36/01/21
تحمیل
الموضوع: الأصول العمليّة / تنبيهات العلم الإجمالي/ انحلال العلم الإجمالي
كان الكلام في العلم الإجمالي في الأحكام الظاهريةبعد الفراغ عن العلم الإجمالي في الأحكام الواقعية كما إذا قامت البيّنة على نجاسة أحد الإناءين. تكلّمنا عن ذلك في ما تقدّم، وانتهى الكلام إلى ما ذكره السيد الشهيد(قدّس سرّه)، حيث أنّه ذكر بأننّا تارةً نفترض أنّ العلم الإجمالي يكون في طول البيّنة، بأن يُفترض قيام البيّنة على نجاسة إناءٍ بعينه، ثمّ يترددّ عندنا، فيكون العلم الإجمالي في طول البيّنة. في هذه الصورة ذكر أنّه لا ينبغي الإشكال أنّ حاله حال العلم الإجمالي بالحكم الواقعي من حيث تنجيز هذا العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية ولوجوب الموافقة القطعية، وذكرنا ما يتعلّق بهذا الأمر وهذا هو الصحيح.
وأمّا إذا فرضنا قيام البيّنة على نجاسة أحد الإناءين، من البداية مفاد البيّنة هو نجاسة أحد الإناءين، لا أنّ مفادها من البداية هو نجاسة إناءٍ بعينه ثمّ يتردد عندنا، وإنّما هي من البداية مفادها نجاسة أحد الإناءين بحيث لو فرضنا أننا سألنا البيّنة، هي لا تعلم أيّ الإناءين هو النجس، هي لا تشهد أكثر من نجاسة أحد الإناءين. هنا ذكر أنّ وجوب الموافقة القطعية ليس بذاك الوضوح كما هو الحال في الفرض الأوّل، وجوب الموافقة القطعية في الفرض الأوّل، وهو ما إذا كان العلم الإجمالي في طول البينّة واضح ولا ينبغي الإشكال فيه، لكن في الفرض الثاني الأمر ليس هكذا. نعم قال أنّه يكون واضحاً ولابدّ من الالتزام به بناءً على مبانينا في الحكم الظاهري أيضاً يكون الأمر واضحاً، فتجب الموافقة القطعية كما تحرم المخالفة القطعية. [1]
وأمّا بناءً على المباني الأخرى في تفسير الحكم الظاهري، قال: قد يُستشكل في تنجيز مثل هذا العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية، ثمّ ذكر أمثلة، قال: مثلاً رأي صاحب الكفاية (قدّس سرّه) الذي يُفسّر الحكم الظاهري، بأنّه عبارة عن التنجيز والتعذير، يقول: بناءً على هذا الرأي قد يُستشكل في وجوب الموافقة القطعية في محل الكلام؛ وذلك بأن يقال: أنّ دليل حجّية البيّنة ينجّز ماذا ؟ الشارع بجعل الحكم الظاهري هو يجعل تنجيز ويدلّ على هذا التنجيز دليل حجّية الإمارة؛ حينئذٍ نسأل : دليل حجّية الإمارة ينجّز ماذا ؟ هل ينجّز هذا الطرف بخصوصه، أو ذاك الطرف بخصوصه ؟ أو ينجّز الجامع بينهما ؟ إن قيل أنّه ينجّز هذا الطرف بخصوصه، فهذا ترجيح بلا مرجّح، أو أنّه ينجّز ذاك الطرف بخصوصه، أيضاً هو ترجيح بلا مرجّح، فلا يمكن الالتزام بأنّ دليل حجّية الإمارة الذي يُفترض أنّ نسبة كلا الطرفين إليه نسبة واحدة، أنّه يختص بأحد الطرفين دون الآخر، هذا ترجيح بلا مرجّح لا يمكن أن يُلتزم به.
إن قيل: أنّ دليل حجّية الإمارة ينجّز أحدهما المرددّ.
جوابه: أن الفرد المردد لا وجود له أصلاً حتّى يكون دليل حجّية الإمارة منجّزاً للفرد المردد.
وإن قيل: أنّه ينجّز الجامع بينهما، أيّ أنّ الإمارة شهدت على نجاسة أحد الأمرين، التنجيز الذي يُجعل من قِبل الشارع كحكم ظاهري هو عبارة عن تنجيز الجامع بينهما.
والإشكال فيه، هو: أنّ هذا لا يقتضي وجوب الموافقة القطعية؛ بل يقتضي التخيير وإمكان الاكتفاء بأحد الطرفين؛ لأنّ الجامع يتحقق في ضمن أحد الطرفين، فإذا تنجّز الجامع، يعني وجب عليه ترك أحد الإناءين، هذا يكفي فيه ترك واحدٍ منهما، وهذا يعني التخيير، يعني بعبارةٍ أخرى: عدم وجوب الموافقة القطعية. فإذا ترك أحد الإناءين يجوز له شرب الآخر، تمسّكاً بقاعدة قبح العقاب بلا بيان؛ لأنّ ما تنجّز عليه هو الجامع، من قبيل أن يجب عليه الإتيان بإحدى الصلاتين، ولا يجب عليه الجمع بينهما، ما تنجّز عليه في المقام هو أحد الإناءين، فيجب عليه ترك أحدهما، فإذا ترك أحدهما؛ حينئذٍ لا يجب عليه شيء؛ وحينئذٍ يمكنه أن يشرب الطرف الآخر اعتماداً على قاعدة قبح العقاب بلا بيان، فكيف يمكن إثبات وجوب الموافقة القطعية في محل الكلام بناءً على هذا التفسير للحكم الظاهري؛ لأنّ الحكم الظاهري عبارة عن جعل التنجيز والتعذير. السؤال هنا هو: أنّ الشارع يجعل التنجيز لمن ؟ وما الذي ينجّزه دليل حجّية الإمارة ؟ هل ينجّز أحد الطرفين بخصوصه ؟ ترجيح بلا مرجّح، والمردد لا وجود له، والجامع لا يقتضي وجوب الموافقة القطعية.
