33/06/28
تحمیل
الموضوع / شرطية الفحص في جريان أصل البراءة / العلم الإجمالي / أصالة الاشتغال / الأصول العملية.
وفي هذا المجال نقول:- تارةً نبني على القاعدة النائينية ، فان للشيخ النائيني - على ما ذكرنا أكثر من مرة ذكر قاعدة حاصلها:- انه إذا كان لدينا حكم لزومي واستثني منه حكم ترخيصي وعلّق ذلك الترخيص على عنوان وجودي فلابد لأجل تطبيق تلك الرخصة من إحراز ذلك العنوان الوجودي ومن دون احرازه يثبت ذلك الحكم اللزومي.
وفي موردنا نقول:- لدينا حكم لزومي وهو ( لا يجوز للرجل أن يقارب المرأة ) ثم استثني منه رخصة ( إلا الزوجة فانه مرخص في ذلك ) فان الشيخ النائيني(قده) في هذه الحالة يقول لابد من إحراز أن هذه زوجة كي تثبت الرخصة وأما إذا لم تحرز فيثبت ذلك الحكم اللزومي ومستنده في ذلك العرف ، أي يقول:- ( ان العرف يقول إذا لم يحرز العنوان الوجودي فيثبت الحكم اللزومي ) ، انها قاعدة عرفية وبناءً على ذلك لا تصل النوبة إلى أصل البراءة في حالة الشك بأن هذه زوجة أو ليست بزوجة بل المرجع على رأيه هو هذه القاعدة - أي الحكم اللزومي - ما دمنا نشك في كونها زوجة فالرخصة لا تثبت بل يثبت الحكم اللزومي لحكم العرف بذلك.
وهكذا في مثال المال ، فانه لا يجوز للإنسان أن يتصرف في المال واستثني منه ما كان مالاً للشخص وملكا له أو ما بحكم الملك فيجوز التصرف فيه بأكل ونحوه ، وعلى هذا الأساس لو رأيت طعاماً وشككت أنه ملكي أو لا ففي مثل هذه الحالة لا يجوز تطبيق البراءة على رأي الشيخ النائيني - فحصنا أو لم نفحص بل المرجع هو أنّا نشك في العنوان الوجودي فالرخصة لا تثبت ويثبت الحكم اللزومي وهو عدم جواز التصرف - لو فرضنا وجود مثل هذا الحكم -.
وهكذا في مثال الدماء ، فلو فرضنا أني شاهدت شخصاً ولا أدري هل هو الذي ارتد أو غيره ، فان كان هو المرتد فهل لي أن اقتله - -هذا على فرض كوني حاكماً شرعياً - ؟ كلا لا يجوز على رأي الشيخ النائيني(قده) اذ هناك حكم لزومي وهو ( لا يجوز القتل ) - مثلاً - ثم استثني منه حكم ترخيصي وهو مثلاً ( الذي ارتد أو زنى أو غير ذلك ) إذ أن هناك عناوين وجودية ثبت لها حكم القتل ، وفي مثل هذه الحالة لا تثبت الرخصة إذا شككنا بل يلزم الرجوع إلى الحكم اللزومي.
إذن الخلاصة:- إذا تمت القاعدة النائينية المذكورة فانه لا مجال للرجوع إلى قاعدة البراءة فانه بناءً على قاعدته يلزم بالرجوع إلى الحكم اللزومي ولا يحكم بالرخصة ، والبراءة عنده لا معنى لها في هذا المورد بعد ثبوت قاعدته.
وألفت النظر إلى قضية جانبية:- وهي أن هذه القاعدة النائينية قد تختصر ويخذف منها ذلك التطويل الموجود فيها فيقال ( متى ما عُلّقت الرخصة على عنوان وجودي فلا تثبت تلك الرخصة إلا عند إحراز ذلك العنوان الوجودي ) وواضـح ان التعبيـر بكلمـة ( إذا ثبتت الرخصـة ) هو بالدلالة الالتزامية يستبطن وجود حكم الزامي مغاير لهذه الرخصة . إذن يمكن أن نختصر هذه القاعدة ، وقد اختصرها(قده) في تعليقته على العروة الوثقى ، فان للسيد اليزدي في بداية كتاب النكاح - أي مسألة جواز النظر - توجد عند مسألة وهي أنه لو رأى شخص امرأةً من بعيد وشك أنها زوجته أو لا فهل يجوز له النظر إليها ؟ وعلق الشيخ النائيني على ذلك وقال:- لا يجوز النظر فان الرخصة الثابتة للعنوان الوجودي لا تثبت إلا عند إحراز ذلك العنوان الوجودي
[1]
.
والخلاصة:- انه بناءً على القاعدة النائينية لا يجوز في المورد المذكور الرجوع إلى أصل البراءة حتى لو فحصنا لوجود قاعدة عرفية عقلائية نائينية
[2]
.
وأما إذا أنكرنا هذه القاعدة فيمكن أن يقال بعدم جواز الرجوع إلى أصل البراءة حتى لو فحصنا وذلك لوجود أصل حاكم على أصل البراءة وشرط الرجوع إلى أصل البراءة عدم وجود الأصل الحاكم عليه ، ومقصودي من الحاكم هو الأصل المقدّم.
