الزمنية التي كان الهدف فيها هدفاً باطلاً كالأكل أو غير ذلك، أمّا مثل زماننا الذي تتوقف عليه الحياة فلا تكون شاملة له، وما هو نظرك في هذا ؟ إنّه شيءٌ وجيه.
إذن القضيّة تتبع نظر الفقيه ويمكن أن يبني على هذا أو على ذاك، نعم ذاك دليله واضحٌ - أي الذي يقول بأن نبقيها على إطلاقها، ولماذا ؟ لأنّه هو مقتضى الاطلاق الأزماني -، أمّا من أراد أن يذهب إلى كون الزمان مؤثراً فلابد وأن يدّعي الجزم والقطع فإذا حصل القطع والجزم فنعم، وإلا فلا يمكن أن يرفع اليد عن الإطلاق.
المثال الرابع:- ما دلّ على حرمة الشطرنج . فقد يقال إنّ ما دلّ على الحرمة ناظر إلى تلك الفترة الزمنيّة التي كان يتّخذ فيها الشطرنج كوسيلةٍ للهو وقضاء الوقت والتسلية أمّا في مثل زماننا الذي أصبح فيه وسيلة لتقوية الذهن وخرج عن كونه من آلات الترف والتقامر فيوجد مجالٌ أن يدّعى أنّ الحرمة تنتفي أيضاً لأنها ناظرة إلى تلك الفترة الزمنيّة.
المثال الخامس:- الإلزام بتسجيل الزواج بشكلٍ رسمي بحيث من لم يسجّل الزواج يعاقب . يعني أنّه توجد عندنا مشكلة وحاصلها هو أنّ من الأحكام الشرعية هو أنّه لو وجدنا رجلاً وامرأة يسيران في شارعٍ أو في زقاق ويدّعي أنها زوجته وهي تدّعي أنه زوجها فهل نأخذ بكلامهما أو لا ؟ نعم نأخذ بكلامهما ولو من باب أنّ الحق لا يعدوهما، يعني أنّه من حقهما أن يتزوّجا والشارع جوّز لهما ذلك وذلك حقٌّ لهما فأعملاه فلماذا تراقبهما ؟! إنّه لا يجوز لك ذلك بل عليك أن تتركهما . ولكن إذا فرض أنّ تطبيق هذا الحكم الشرعي في زماننا ترتّبت عليه مفسدة، فحلّاً لهذه المشكلة نقول لابد من تسجيل الزواج، أي لابد من وجود مستمسكٍ رسميٍّ ومن دون وجوده نأمر بتعزيرهما . وما هو نظرك بهذا ؟ إنّ هذه قضية قابلة للأخذ والعطاء فقد يقال بأنه لا بأس بذلك والحكم الشرعي الذي يقول ( الحقّ لا يعدوهما ويصدقان ) ناظر إلى ذلك الزمن الذي لم تكن فيه المفاسد موجودةً كما هو الحال في زماننا، أما مثل زماننا الذي نعلم بوجود المفاسد فيه فلا.
إذن هذه مسألة قابلة للأخذ والردّ، ولا أقول حتماً يوجد للزمان تأثير في هذه الموارد.
المثال السادس:- ضمان العاقلة . فربما يقال بأنّ العاقلة في قتل الخطأ هي التي تتحمل الدية، ولكن هذا نحمله على ذلك الزمان الذي كان فيه النظام القبلي والعشائري هو الحاكم، أمّا الآن خصوصاً في بعض الدول التي تحكمها المدنيّة ولا يوجد فيها نظام عشائري أبداً فإذا قتل شخصٌ شخصاً آخر خطأً فهل تأتي مسألة العاقلة ؟ قد يقال إنّ مثل هذا الحكم نحمله على النظام القبلي ولا نعمّمه إلى المجتمعات المدنيّة، فإنّ هذا شيءٌ لا بأس به، ولكن قلت هذه قضيّة قابلة للأخذ والعطاء.