أشكل (قدّس سرّه) على نفسه: بأنّ هذا الكلام نفسه يأتي في ما إذا علمنا علماً إجمالياً وليس قامت الإمارة، في مواردالعلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين، نفس هذا الكلام ايضاً يقال، علمنا إجمالاً بنجاسة أحد الإناءين، أيضاً يمكن أن يستشكل بهذا الإشكال، أنّ هذا العلم ينجّز ماذا؟ هل ينجّز أحد الطرفين بخصوصه ؟ هذا ترجيح بلا مرجّح، وإن قيل أنّه ينجّز الفرد المردد ؟ الفرد المردد لا وجود له، وإن قيل أنّه ينجّز الجامع، فهذا يعني عدم وجوب الموافقة القطعية؛ بل يثبت التخيير وجواز ترك أحد الطرفين في محل الكلام في المثال الذي نتكلّم عنه، فإذن: ينبغي أن نلتزم في المورد السابق بعدم وجوب الموافقة القطعية، والمفروض أننا فرغنا عن وجوب الموافقة القطعية في موارد العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين، فالإشكال نفسه يرد عليه.
أجاب عن هذا الإشكال: بأنّ العلم الإجمالي في البحث السابق وإن تعلّق بالجامع، لكن حيث أنّ منجّزية العلم عقلية وليست شرعية، أمكن حينئذٍ أن يقال أنّ العلم بالرغم من تعلّقه بالجامع هو ممّا يحكم العقل بكونه منجّزاً للواقع؛ فحينئذٍ تجب الموافقة القطعية؛ لأنّه عندما يكون العلم منجّزاً للجامع، العقل هنا يتدخل ويقول بالرغم من تعلّق العلم بالجامع، هو يكون منجّزاً للواقع، وإذا تنجّز الواقع على المكلّف تجب الموافقة القطعية بلا إشكال؛ لأنّ الواقع تنجّز عليه، فيجب عليه الإتيان بالواقع، وهو لا يحرز الإتيان بالواقع إلاّ إذا أتى بكلا الطرفين، أي إلاّ إذا احتاط؛ لأنّ التنجيز في باب العلم عقلي، فيمكن أن يُدّعى أنّ العلم الإجمالي بالرغم من تعلّقه بالجامع، العقل يحكم بكونه منجّزاً للواقع. هذا في ما تقدّم، في موارد العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين.
وأمّا في محل الكلام، المنجزية ليست عقلية، في محل كلامنا عندنا إمارة قامت على نجاسة أحد الإناءين، لا يوجد عندنا علم، وإنّما يوجد عندنا إمارة، ومنجزية الإمارة ليست عقلية، العقل لا يقول بمنجزية الإمارة، وإنّما استفدناها من الدليل الشرعي؛ فحينئذٍ لا مجال لأن يُدّعى بأنّ العقل يحكم بمنجّزية الإمارة للواقع؛ لأنّ المنجزية ليست عقلية، وإنّما هي شرعية، والمنجّز الشرعي لا ينجّز أكثر من مؤدّى الإمارة، ومّا تشهد عليه البيّنة، والمفروض أنّ مؤدّى الإمارة ومّا تشهد عليه البيّنة هو الجامع، فالمنجزية الشرعية تثبت للجامع ولا مجال لدعوى أنّ العقل يحكم أنّه بالرغم من تعلّق الإمارة بالجامع؛ فحينئذٍ يتنجز الواقع على المكلّف حتّى تجب الموافقة القطعية، ففرّق بينهما على هذا الأساس.
هذا الكلام فيما يرتبط برأي صاحب الكفاية (قدّس سرّه)، والرأي الذي يُفسّر الحكم الظاهري بالتنجيز والتعذير، يمكن أن يقال فيه أنّ دليل حجّية الإمارة ينجّز الجامع، والمشكلة في هذا أنّه لا ينتج وجوب الموافقة القطعية؛ لأنّ تنجيز الجامع يُكتفى فيه بالإتيان بأحد الطرفين لتحقق الجامع في ضمن الفرد، فيكفي الإتيان بأحد الطرفين ويجوز ارتكاب الطرف الآخر، لكن يمكن أن يقال بسريان التنجيز من الجامع الذي هو مؤدّى الإمارة، ونحن فارغين عن أنّ الإمارة تنجّز الجامع؛ لقيام الدليل على حجّية الإمارة، ومعنى حجّية الإمارة أنّها تنجّز مفادها، ومفاد الإمارة بحسب الفرض هو الجامع.
يمكن أن يقال: أنّ هذا التنجيز الثابت للإمارة يسري إلى الواقع استناداً إلى نفس البرهان الذي استُدل به على السراية في موارد العلم الإجمالي في البحث السابق، نفس البرهان الذي استُدل به على سراية التنجيز من الجامع إلى الواقع، نفس هذا البرهان يمكن الاستدلال به في محل الكلام، وبهذا يثبت التنجيز للواقع، فتجب الموافقة القطعية. وذلك البرهان تقدّم سابقاً وذكره المحقق العراقي (قدّس سرّه)، وحاصله: العنوان المعلوم بالإجمال فيما تقدّم ــــــــــ كلامنا في ما تقدّم نريد أن نقول أنّ البرهان الذي يثبت به السراية هناك بنفسه يجري في محل الكلام ـــــــــــ له واقع محفوظ بنظر القاطع، وإن كان مردداً عنده بين طرفين، لكن بالرغم من هذا له واقع، وذكر أنّ هذا الجامع في موارد العلم الإجمالي يختلف عن الجامع الذي يتعلّق به التكليف، متعلّقات التكليف قد يكون يتعلّق بالجامع، لكن الجامع الذي يتعلّق به التكليف غير الجامع في موارد العلم الإجمالي، وذلك لأنّ الجامع الذي يتعلّق به التكليف هو عبارة عن الطبيعي قبل الانطباق لا بوصف تعيّنه ووجوده في الخارج، الطبيعي الذي لم يُفرغ عن تعيّنه وتشخّصه في الخارج.