وفي مقامنا يوجد في هذه الأمثلة أصل متقدم على البراءة:-
ففي مثال المرأة - التي شك أنها زوجة أو لا - يوجد أصل متقدم على أصل البراءة وهو استصحاب عدم العلقة الزوجية بينه وبينها فهذه المرأة التي يشك أنهـا زوجته أو لا ؟ أو بتعبير أخصر ( استصحاب عدم كونها زوجته فانه قبل عشرين سنة لم تكن هذه المرأة زوجته لأنه لم يجري العقد وإنما أجرياه قبل عشر سنوات مثلاً فهي حتماً في تلك الفترة ليست زوجته وبعد ذلك شك فالمرأة كانت متصفة بكونها ليست زوجة قبل عشرين سنة أو من بداية ولادتها وبعد ذلك شك فيستصحب العدم السابق - وهذا عدم نعتي - وبهذا لا تصل النوبة إلى الأصل الحكمي بعد وجود الأصل الموضوعي إذ الأصل الموضوعي مقدم على الأصل الحكمي واستصحاب عدم كونها زوجة أصل موضوعي والأصل الموضوعي إذا جرى يكون حاكماً ومقدماً على الأصل الحكمي.
وهكذا الكلام في المثال الثاني - أي إذا شككت في أن هذا الطعام ملكي أو لا - فسابقاً هو لم يكن ملكي وبعد ذلك أشك هل صار ملكي أو لا فاستصحب عدم كونه ملكي فيتنقح حينئذ الموضوع ولا تصل النوبة إلى البراءة.
وهكذا في المثال الثالث - أي إذا شككت في أن هذا مرتد أو لا - فان هذا لم يكن متصفاً سابقاً بالارتداد وإنما حصل الارتداد بعد ذلك فاستصحب عدم اتصافه بالارتداد ، وهذا أصل موضوعي ولا تصل النوبة آنذاك إلى أصل البراءة.
إذن اتضح من خلال هذا أن هذا المورد الثالث للاستثناء مرفوض أيضاً كالموردين السابقين إذ على القاعدة النائينية الأمر واضح وبناءً على انكارها يوجد أصل حاكم مقدّم فلا تصل النوبة إلى أصالة البراءة.
ان قلت:- لماذا لا نتمسك بنكتة أخرى وهي أن الشارع قد اهتم بالدماء والفروج والأموال ونفس هذا الاهتمام يشكل مانعاً من الرجوع إلى أصل البراءة عند الشك بنحو الشبهة الموضوعية.
قلت:- ان دعوى الاهتمام بهذه الموارد الثلاثة وان جاءت في لسان غير واحد من الأعلام - وربما قرأناها في كتاب الرسائل - ولكن هي لم تثبت بل هي مجرد دعوى ، فان ثبتت وتمت حقاً فالأمر كما قلت - أي لا يجوز الرجوع إلى أصل البراءة لأجل هذه النكتة وهي اهتمام الشرع الذي عرفناه من الخارج - ولكن نحن نريد أن نقول:- لنفترض أنها لم تتم - كما هو الواقع حيث أنه لم يثبت بدليل معتبر الاهتمام في هذه الموارد الثلاثة من بين سائر الموارد - فانه رغم ذلك لا يجري أصل البراءة اما للقاعدة النائينية ان سلمناها أو للأصل الحاكم كما أوضحنا.
وخلاصة ما تقدم:- قد اتضح مما تقدم أن شرط جريان أصل البراءة أمران:-
الأول:- الفحص إذا كانت الشبهة حكمية دون الموضوعية.
والثاني:- عدم وجود الأصل الحاكم فانه بعد فرض وجود الأصل الحاكم يكون فرض حكومته موجباً لتقدمه على أصل البراءة وعدم جريان أصل البراءة ، ومن أمثلة الأصل الحاكم الموارد الثلاثة المتقدمة ، ومن موارد ذلك أيضاً باب اللحوم فانه فيها تشترط التذكية فإذا شككنا في أن هذا الحيوان قد ذكي أو لا ولم تكن هناك أمارة على تذكيته - كسوق المسلمين أو يد المسلم فانها إذا كانت فهي المقدمة بل الفرض - فهل يمكن تطبيق أصل البراءة والتناول ؟ كلا فانه يوجد أصل حاكم وهو استصحاب عدم التذكية فلا تصل النوبة إلى البراءة ، ومن هنا
[3]
لا تصل النوبة إلى أصل البراءة ما دام لا توجد أمارة على الحليّة والتذكية وإنما نطبّق أصل البراءة في غير اللحوم كالمواد التي تؤكل ولا تشتمل على اللحم كالأجبان والمعلبات النباتية والأدوية فان أصل البراءة يكون جارياً فيها لعدم وجود أصل حاكم وأصل الطهارة لا يختص بالمسلمين فحينئذ لا مانع من الرجوع إلى أصل البراءة بلا حاجة إلى الفحص إذ لا يلزم الفحص في الشبهات الموضوعية.
هذا ولكن الشيخ الأعظم عقد تذنيباً في هذا المورد وقال ( ذكر الفاضل التوني
[4]
انه يشترط شرطان اضافيان لجريان أصل البراءة ، الشرط الأول هو أن لا يكون جريان أصل البراءة مستلزماً لثبوت حكم من الجانب الآخر ، والشرط الثاني هو أن لا يكون جريان أصل البراءة موجباً لتضرر إنسان آخر ) ، والوجه في ذلك هو قاعدة ( لا ضرر ) ، ومن هنا دخل الشيخ الأعظم(قده) في بحث قاعدة ( لا ضرر ) رغم كونها قاعدة فقهية وليست أصولية ، فهي إذن طفيلية على علم الأصول والكلام فيها في علم الاصول من باب الكلام يجر الكلام بهذا الشكل الذي أوضحته.
[1] العروة الوثقى 5 500 في مسائل احكام النظر ، وذكر هذه القاعدة أيضا ولكن بطولها في اجود التقريرات 2 195 ، وفي فوائد الاصول 3 384.
[2] وهذا بغض النظر عن صحة القاعدة وعدم صحتها.
[3] وهذه قاعدة عامة في باب اللحوم.
[4] والذي عنده كتابا في الاصول اسمه ( الوافية في الاصول ) ويقال انه كان كتابا درسياً.