المثال السابع:- ذبح الهدي . فالهدي لابدّ وأن يذبحه الحاج في منى، فربما يقال إنَّ هذا واجبٌ بلحاظ الزمن السابق الذي كان يوجد فيه الفقراء هناك ويستفيدون منه، أمّا في مثل زماننا فلا، فإنهم لا يستفيدون منه - ولا تقل إنهم يستفيدون منه لأنه سوف يعلّب ويرسل إليهم ولكن هذه سوف تصير مناقشة ثانية ولكن لو فرضنا واقعاً أنهم لا يستفيدون منه - فهل نقول حينئذٍ بسقوط كونه معتبراً في منى ويجوز أن يذبح في بلده مثلاً ؟ إنه ربما يقال بذلك.
المثال الثامن:- ورد في الحديث الشريف عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام :- ( قال لنا رسول الله صلى الله عليه وآله:- أيّ شيءٍ خير للمرأة ؟ فلم يجبه أحد منّا، فذكرت ذلك لفاطمة عليها السلام فقالت:- ما من شيءٍ خيرٍ للمرأة من أن لا ترى رجلاً ولا يراها، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله فقال:- صدقت إنّها بضعةٌ منّي )[5] . إذن خير للمرأة أن لا ترى الرجال ولا يراها الرجال، ولكن قد يقال إنَّ هذا مختصٌّ بتلك الفترة الزمنية أيضاً لأنّه في زماننا نحتاج إلى طبيبةٍ للنساء مثلاً أو أنها تمرض فهل نقول لها اذهبي إلى الرجال حتى في القضايا النسائية أو نقول أبقِ هكذا إلى أن يقضي الله عزّ وجلّ ؟!! وكلّ هذه احتمالات ليست مقبولة فيعيّن أن تتصدّى ثلّةٌ من النساء إلى هذه القضيّة فيصبحن طبيباتٍ نسائية على الأقل وهذا يستلزم الدخول في المدارس والجامعات وغير ذلك وبالتالي سوف تخرج في كلّ يوم وسوف يراها الرجال.
فإذن قد يقال إنّ هذا ناظر إلى ذلك الزمان دون مثل زماننا . نعم لا نفتح الباب على مصراعيه ونقول فلتدخل جامعةً مشتركة بين الذكور والإناث، بل لابد وأن ننشئ جامعةً خاصّة بالنساء ونحافظ على الحشمة مهما أمكن، ولكن بالتالي لابد وأن نقول يجوز أن تخرج المرأة من بيتها ويراها الرجال بالمقدار الضروري . إنه ربما يقال ذلك.
المثال التاسع:- نظام البنوك . فأنتم تعرفون أنّ أخذ الفائدة في القرض لا يجوز، ولو تأخّر صاحب القرض عن وفاء دينه في الموعد المقرّر لا يجوز وضع غرامة عليه، والآن أنشأنا بنكاً إسلامياً ولا نريد فيه أيّ ربا فنقرض أمواله للناس قربة إلى الله تعالى، فمثلاً نقرض شخصاً مليون دينارٍ ويكون أداءه في ستة أشهر، فلو فرضنا أنه لم يأتِ بها على رأس الستة أشهر فلابد من وضع وسيلة ضغطٍ لاستعادة المال حتى يستفيد منه شخصٌ آخر وحتى يتداول المال وحتى نعيش نحن في هذا الزمان الجديد لا في الزمان القديم ففي زماننا هذا لا تتمكن أن تقول نحن لا يحتاج إلى البنوك، فلابد من وجود بنوكٍ والمفروض أنّ هذه البنوك إسلاميّة وشرعيّة . وعلى هذا الأساس لو كانت توجد طريقة من الطرق الشرعية يمكن من خلالها فرض الضريبة عليه لو تأخر لا يلزم منها الربا فبها ونعمت، أمّا لو فرض أنها لم تنجع هذه الطرق ولم نحصل عليها فهل يمكن أن نفرض ضريبةً والإسلام لابد وأن يساير الحياة بمقدارٍ عقلائي ولا يمكن أن يساير الحياة إلّا بهذه الطريقة فنفرض آنذاك ضريبةً حتى يمكن للبنك أن يشقّ طريقه في الحياة فيقال إنّ ذلك جائز والروايات التي دلّت على أنّه لا يجوز المطالبة بالأكثر ووضع الغرامة ناظرة إلى تلك الفترة الزمنيّة التي يمكن فيها أن تسير الحياة من دون نظام بنكيّ أمّا مثل زماننا فحينئذٍ نقول بالجواز . وهل هذا شيء وجيه أو لا ؟
وعلى أيّ حال من خلال كلّ هذا اتضح أنّ هذه الحالة الثالثة قابلة للأخذ والعطاء.