وبعبارةٍ أخرى: الجامع الذي يتعلّق به التكليف هو الطبيعي قبل فرض وجوده وتحققه في الخارج، ويُطلب من المكلّف إيجاده وتحقيقه في الخارج. إذن: الجامع في باب التكاليف يختلف عن الجامع في محل الكلام، الجامع في محل الكلام عبارة عن الجامع المتحقق في الخارج المنطبق على شيءٍ ما، التردد بنظر القاطع والعالم بالإجمال إنّما هو في ما ينطبق عليه هذا الجامع، هل ينطبق على هذا الفرد، أو لا ينطبق على هذا الفرد ؟ وإلاّ أصل الانطباق، اصل الوجود في الخارج مفروغ عنه بنظر القاطع، وبهذا يختلف الجامع في موارد العلم الإجمالي عن الجامع الذي يتعلّق به التكليف بهذا الفرق، وهو أنّ الجامع في محل الكلام يُنظر إليه كأنّه مفروغ عن تحققه وعن وجوده في الخارج. فإذا فرضنا أنّ الجامع في موارد العلم الإجمالي كان جامعاً يُنظر إليه على أنّه أمر متحقق ومنطبق في الخارج ومتشخّص؛ حينئذٍ يمكن دعوى أنّ هذا الجامع المنظور إليه بهذه النظرة، الذي فُرغ عن تشخّصه ووجوده في الخارج يكون هو المنجَّز، هذا الجامع المفروغ عن تحققه في الخارج يتنجّز على المكلّف، هذا هو عبارة عن تنجّز الواقع على المكلّف، فكم فرق بين هذا الجامع وبين الجامع الذي يتعلّق به التكليف، الجامع الذي يتعلّق به التكليف يخيّر المكلّف، أنت تختار في تطبيق هذا الطبيعي الذي أُمر به على أي فردٍ من أفراده، لا مجال لتوهّم الاحتياط حينئذٍ؛ لأنّ التكليف تعلّق بالجامع، والجامع هناك هو الطبيعي لا الطبيعي الذي يُنظر إليه على أنّه قد فُرغ عن تحققّه وتشخّصه حتّى يكون المكلّف به هو الطبيعي الذي فُرض تشخّصه في الخارج، لا ليس هكذا، هو الطبيعي لا بهذا الوصف، لا بهذا العنوان. يعني يُطلب من المكلّف إيجاد هذا الطبيعي في الخارج، ومن الواضح أنّ الطبيعي كما يتحقق في هذا الفرد يتحقق في هذا الفرد، فيكفي في الامتثال الإتيان بأحد الأفراد، فيثبت التخيير.
وأمّا في العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين، أو وجوب أحدى الصلاتين، في هذا المورد، المعلوم بالإجمال بنظر القاطع مفروغ عن تعيّنه وتشخّصه، وإن كان هو يتردد في أنّه هل هو ثابت في هذا الطرف، أو هو ثابت في ذاك الطرف ؟ هذا شيء لا يعلمه، لكنّه فارغ عن تشخّصه وتعيّنه، هذا الجامع بهذا الوصف إذا تنجّز؛ حينئذٍ يكون هذا التنجيز سارياً إلى الواقع، فيتنجّز الواقع، وإذا تنجّز الواقع تجب الموافقة القطعية.
أقول: هذا البرهان الذي يجري في موارد العلم الإجمالي بنفسه يمكن تطبيقه في محل الكلام، فيقال بأنّ الإمارة تشهد بالجامع بالنحو الثاني وليس بالجامع كما هو الحال في الجامع الذي يتعلّق به التكليف، الإمارة تشهد بالجامع المفروغ عن تشخصه وتعيّنه في الخارج، غاية الأمر أنّها لا تعلم بأنّ ما ينطبق عليه هل هو هذا الفرد، أو ذاك الفرد، وإلاّ أصل أنّ الجامع مفروغ عن تحققه وتشخّصه هذا أمر موجود حتّى في باب الإمارة.
بعبارة أخرى: أنّ الإمارة تشهد بنجاسة متحققة منطبقة في الخارج، لكن غاية الأمر أنّ هذه النجاسة التي يعلم بها والموجودة والمتحققة في الخارج هل هي في هذا الإناء، أو في هذا الإناء؟ هذا معناه أنّ ما تشهد به الإمارة هو الجامع بهذا المعنى وهذا يوجب سراية التنجيز من الجامع الذي تشهد به الإمارة إلى الواقع؛ وحينئذٍ يمكن أن يُستدل بذلك على وجوب الموافقة القطعية في محل الكلام.
هناك برهان آخر يذكره المحقق العراقي (قدّس سرّه) أيضاً لإثبات سراية التنجيز من الجامع إلى الواقع في محل الكلام وهو أساساً نحن نقول يكفي في وجوب الموافقة القطعية مجرّد تنجيز الجامع حتّى إذا لم نقل بسراية التنجيز من الجامع إلى الواقع، نكتفي بتنجيز الجامع، باعتبار أننا بعد أن نفترض تنجيز الجامع بالإمارة، العقل يحكم بلزوم تحصيل الجزم بفراغ الذمة عمّا اشتغلت به، وعن ما تنجّز عليه، العقل يحكم بلزوم تفريغ الذمة من ذلك، ومن الواضح أنّه لا يمكن الجزم بتفريغ الذمّة ممّا اشتغلت به ودخل في العهدة بواسطة الإمارة إلاّ بالإتيان بكلا الطرفين؛ لأنّ المكلّف لو اقتصر على أحد الطرفين هو لا يعلم بفراغ ذمته ممّا اشتغلت به وممّا تنجّز عليه؛ لأنّ المفروض أنّنا سلّمنا أنّ ما يتنجّز بالإمارة هو الجامع، لكن الجامع تنجّز على المكلّف، دخل الجامع في عهدته، فلابدّ أن يقطع بفراغ ذمّته ممّا اشتغلت ولا يقين بفراغ الذمّة إلاّ بالإتيان بكلا الطرفين، يعني ترك كلا الطرفين في المثال. وأمّا إذا ترك أحد الطرفين وارتكب الطرف الآخر لا يقين عنده بفراغ الذمّة ممّا تنجّزت به. هذا وجه آخر يذكره المحقق العراقي(قدّس سرّه) غير الوجه الأوّل الذي هو عبارة عن سراية التنجيز من الجامع إلى الواقع لإثبات وجوب الموافقة القطعية، فعلى كل حال لا ننتهي إلى نتيجة، أنّه لو قلنا أنّ الحكم الظاهري معناه التنجيز والتعذير فهذا لا يؤدّي إلى وجوب الموافقة القطعية.
ثمّ ذكر (قدّس سرّه): أنّ الإشكال أيضاً يرد على تفسير الحكم الظاهري بالتفسير الذي يُقال أنّه كان معروف سابقاً والذي هو عبارة عن جعل الحكم المماثل، الحكم الظاهري هو عبارة عن جعل حكمٍ مماثلٍ لمؤدّى الإمارة، أي أنّ الشارع في موارد الإمارات يجعل حكماً مماثلاً لمؤدّى الإمارة، فإن كان مؤدّى الإمارة هو الجامع، فالشارع يحكم بالجامع حكماً ظاهرياً، هذا الحكم الظاهري المماثل لمؤدّى الإمارة هو الذي يُسمّى بـــــ(مسلك جعل الحكم المماثل). نعم هذا المسلك في جعل الحكم المماثل يشترط احتمال المطابقة للواقع، احتمال أن يكون هذا الحكم الظاهري المجعول المماثل لمؤدّى الإمارة مطابقاً للواقع، أمّا في حال عدم احتمال مطابقته للواقع لا يمكن أن نلتزم بجعله.
بناءً على هذا المسلك: يذكر نفس الإشكال السابق، وهو أنّ هذا الحكم المماثل يُجعل في ذاك الطرف، أو في هذا الطرف ؟ هذه النجاسة الظاهرية التي تُجعل من قِبل الشارع، تُجعل في هذا الطرف، أو تُجعل في هذا الطرف ؟ وهذا إشكاله واضح، وهو أنّ هذا غير مماثل للمؤدّى؛ لأنّ المفروض أنّ مؤدّى الإمارة هو الجامع لا هذا الطرف بعينه ولا هذا الطرف بعينه، الفرد بعينه ليس هو مؤدّى الإمارة، والمفروض أنّ هذا المسلك يقول أنّ الشارع يجعل حكماً مماثلاً للمؤدّى، جعل النجاسة في هذا الطرف بعينه ليس مماثلاً للمؤدّى، فإذن لابدّ من استبعاد جعل الحكم الظاهري في هذا الطرف بعينه وفي هذا الطرف بعينه. الاحتمال الآخر هو أنّ الحكم الظاهري أنّه يجعل حكماً بالجامع، الحكم الظاهري في المقام هو الحكم بالجامع، وهذا مماثل للمؤدّى بلا إشكال. ومشكلة هذا الاحتمال هي نفس المشكلة السابقة، وهي أنّ هذا ينجّز الجامع على المكلّف، ما يجب على المكلّف هو أن يمتثل هذا الحكم الظاهري، وهذا الحكم الظاهري متعلّق بالجامع، ويكفي في امتثال الجامع الإتيان بـأحد فرديه، فلا تجب الموافقة القطعية؛ بل يتخيّر المكلّف في تطبيق الجامع على هذا الفرد، أو تطبيقه على الفرد الآخر؛ فحينئذٍ لا تجب الموافقة القطعية، فهذا الإشكال يرِد بناءً على تفسير الأحكام الظاهرية بجعل الحكم المماثل لمؤدّى الإمارة.
نفس الملاحظة السابق تأتي على هذا الإشكال أيضاً، وهي أنّ مؤدّى الإمارة هو الجامع، مسلك جعل الحكم المماثل يقول أنّ الشارع يحكم بالجامع حكماً ظاهرياً مماثلاً لمؤدّى الإمارة، إذا حكم الشارع حكماً ظاهرياً بالجامع، فهذا معناه أنّ الجامع يتنجّز على المكلّف، يعني يجب على المكلّف امتثال ما حكم به الشارع حكماً ظاهرياً، أي امتثال الجامع، فيرِد الكلام السابق بأنّ تنجيز الجامع يسري من الجامع إلى الواقع، بالبيان المتقدّم، بنفس البرهان الذي ذُكر لسراية التنجيز من الجامع في موارد العلم الإجمالي إلى الواقع، بنفسه يأتي في موارد قيام الإمارة حتّى بناءً على هذا المسلك الذي يقول بجعل الحكم المماثل؛ لأنه بالنتيجة يتنجّز الجامع على المكلّف، لكن هذا الجامع ليس هو الجامع على النحو الموجود في متعلّقات التكاليف، في متعلّق التكليف الجامع هو عبارة عن الطبيعة التي لا يُنظر إليها على أنّها مفروغ عن تشخّصها وتعيّنها في الخارج، هو ليس هكذا، وإنّما الإمارة تشهد على الجامع باعتباره متحققاً في الخارج، الجامع الذي هو منطبق في الخارج، وإن كان لا يُعلم على أيٍّ من الطرفين قد انطبق، هذا يجهله المكلّف، لكن بالنتيجة هذا الجامع الذي يُنظر إليه على أنّه مفروغ عن تحققه في الخارج، هذه النكتة توجب سراية التنجيز من الجامع إلى الواقع. الوجه الثاني الذي يذكره أيضاً المحقق العراقي (قدّس سرّه) إذا تمّ، أيضاً يسري في المقام؛ لأنّه إذا تنجّز الجامع، ولو من دون افتراض السراية، لا يسري التنجيز من الجامع إلى الواقع، هذا الجامع الذي تنجّز لابدّ من الجزم بالفراغ عن عهدة هذا التكليف الذي هو التكليف بالجامع، ومن الواضح أنّه لا جزم إلاّ عن طريق الاحتياط والموافقة القطعية، فتجب الموافقة القطعية هنا أيضاً.