الحالة الثالثة:- وهي التي يمكن فيها كلّا الاحتمالين - يعني لا أتمكن أن أقول ينغي أن نتفق على تأثير الزمان فيها أو ينبغي أن نتّقف على عدم تأثير الزمان فيها، بل هو احتمالٌ وجيهٌ فبالإمكان أن يقال بتأثير الزمان فيها وبالإمكان أن لا يقال بتأثيره -، ونذكر مجموعة أمثلة والأمر إليك:-
المثال الأوّل:- ما دلّ على تكثير النسل، ففي الحديث الشريف عنه صلى الله عليه وآله:- ( تزوجوا فإني مكاثرٌ بكم الأمم غداً في القيامة حتى أن السقط يقف محبنطئاً[1]على باب الجنة فيقال له ادخل فيوقل لا حتى يدخل ابواي قبلي )[2].
ومن باب الفائدة الجانبية نقول:- إنّ محبنطئاً على ما جاء في معاني الأخبار للصدوق(قده)[3] هو أنَّ ( المحبنطي بغير همزٍ المتغرِّب المستبطئ للشيء ) وكأن هذا السقط يقف غاضباً على تأخر أبواه، ( وأمّا المحبنطئ بالهمز العظيم البطن المنتفخ ) وذلك كناية عن شدّة عضبه كأنّه تنتفخ بطنه، وهذا ليس بمهمّ، والشاهد هو قوله ( تزوّجوا فإني مكاثرٌ بكم الأمم غداً في القيامة ) ،فمن الأشياء المسلّمة في تعاليم الإسلام كثرة النسل فإنها محبّذة لهذا الحديث ولغيره، ولكن هل يمكن لقائل أن يقول إنَّ هذا الحديث وما شاكله ناظر إلى الزمان القديم الذي كان فيه المسلمون قليل فأراد النبي صلى الله عليه وآله أن يكثر المسلمون في مقابل بقيّة الأمم ولا يشمل مثل زماننا ؟!
وقد يضاف إلى ذلك شيء آخر وهو أنّ الحياة في ذلك الزمن كانت حياةً بدائية فالنسل يأتي وهو في البيت أو الزقاق أو في الشارع وتنقضي الحياة بهذا الشكل، ولكن في زماننا أصبحت الحياة معقّدة فيحتاج إلى مدارس ومستشفيات وإلى دار بوصف كذا وغير ذلك وإذا فتحنا الباب على مصراعيه فحينئذٍ يصعب القيام بخدمة هؤلاء، فتبقى حينئذٍ شريحة من الناس بلا مستشفيات ولا تعليم ولا غير ذلك، إنه قد يقول البعض ذلك، فإمّا أن يكون ناظراً إلى ذلك الزمان الذي كان فيه المسلمون قليل أو هو ناظر إلى ذلك الزمان الذي لم تكن فيه حاجة إلى المدارس وغيرها ولا يشمل مثل زماننا، وهذه قضيّة قابلة للأخذ والعطاء، فليس هذا من مورد ما ينبغي الاتّفاق على تأثير الزمان فيه أو ينبغي الاتفاق على عدم تأثير الزمان فيه بل هو شيءٌ محتملٌ ولكن هذا مجرّد احتمال وجيهٌ وليس له مثبت.