كان الكلام في العلم الإجمالي في الأحكام الظاهريةبعد الفراغ عن العلم الإجمالي في الأحكام الواقعية كما إذا قامت البيّنة على نجاسة أحد الإناءين. تكلّمنا عن ذلك في ما تقدّم، وانتهى الكلام إلى ما ذكره السيد الشهيد(قدّس سرّه)، حيث أنّه ذكر بأننّا تارةً نفترض أنّ العلم الإجمالي يكون في طول البيّنة، بأن يُفترض قيام البيّنة على نجاسة إناءٍ بعينه، ثمّ يترددّ عندنا، فيكون العلم الإجمالي في طول البيّنة. في هذه الصورة ذكر أنّه لا ينبغي الإشكال أنّ حاله حال العلم الإجمالي بالحكم الواقعي من حيث تنجيز هذا العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية ولوجوب الموافقة القطعية، وذكرنا ما يتعلّق بهذا الأمر وهذا هو الصحيح.
وأمّا إذا فرضنا قيام البيّنة على نجاسة أحد الإناءين، من البداية مفاد البيّنة هو نجاسة أحد الإناءين، لا أنّ مفادها من البداية هو نجاسة إناءٍ بعينه ثمّ يتردد عندنا، وإنّما هي من البداية مفادها نجاسة أحد الإناءين بحيث لو فرضنا أننا سألنا البيّنة، هي لا تعلم أيّ الإناءين هو النجس، هي لا تشهد أكثر من نجاسة أحد الإناءين. هنا ذكر أنّ وجوب الموافقة القطعية ليس بذاك الوضوح كما هو الحال في الفرض الأوّل، وجوب الموافقة القطعية في الفرض الأوّل، وهو ما إذا كان العلم الإجمالي في طول البينّة واضح ولا ينبغي الإشكال فيه، لكن في الفرض الثاني الأمر ليس هكذا. نعم قال أنّه يكون واضحاً ولابدّ من الالتزام به بناءً على مبانينا في الحكم الظاهري أيضاً يكون الأمر واضحاً، فتجب الموافقة القطعية كما تحرم المخالفة القطعية. [1]
وأمّا بناءً على المباني الأخرى في تفسير الحكم الظاهري، قال: قد يُستشكل في تنجيز مثل هذا العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية، ثمّ ذكر أمثلة، قال: مثلاً رأي صاحب الكفاية (قدّس سرّه) الذي يُفسّر الحكم الظاهري، بأنّه عبارة عن التنجيز والتعذير، يقول: بناءً على هذا الرأي قد يُستشكل في وجوب الموافقة القطعية في محل الكلام؛ وذلك بأن يقال: أنّ دليل حجّية البيّنة ينجّز ماذا ؟ الشارع بجعل الحكم الظاهري هو يجعل تنجيز ويدلّ على هذا التنجيز دليل حجّية الإمارة؛ حينئذٍ نسأل : دليل حجّية الإمارة ينجّز ماذا ؟ هل ينجّز هذا الطرف بخصوصه، أو ذاك الطرف بخصوصه ؟ أو ينجّز الجامع بينهما ؟ إن قيل أنّه ينجّز هذا الطرف بخصوصه، فهذا ترجيح بلا مرجّح، أو أنّه ينجّز ذاك الطرف بخصوصه، أيضاً هو ترجيح بلا مرجّح، فلا يمكن الالتزام بأنّ دليل حجّية الإمارة الذي يُفترض أنّ نسبة كلا الطرفين إليه نسبة واحدة، أنّه يختص بأحد الطرفين دون الآخر، هذا ترجيح بلا مرجّح لا يمكن أن يُلتزم به.
إن قيل: أنّ دليل حجّية الإمارة ينجّز أحدهما المرددّ.
جوابه: أن الفرد المردد لا وجود له أصلاً حتّى يكون دليل حجّية الإمارة منجّزاً للفرد المردد.
وإن قيل: أنّه ينجّز الجامع بينهما، أيّ أنّ الإمارة شهدت على نجاسة أحد الأمرين، التنجيز الذي يُجعل من قِبل الشارع كحكم ظاهري هو عبارة عن تنجيز الجامع بينهما.
والإشكال فيه، هو: أنّ هذا لا يقتضي وجوب الموافقة القطعية؛ بل يقتضي التخيير وإمكان الاكتفاء بأحد الطرفين؛ لأنّ الجامع يتحقق في ضمن أحد الطرفين، فإذا تنجّز الجامع، يعني وجب عليه ترك أحد الإناءين، هذا يكفي فيه ترك واحدٍ منهما، وهذا يعني التخيير، يعني بعبارةٍ أخرى: عدم وجوب الموافقة القطعية. فإذا ترك أحد الإناءين يجوز له شرب الآخر، تمسّكاً بقاعدة قبح العقاب بلا بيان؛ لأنّ ما تنجّز عليه هو الجامع، من قبيل أن يجب عليه الإتيان بإحدى الصلاتين، ولا يجب عليه الجمع بينهما، ما تنجّز عليه في المقام هو أحد الإناءين، فيجب عليه ترك أحدهما، فإذا ترك أحدهما؛ حينئذٍ لا يجب عليه شيء؛ وحينئذٍ يمكنه أن يشرب الطرف الآخر اعتماداً على قاعدة قبح العقاب بلا بيان، فكيف يمكن إثبات وجوب الموافقة القطعية في محل الكلام بناءً على هذا التفسير للحكم الظاهري؛ لأنّ الحكم الظاهري عبارة عن جعل التنجيز والتعذير. السؤال هنا هو: أنّ الشارع يجعل التنجيز لمن ؟ وما الذي ينجّزه دليل حجّية الإمارة ؟ هل ينجّز أحد الطرفين بخصوصه ؟ ترجيح بلا مرجّح، والمردد لا وجود له، والجامع لا يقتضي وجوب الموافقة القطعية.