المثال الثاني:- ما دلّ على أنّ كلّ رايةٍ تخرج قبل قيام المولى فهي راية ظلال، كما في صحيحة أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام:- ( كلّ رايةٍ ترفع قبل قيام القائم فصاحبها طاغوت يعبد من دون الله عزّ وجلّ )[4]، فإنه قد يقال إنَّ هذه الرواية ناظرة إلى ذلك الزمان الذي كان فيه أصحاب الرايات يخرجون لأهدافٍ غير صحيحة - أعني بهدف الدعوة إلى نفسه -، فهي ناظرة إلى مثل ذلك الزمان، أما لو فرض أنه خرج في زماننا شخصٌ لا يدعو إلى نفسه بل يدعو لإسقاط النظام الظالم من دون دعوةٍ إلى النفس ثم بعد ذلك تُشكَّل حكومة فمثل هذا لا يكون مشمولاً لهذه الرواية لأنّ هذا نحوٌ من الأمر بالمعروف والأمر بالمعروف لا يسقط فهو موجودٌ في كلّ زمانٍ ومن أحد أنحاء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو أن يكون احتمال نجاحنا عقلائياً بدرجةٍ معتدٍّ بها لا أننا نعطي الضحايا كما في بعض الدول ولا يعرف ما هي العاقبة، كلّا بل يفترض أنه يوجد عندنا عدّة وعدد وقال الخبراء إنَّ هذا الشيء مضمون وأنا أيضاً لا أدعو إلى نفسي بل أعطي القيادة إلى شخصٍ من دون أن يدعوا إلى نفسه وإنما يدعو إلى إقامة الحق ثم بعد ذلك يختارون شخصاً من خلال الانتخابات أو غير ذلك، ومثل هذا في الحقيقة هو إقامة للعدل، فهذه الروايات لا تكون شاملة لمثل هذا . هكذا قد يقال، وهل هو شيء مقبول ؟ إنّه شيء وجيهٌ ولا بأس به.
المثال الثالث:- ما دلّ على حرمة بيع الدم أو بيع غير ذلك من الأعيان النجسة . فالدم في زماننا أصبح ذا فائدة كبيرة وتتوقّف عليه حياة الكثير، وحينئذٍ يمكن أن يقال إن الروايات الناهية عن بيع الدم ناظرة إلى تلك الفترة الزمنية التي كان الهدف فيها هدفاً باطلاً كالأكل أو غير ذلك، أمّا مثل زماننا الذي تتوقف عليه الحياة فلا تكون شاملة له، وما هو نظرك في هذا ؟ إنّه شيءٌ وجيه.
إذن القضيّة تتبع نظر الفقيه ويمكن أن يبني على هذا أو على ذاك، نعم ذاك دليله واضحٌ - أي الذي يقول بأن نبقيها على إطلاقها، ولماذا ؟ لأنّه هو مقتضى الاطلاق الأزماني -، أمّا من أراد أن يذهب إلى كون الزمان مؤثراً فلابد وأن يدّعي الجزم والقطع فإذا حصل القطع والجزم فنعم، وإلا فلا يمكن أن يرفع اليد عن الإطلاق.
المثال الرابع:- ما دلّ على حرمة الشطرنج . فقد يقال إنّ ما دلّ على الحرمة ناظر إلى تلك الفترة الزمنيّة التي كان يتّخذ فيها الشطرنج كوسيلةٍ للهو وقضاء الوقت والتسلية أمّا في مثل زماننا الذي أصبح فيه وسيلة لتقوية الذهن وخرج عن كونه من آلات الترف والتقامر فيوجد مجالٌ أن يدّعى أنّ الحرمة تنتفي أيضاً لأنها ناظرة إلى تلك الفترة الزمنيّة.