أشكل (قدّس سرّه) على نفسه: بأنّ هذا الكلام نفسه يأتي في ما إذا علمنا علماً إجمالياً وليس قامت الإمارة، في مواردالعلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين، نفس هذا الكلام ايضاً يقال، علمنا إجمالاً بنجاسة أحد الإناءين، أيضاً يمكن أن يستشكل بهذا الإشكال، أنّ هذا العلم ينجّز ماذا؟ هل ينجّز أحد الطرفين بخصوصه ؟ هذا ترجيح بلا مرجّح، وإن قيل أنّه ينجّز الفرد المردد ؟ الفرد المردد لا وجود له، وإن قيل أنّه ينجّز الجامع، فهذا يعني عدم وجوب الموافقة القطعية؛ بل يثبت التخيير وجواز ترك أحد الطرفين في محل الكلام في المثال الذي نتكلّم عنه، فإذن: ينبغي أن نلتزم في المورد السابق بعدم وجوب الموافقة القطعية، والمفروض أننا فرغنا عن وجوب الموافقة القطعية في موارد العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين، فالإشكال نفسه يرد عليه.
أجاب عن هذا الإشكال: بأنّ العلم الإجمالي في البحث السابق وإن تعلّق بالجامع، لكن حيث أنّ منجّزية العلم عقلية وليست شرعية، أمكن حينئذٍ أن يقال أنّ العلم بالرغم من تعلّقه بالجامع هو ممّا يحكم العقل بكونه منجّزاً للواقع؛ فحينئذٍ تجب الموافقة القطعية؛ لأنّه عندما يكون العلم منجّزاً للجامع، العقل هنا يتدخل ويقول بالرغم من تعلّق العلم بالجامع، هو يكون منجّزاً للواقع، وإذا تنجّز الواقع على المكلّف تجب الموافقة القطعية بلا إشكال؛ لأنّ الواقع تنجّز عليه، فيجب عليه الإتيان بالواقع، وهو لا يحرز الإتيان بالواقع إلاّ إذا أتى بكلا الطرفين، أي إلاّ إذا احتاط؛ لأنّ التنجيز في باب العلم عقلي، فيمكن أن يُدّعى أنّ العلم الإجمالي بالرغم من تعلّقه بالجامع، العقل يحكم بكونه منجّزاً للواقع. هذا في ما تقدّم، في موارد العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين.
وأمّا في محل الكلام، المنجزية ليست عقلية، في محل كلامنا عندنا إمارة قامت على نجاسة أحد الإناءين، لا يوجد عندنا علم، وإنّما يوجد عندنا إمارة، ومنجزية الإمارة ليست عقلية، العقل لا يقول بمنجزية الإمارة، وإنّما استفدناها من الدليل الشرعي؛ فحينئذٍ لا مجال لأن يُدّعى بأنّ العقل يحكم بمنجّزية الإمارة للواقع؛ لأنّ المنجزية ليست عقلية، وإنّما هي شرعية، والمنجّز الشرعي لا ينجّز أكثر من مؤدّى الإمارة، ومّا تشهد عليه البيّنة، والمفروض أنّ مؤدّى الإمارة ومّا تشهد عليه البيّنة هو الجامع، فالمنجزية الشرعية تثبت للجامع ولا مجال لدعوى أنّ العقل يحكم أنّه بالرغم من تعلّق الإمارة بالجامع؛ فحينئذٍ يتنجز الواقع على المكلّف حتّى تجب الموافقة القطعية، ففرّق بينهما على هذا الأساس.
هذا الكلام فيما يرتبط برأي صاحب الكفاية (قدّس سرّه)، والرأي الذي يُفسّر الحكم الظاهري بالتنجيز والتعذير، يمكن أن يقال فيه أنّ دليل حجّية الإمارة ينجّز الجامع، والمشكلة في هذا أنّه لا ينتج وجوب الموافقة القطعية؛ لأنّ تنجيز الجامع يُكتفى فيه بالإتيان بأحد الطرفين لتحقق الجامع في ضمن الفرد، فيكفي الإتيان بأحد الطرفين ويجوز ارتكاب الطرف الآخر، لكن يمكن أن يقال بسريان التنجيز من الجامع الذي هو مؤدّى الإمارة، ونحن فارغين عن أنّ الإمارة تنجّز الجامع؛ لقيام الدليل على حجّية الإمارة، ومعنى حجّية الإمارة أنّها تنجّز مفادها، ومفاد الإمارة بحسب الفرض هو الجامع.
يمكن أن يقال: أنّ هذا التنجيز الثابت للإمارة يسري إلى الواقع استناداً إلى نفس البرهان الذي استُدل به على السراية في موارد العلم الإجمالي في البحث السابق، نفس البرهان الذي استُدل به على سراية التنجيز من الجامع إلى الواقع، نفس هذا البرهان يمكن الاستدلال به في محل الكلام، وبهذا يثبت التنجيز للواقع، فتجب الموافقة القطعية. وذلك البرهان تقدّم سابقاً وذكره المحقق العراقي (قدّس سرّه)، وحاصله: العنوان المعلوم بالإجمال فيما تقدّم ــــــــــ كلامنا في ما تقدّم نريد أن نقول أنّ البرهان الذي يثبت به السراية هناك بنفسه يجري في محل الكلام ـــــــــــ له واقع محفوظ بنظر القاطع، وإن كان مردداً عنده بين طرفين، لكن بالرغم من هذا له واقع، وذكر أنّ هذا الجامع في موارد العلم الإجمالي يختلف عن الجامع الذي يتعلّق به التكليف، متعلّقات التكليف قد يكون يتعلّق بالجامع، لكن الجامع الذي يتعلّق به التكليف غير الجامع في موارد العلم الإجمالي، وذلك لأنّ الجامع الذي يتعلّق به التكليف هو عبارة عن الطبيعي قبل الانطباق لا بوصف تعيّنه ووجوده في الخارج، الطبيعي الذي لم يُفرغ عن تعيّنه وتشخّصه في الخارج.
وبعبارةٍ أخرى: الجامع الذي يتعلّق به التكليف هو الطبيعي قبل فرض وجوده وتحققه في الخارج، ويُطلب من المكلّف إيجاده وتحقيقه في الخارج. إذن: الجامع في باب التكاليف يختلف عن الجامع في محل الكلام، الجامع في محل الكلام عبارة عن الجامع المتحقق في الخارج المنطبق على شيءٍ ما، التردد بنظر القاطع والعالم بالإجمال إنّما هو في ما ينطبق عليه هذا الجامع، هل ينطبق على هذا الفرد، أو لا ينطبق على هذا الفرد ؟ وإلاّ أصل الانطباق، اصل الوجود في الخارج مفروغ عنه بنظر القاطع، وبهذا يختلف الجامع في موارد العلم الإجمالي عن الجامع الذي يتعلّق به التكليف بهذا الفرق، وهو أنّ الجامع في محل الكلام يُنظر إليه كأنّه مفروغ عن تحققه وعن وجوده في الخارج. فإذا فرضنا أنّ الجامع في موارد العلم الإجمالي كان جامعاً يُنظر إليه على أنّه أمر متحقق ومنطبق في الخارج ومتشخّص؛ حينئذٍ يمكن دعوى أنّ هذا الجامع المنظور إليه بهذه النظرة، الذي فُرغ عن تشخّصه ووجوده في الخارج يكون هو المنجَّز، هذا الجامع المفروغ عن تحققه في الخارج يتنجّز على المكلّف، هذا هو عبارة عن تنجّز الواقع على المكلّف، فكم فرق بين هذا الجامع وبين الجامع الذي يتعلّق به التكليف، الجامع الذي يتعلّق به التكليف يخيّر المكلّف، أنت تختار في تطبيق هذا الطبيعي الذي أُمر به على أي فردٍ من أفراده، لا مجال لتوهّم الاحتياط حينئذٍ؛ لأنّ التكليف تعلّق بالجامع، والجامع هناك هو الطبيعي لا الطبيعي الذي يُنظر إليه على أنّه قد فُرغ عن تحققّه وتشخّصه حتّى يكون المكلّف به هو الطبيعي الذي فُرض تشخّصه في الخارج، لا ليس هكذا، هو الطبيعي لا بهذا الوصف، لا بهذا العنوان. يعني يُطلب من المكلّف إيجاد هذا الطبيعي في الخارج، ومن الواضح أنّ الطبيعي كما يتحقق في هذا الفرد يتحقق في هذا الفرد، فيكفي في الامتثال الإتيان بأحد الأفراد، فيثبت التخيير.
وأمّا في العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين، أو وجوب أحدى الصلاتين، في هذا المورد، المعلوم بالإجمال بنظر القاطع مفروغ عن تعيّنه وتشخّصه، وإن كان هو يتردد في أنّه هل هو ثابت في هذا الطرف، أو هو ثابت في ذاك الطرف ؟ هذا شيء لا يعلمه، لكنّه فارغ عن تشخّصه وتعيّنه، هذا الجامع بهذا الوصف إذا تنجّز؛ حينئذٍ يكون هذا التنجيز سارياً إلى الواقع، فيتنجّز الواقع، وإذا تنجّز الواقع تجب الموافقة القطعية.
أقول: هذا البرهان الذي يجري في موارد العلم الإجمالي بنفسه يمكن تطبيقه في محل الكلام، فيقال بأنّ الإمارة تشهد بالجامع بالنحو الثاني وليس بالجامع كما هو الحال في الجامع الذي يتعلّق به التكليف، الإمارة تشهد بالجامع المفروغ عن تشخصه وتعيّنه في الخارج، غاية الأمر أنّها لا تعلم بأنّ ما ينطبق عليه هل هو هذا الفرد، أو ذاك الفرد، وإلاّ أصل أنّ الجامع مفروغ عن تحققه وتشخّصه هذا أمر موجود حتّى في باب الإمارة.
بعبارة أخرى: أنّ الإمارة تشهد بنجاسة متحققة منطبقة في الخارج، لكن غاية الأمر أنّ هذه النجاسة التي يعلم بها والموجودة والمتحققة في الخارج هل هي في هذا الإناء، أو في هذا الإناء؟ هذا معناه أنّ ما تشهد به الإمارة هو الجامع بهذا المعنى وهذا يوجب سراية التنجيز من الجامع الذي تشهد به الإمارة إلى الواقع؛ وحينئذٍ يمكن أن يُستدل بذلك على وجوب الموافقة القطعية في محل الكلام.
هناك برهان آخر يذكره المحقق العراقي (قدّس سرّه) أيضاً لإثبات سراية التنجيز من الجامع إلى الواقع في محل الكلام وهو أساساً نحن نقول يكفي في وجوب الموافقة القطعية مجرّد تنجيز الجامع حتّى إذا لم نقل بسراية التنجيز من الجامع إلى الواقع، نكتفي بتنجيز الجامع، باعتبار أننا بعد أن نفترض تنجيز الجامع بالإمارة، العقل يحكم بلزوم تحصيل الجزم بفراغ الذمة عمّا اشتغلت به، وعن ما تنجّز عليه، العقل يحكم بلزوم تفريغ الذمة من ذلك، ومن الواضح أنّه لا يمكن الجزم بتفريغ الذمّة ممّا اشتغلت به ودخل في العهدة بواسطة الإمارة إلاّ بالإتيان بكلا الطرفين؛ لأنّ المكلّف لو اقتصر على أحد الطرفين هو لا يعلم بفراغ ذمته ممّا اشتغلت به وممّا تنجّز عليه؛ لأنّ المفروض أنّنا سلّمنا أنّ ما يتنجّز بالإمارة هو الجامع، لكن الجامع تنجّز على المكلّف، دخل الجامع في عهدته، فلابدّ أن يقطع بفراغ ذمّته ممّا اشتغلت ولا يقين بفراغ الذمّة إلاّ بالإتيان بكلا الطرفين، يعني ترك كلا الطرفين في المثال. وأمّا إذا ترك أحد الطرفين وارتكب الطرف الآخر لا يقين عنده بفراغ الذمّة ممّا تنجّزت به. هذا وجه آخر يذكره المحقق العراقي(قدّس سرّه) غير الوجه الأوّل الذي هو عبارة عن سراية التنجيز من الجامع إلى الواقع لإثبات وجوب الموافقة القطعية، فعلى كل حال لا ننتهي إلى نتيجة، أنّه لو قلنا أنّ الحكم الظاهري معناه التنجيز والتعذير فهذا لا يؤدّي إلى وجوب الموافقة القطعية.