المثال الخامس:- الإلزام بتسجيل الزواج بشكلٍ رسمي بحيث من لم يسجّل الزواج يعاقب . يعني أنّه توجد عندنا مشكلة وحاصلها هو أنّ من الأحكام الشرعية هو أنّه لو وجدنا رجلاً وامرأة يسيران في شارعٍ أو في زقاق ويدّعي أنها زوجته وهي تدّعي أنه زوجها فهل نأخذ بكلامهما أو لا ؟ نعم نأخذ بكلامهما ولو من باب أنّ الحق لا يعدوهما، يعني أنّه من حقهما أن يتزوّجا والشارع جوّز لهما ذلك وذلك حقٌّ لهما فأعملاه فلماذا تراقبهما ؟! إنّه لا يجوز لك ذلك بل عليك أن تتركهما . ولكن إذا فرض أنّ تطبيق هذا الحكم الشرعي في زماننا ترتّبت عليه مفسدة، فحلّاً لهذه المشكلة نقول لابد من تسجيل الزواج، أي لابد من وجود مستمسكٍ رسميٍّ ومن دون وجوده نأمر بتعزيرهما . وما هو نظرك بهذا ؟ إنّ هذه قضية قابلة للأخذ والعطاء فقد يقال بأنه لا بأس بذلك والحكم الشرعي الذي يقول ( الحقّ لا يعدوهما ويصدقان ) ناظر إلى ذلك الزمن الذي لم تكن فيه المفاسد موجودةً كما هو الحال في زماننا، أما مثل زماننا الذي نعلم بوجود المفاسد فيه فلا.
إذن هذه مسألة قابلة للأخذ والردّ، ولا أقول حتماً يوجد للزمان تأثير في هذه الموارد.
المثال السادس:- ضمان العاقلة . فربما يقال بأنّ العاقلة في قتل الخطأ هي التي تتحمل الدية، ولكن هذا نحمله على ذلك الزمان الذي كان فيه النظام القبلي والعشائري هو الحاكم، أمّا الآن خصوصاً في بعض الدول التي تحكمها المدنيّة ولا يوجد فيها نظام عشائري أبداً فإذا قتل شخصٌ شخصاً آخر خطأً فهل تأتي مسألة العاقلة ؟ قد يقال إنّ مثل هذا الحكم نحمله على النظام القبلي ولا نعمّمه إلى المجتمعات المدنيّة، فإنّ هذا شيءٌ لا بأس به، ولكن قلت هذه قضيّة قابلة للأخذ والعطاء.
المثال السابع:- ذبح الهدي . فالهدي لابدّ وأن يذبحه الحاج في منى، فربما يقال إنَّ هذا واجبٌ بلحاظ الزمن السابق الذي كان يوجد فيه الفقراء هناك ويستفيدون منه، أمّا في مثل زماننا فلا، فإنهم لا يستفيدون منه - ولا تقل إنهم يستفيدون منه لأنه سوف يعلّب ويرسل إليهم ولكن هذه سوف تصير مناقشة ثانية ولكن لو فرضنا واقعاً أنهم لا يستفيدون منه - فهل نقول حينئذٍ بسقوط كونه معتبراً في منى ويجوز أن يذبح في بلده مثلاً ؟ إنه ربما يقال بذلك.
المثال الثامن:- ورد في الحديث الشريف عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام :- ( قال لنا رسول الله صلى الله عليه وآله:- أيّ شيءٍ خير للمرأة ؟ فلم يجبه أحد منّا، فذكرت ذلك لفاطمة عليها السلام فقالت:- ما من شيءٍ خيرٍ للمرأة من أن لا ترى رجلاً ولا يراها، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله فقال:- صدقت إنّها بضعةٌ منّي )[5] . إذن خير للمرأة أن لا ترى الرجال ولا يراها الرجال، ولكن قد يقال إنَّ هذا مختصٌّ بتلك الفترة الزمنية أيضاً لأنّه في زماننا نحتاج إلى طبيبةٍ للنساء مثلاً أو أنها تمرض فهل نقول لها اذهبي إلى الرجال حتى في القضايا النسائية أو نقول أبقِ هكذا إلى أن يقضي الله عزّ وجلّ ؟!! وكلّ هذه احتمالات ليست مقبولة فيعيّن أن تتصدّى ثلّةٌ من النساء إلى هذه القضيّة فيصبحن طبيباتٍ نسائية على الأقل وهذا يستلزم الدخول في المدارس والجامعات وغير ذلك وبالتالي سوف تخرج في كلّ يوم وسوف يراها الرجال.
فإذن قد يقال إنّ هذا ناظر إلى ذلك الزمان دون مثل زماننا . نعم لا نفتح الباب على مصراعيه ونقول فلتدخل جامعةً مشتركة بين الذكور والإناث، بل لابد وأن ننشئ جامعةً خاصّة بالنساء ونحافظ على الحشمة مهما أمكن، ولكن بالتالي لابد وأن نقول يجوز أن تخرج المرأة من بيتها ويراها الرجال بالمقدار الضروري . إنه ربما يقال ذلك.
المثال التاسع:- نظام البنوك . فأنتم تعرفون أنّ أخذ الفائدة في القرض لا يجوز، ولو تأخّر صاحب القرض عن وفاء دينه في الموعد المقرّر لا يجوز وضع غرامة عليه، والآن أنشأنا بنكاً إسلامياً ولا نريد فيه أيّ ربا فنقرض أمواله للناس قربة إلى الله تعالى، فمثلاً نقرض شخصاً مليون دينارٍ ويكون أداءه في ستة أشهر، فلو فرضنا أنه لم يأتِ بها على رأس الستة أشهر فلابد من وضع وسيلة ضغطٍ لاستعادة المال حتى يستفيد منه شخصٌ آخر وحتى يتداول المال وحتى نعيش نحن في هذا الزمان الجديد لا في الزمان القديم ففي زماننا هذا لا تتمكن أن تقول نحن لا يحتاج إلى البنوك، فلابد من وجود بنوكٍ والمفروض أنّ هذه البنوك إسلاميّة وشرعيّة . وعلى هذا الأساس لو كانت توجد طريقة من الطرق الشرعية يمكن من خلالها فرض الضريبة عليه لو تأخر لا يلزم منها الربا فبها ونعمت، أمّا لو فرض أنها لم تنجع هذه الطرق ولم نحصل عليها فهل يمكن أن نفرض ضريبةً والإسلام لابد وأن يساير الحياة بمقدارٍ عقلائي ولا يمكن أن يساير الحياة إلّا بهذه الطريقة فنفرض آنذاك ضريبةً حتى يمكن للبنك أن يشقّ طريقه في الحياة فيقال إنّ ذلك جائز والروايات التي دلّت على أنّه لا يجوز المطالبة بالأكثر ووضع الغرامة ناظرة إلى تلك الفترة الزمنيّة التي يمكن فيها أن تسير الحياة من دون نظام بنكيّ أمّا مثل زماننا فحينئذٍ نقول بالجواز . وهل هذا شيء وجيه أو لا ؟
وعلى أيّ حال من خلال كلّ هذا اتضح أنّ هذه الحالة الثالثة قابلة للأخذ والعطاء.
[1] وفي بعض المصادر ( محبنطياً ).
[2] وسائل الشيعة، العاملي، ج21، ص358، ابواب أحكام الاولاد، ب1ن
ح14، آل البيت.
[3] معاني الاخبار، الصدوق، ص291، ط مؤسسة النشر الاسلامي.
[4] وسائل الشيعة، العاملين ج15، ص52، ابواب جهاد العدو، ب43، ح6، آل
البيت.
[5] مستدرك الوسائل، النوري، ج14، ص289، ابواب مقدمات النكاح، ب100،
ح2.