ثمّ ذكر (قدّس سرّه): أنّ الإشكال أيضاً يرد على تفسير الحكم الظاهري بالتفسير الذي يُقال أنّه كان معروف سابقاً والذي هو عبارة عن جعل الحكم المماثل، الحكم الظاهري هو عبارة عن جعل حكمٍ مماثلٍ لمؤدّى الإمارة، أي أنّ الشارع في موارد الإمارات يجعل حكماً مماثلاً لمؤدّى الإمارة، فإن كان مؤدّى الإمارة هو الجامع، فالشارع يحكم بالجامع حكماً ظاهرياً، هذا الحكم الظاهري المماثل لمؤدّى الإمارة هو الذي يُسمّى بـــــ(مسلك جعل الحكم المماثل). نعم هذا المسلك في جعل الحكم المماثل يشترط احتمال المطابقة للواقع، احتمال أن يكون هذا الحكم الظاهري المجعول المماثل لمؤدّى الإمارة مطابقاً للواقع، أمّا في حال عدم احتمال مطابقته للواقع لا يمكن أن نلتزم بجعله.
بناءً على هذا المسلك: يذكر نفس الإشكال السابق، وهو أنّ هذا الحكم المماثل يُجعل في ذاك الطرف، أو في هذا الطرف ؟ هذه النجاسة الظاهرية التي تُجعل من قِبل الشارع، تُجعل في هذا الطرف، أو تُجعل في هذا الطرف ؟ وهذا إشكاله واضح، وهو أنّ هذا غير مماثل للمؤدّى؛ لأنّ المفروض أنّ مؤدّى الإمارة هو الجامع لا هذا الطرف بعينه ولا هذا الطرف بعينه، الفرد بعينه ليس هو مؤدّى الإمارة، والمفروض أنّ هذا المسلك يقول أنّ الشارع يجعل حكماً مماثلاً للمؤدّى، جعل النجاسة في هذا الطرف بعينه ليس مماثلاً للمؤدّى، فإذن لابدّ من استبعاد جعل الحكم الظاهري في هذا الطرف بعينه وفي هذا الطرف بعينه. الاحتمال الآخر هو أنّ الحكم الظاهري أنّه يجعل حكماً بالجامع، الحكم الظاهري في المقام هو الحكم بالجامع، وهذا مماثل للمؤدّى بلا إشكال. ومشكلة هذا الاحتمال هي نفس المشكلة السابقة، وهي أنّ هذا ينجّز الجامع على المكلّف، ما يجب على المكلّف هو أن يمتثل هذا الحكم الظاهري، وهذا الحكم الظاهري متعلّق بالجامع، ويكفي في امتثال الجامع الإتيان بـأحد فرديه، فلا تجب الموافقة القطعية؛ بل يتخيّر المكلّف في تطبيق الجامع على هذا الفرد، أو تطبيقه على الفرد الآخر؛ فحينئذٍ لا تجب الموافقة القطعية، فهذا الإشكال يرِد بناءً على تفسير الأحكام الظاهرية بجعل الحكم المماثل لمؤدّى الإمارة.
نفس الملاحظة السابق تأتي على هذا الإشكال أيضاً، وهي أنّ مؤدّى الإمارة هو الجامع، مسلك جعل الحكم المماثل يقول أنّ الشارع يحكم بالجامع حكماً ظاهرياً مماثلاً لمؤدّى الإمارة، إذا حكم الشارع حكماً ظاهرياً بالجامع، فهذا معناه أنّ الجامع يتنجّز على المكلّف، يعني يجب على المكلّف امتثال ما حكم به الشارع حكماً ظاهرياً، أي امتثال الجامع، فيرِد الكلام السابق بأنّ تنجيز الجامع يسري من الجامع إلى الواقع، بالبيان المتقدّم، بنفس البرهان الذي ذُكر لسراية التنجيز من الجامع في موارد العلم الإجمالي إلى الواقع، بنفسه يأتي في موارد قيام الإمارة حتّى بناءً على هذا المسلك الذي يقول بجعل الحكم المماثل؛ لأنه بالنتيجة يتنجّز الجامع على المكلّف، لكن هذا الجامع ليس هو الجامع على النحو الموجود في متعلّقات التكاليف، في متعلّق التكليف الجامع هو عبارة عن الطبيعة التي لا يُنظر إليها على أنّها مفروغ عن تشخّصها وتعيّنها في الخارج، هو ليس هكذا، وإنّما الإمارة تشهد على الجامع باعتباره متحققاً في الخارج، الجامع الذي هو منطبق في الخارج، وإن كان لا يُعلم على أيٍّ من الطرفين قد انطبق، هذا يجهله المكلّف، لكن بالنتيجة هذا الجامع الذي يُنظر إليه على أنّه مفروغ عن تحققه في الخارج، هذه النكتة توجب سراية التنجيز من الجامع إلى الواقع. الوجه الثاني الذي يذكره أيضاً المحقق العراقي (قدّس سرّه) إذا تمّ، أيضاً يسري في المقام؛ لأنّه إذا تنجّز الجامع، ولو من دون افتراض السراية، لا يسري التنجيز من الجامع إلى الواقع، هذا الجامع الذي تنجّز لابدّ من الجزم بالفراغ عن عهدة هذا التكليف الذي هو التكليف بالجامع، ومن الواضح أنّه لا جزم إلاّ عن طريق الاحتياط والموافقة القطعية، فتجب الموافقة القطعية هنا أيضاً.